رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ساحر العرائس يحكى: ٤

صلاح السقا: أنا وعبدالناصر وعلى الراعى

كل هذا الوهج الذى صاحب ميلاد مسرح العرائس انطفأ، لكنه سيعود مجددًا مع ظهور الفنان محمود شكوكو الذى سيصنع تجربة كبيرة، بعيدًا عن وزارة الإرشاد، وسيصبح صلاح السقا مديرًا لفرقته، وستظهر مفاجآت عن فتحى قورة وعبدالغنى السيد، وسيكتشف والد الفنان صلاح السقا بعد كل هذه السنوات أن ابنه لم يدرس القانون وترك المحاماة ليعمل ممثلًا!

ليالى شكوكو

بعد النجاح الكبير الذى تحقق مع عرض الشاطر حسن، وبعد الأحلام والأمنيات والطموحات العريضة، انفض المولد، ولم تعد الكوادر السياسية تهتم بغرس القيم لدى الأطفال بقدر الاهتمام بتحفيظهم أفكارًا بعينها. 

بهذه العبارات القصيرة والمختصرة وشديدة الذكاء يشير صلاح السقا إلى فشل التجربة مبكرًا لأسباب تتعلق بالرقابة على الأعمال، وفرض أعمال بعينها، لتقديمها على مسرح العرائس، المهم أن التجربة اختنقت بين أروقة الوزارة، وانطفأ الوهج الذى صاحب ظهورها، وبدأ الجمهور يبحث عن فن العرائس، فلا يجد البهجة التى حملها عرض الشاطر حسن الذى لم يتم تقديمه مرة أخرى، وتسرب الإحباط إلى المجموعة التى أقامت هذا الفن على أكتافها، ولم يتبق سوى مجموعة قليلة من عشاق هذا الفن، لأن الكثير من الذين وقع عليهم الاختيار سابقًا تساقطوا بسبب الإحباط أولًا، ونظرًا لصعوبة التدريبات الشاقة جسديًا وذهنيًا، إذ كيف يقاوم الجسد الإجهاد البدنى بجانب العقلى وهو يقدم عرضًا لمدة ثلاث ساعات وظهره مثنى على العروسة وسور المسرح الأعلى، كيف يظل الفنان فى حالة سيطرة كاملة على العروسة، وظهره ووسطه ووجه مثبت إلى أسفل من أعلى، وعيناه على قطعتين من الخشب مشبوكة بجميع خيوط الدمية، وغادر المسرح أكثر من لاعب.

فى هذا الوقت استطاع السقا إقناع فنان الشعب المنولوجست خفيف الظل محمود شكوكو بتكوين فرقة لمسرح العرائس، واستأجر الرجل أحد الكازينوهات فى حديقة مسرح الأزبكية لتكون مسرحًا للعروض، وبالفعل وبمشاركة عزت الجاهلى وفتحى قورة بدأ مسرح شكوكو يحقق النجاح، ويثير التساؤلات داخل الوزارة عن العاملين معه، وهددوهم بقطع الراتب «الخمسة جنيهات»، ولكن الأستاذ محمود النحاس ذكرهم بندرة من يتوفر فيهم شروط لاعب العروسة، لذا قرر عبدالمنعم الصاوى مستشار وزير الثقافة ثروت عكاشة رفع المكافأة ١٥ جنيهًا، وتغاضى عن احترافنا فى مسرح الفنان شكوكو، واعتبرها استمرارًا لفترة التدريب، وحتى لا ننسى ما تعلمناه، وحدث أن أغلق شكوكو مسرحه لأسباب غير معروفة، فقرر صلاح جاهين وعلى إسماعيل إقناع المطرب عبدالغنى السيد بإعادة تبنى عرض مسرحية الشاطر حسن لتقديمها على مسرح الموسيقى العربية، فكان هذا من أنجح المواسم، وأصبحت المسرحية ثلاثة فصول، فقالت الوزارة لن ندفع الأجور، فدفعها عنهم على إسماعيل، وتكفل بالدعاية والإعلان. فاستمرت العروض كاملة العدد لمدة أربعة أشهر. استعاد فيها عبدالغنى السيد ما صرفه وربح ضعفه، وكذلك على إسماعيل، مما أغرى أحد المتعهدين بتبنى الفرقة، وبالتالى سافرت هذه الفرقة بالمسرحية الكاملة الوحيدة إلى الأقاليم.. بل جاء الصيف فإذا بنا نلف جميع شواطئ العاصمة الثانية، ودمياط ورأس البر، بورسعيد. ثم ذهب بهم إلى محافظات الوجه البحرى، والجماهير تسبقهم إلى مشاهدة هذه العروض، خاصة بعد الدعاية التى تكفل بها عدد من المجلات الفنية والأدبية وصفحات الصحف «الأخبار- الأهرام- الجمهورية».

شكوكو من جديد ومفاجأة عبدالمطلب 

من الواضح أن أمور مسرح العرائس لم تكن مستقرة داخل أروقة الوزارة، ومن الواضح أن المسئولين يختلفون فى درجة الاهتمام بهذا الفن، فما أن تستقر الفرقة وتبدأ العمل حتى تعود مرة أخرى تعانى عدم الاهتمام، فبعد هذا العرض الاستثنائى، وبعد محاولات لسفر الفرقة إلى دمشق لتقديم عروضها هناك، عاد كل شىء إلى الصمت والسكون ليظهر محمود شكوكو من جديد إلى مسرح متروبول، ويطلب من السقا التفرغ التام له، لكن السقا يعتذر عن عدم التفرغ التام، ويواصل العمل مع الوزارة إلى جانب العمل مع شكوكو، ويبدو أن الوزارة انتبهت من جديد لأهمية أعضاء فرقتها، فقررت استدعاء القدامى ومضاعفة عدد اللاعبين، واستقدمت خبيرتين جديدتين هما: أوجينيكبوبوفتيشى، خبيرة الإخراج والتدريب، ثم ينوارا بويونيسكو، خبيرة فى التصميم والتنفيذ للعرائس والديكور، وتم الإعلان عن فرقة أخرى، بل وجعلوا لها مديرًا جديدًا، هو أحد المخرجين السينمائيين «الأستاذ بهاء الدين شرف» الذى لم يسترح صلاح السقا للتعامل معه، لدرجة أنه يصفه بالشخص غير النابه. وبدأ القدامى من الفنانين يتململون ويتفرقون، وعاد البعض إلى عمله الأصلى، وبقى صلاح السقا يجاهد كى يواصل التدريب ويبدأ المشوار مع الخبراء الجدد راضيًا أو مجبرًا، لكنه فجأة وجد ما يتمناه، حيث ظهر شكوكو من جديد وبتجربة جديدة، حيث التقى الفنان محمد محمود شعبان «بابا شارو»، والمطرب أبوالنور محمد عبدالمطلب، والفنانة حورية حسن، واجتمعوا على تطوير فن الأراجوز وخلطه بالمسرح الاستعراضى ومسرح العرائس معًا، وقدم كل هؤلاء المسرحية الثانية فى تاريخ مسرح العرائس وهى «السندباد البلدى»، ولأول مرة حدث مزج بين العروسة والفنان البشرى.. والمسرحية يدور موضوعها عن الفنان الشعبى الذى يهوى القراءة، ويذهب إلى سور الأزبكية لينتقى كتابًا، فتعطيه البائعة فى زى عروسة بعد التحاور كتاب السندباد البحرى. لكنه يحكى لها مغامراته التى تأتى على نسق أكثر شعبية من السندباد البحرى، وحكايات ألف ليلة وليلة. ويذهب إلى بلاد الواق واق، ويقدم حدوتة ظريفة عامرة بالقيم الأخلاقية بطلها محمود شكوكو.

السيد الوالد والكابتن محمود معروف والوفد السورى

كل هذا- والناس فى القرية تظن أن صلاح السقا يمارس المحاماة- ولا يعلم حتى والده وهو رجل معمم أن ابنه أصبح مخرجًا مسرحيًا لفن العرائس، أو إنه عمل مع محمود شكوكو وعبدالغنى السيد. وأنه ومعه ثمانية أشخاص أصبحوا ظاهرة فنية جديدة، فعندما وافقت وزارة الإرشاد على قبول أول دفعة للتدريب قدمت لكل لاعب مبلغ خمسة جنيهات شهرية، لمجرد أن يظل اسمه مسجلًا فى كشف مسرح العرائس، وكان هؤلاء سبعة أشخاص «ألفريد ميخائيل- وفيكتور ميخائيل- إبراهيم رجب- فكرى أمين- إبراهيم سالم- صلاح عبدالحى» وسيدة واحدة فقط هى «نعيمة أمين» بنت المرحوم مصطفى أمين أحد الفنانين القدامى، ثم انضم إليهم عنتر حافظ، وبعض خريجى معهد التمثيل مثل عاطف شعبان ومحمود معروف «الصحفى الآن»، وأصبح فريق الوزارة المكون من تسعة فنانين أكثر من سبعة عشر عضوًا معهم محمود شكوكو. وعرفنا طعم الاحتراف، وتصادف أن قامت الوحدة بين مصر وسوريا فى ١٩٥٨، وجمع المسئولون على عجل الفرقة لتقدم عرضًا استثنائيًا فى إحدى ليالى رمضان، وعند انتهاء العرض خرج اللاعبون لتحية الجمهور، والتصفيق من الوزراء السوريين على أشده إذا بالسقا يلمح والده فى الصالة!، وكان الأب قد نما إلى علمه ما يجعله يركب سيارة جيب ويأتى لتأديب ولده المحامى، لكنه عندما شاهد وزراء سوريا على حال الإعجاب يصفقون لولده، حياه مثلهم.. وعاد مرة أخرى.

العودة لمسرح الدولة بقرار عبدالناصر 

ومع كل انتفاضة جديدة لمسرح شكوكو، تستفيق الوزارة وتبدأ الاهتمام بفرقتها القديمة أو الأصلية، وأحيانًا كانت الإجراءات الروتينية تستغرق وقتًا طويلًا، إلا أنه مع الأزمات السياسية التى كانت البلاد تتعرض لها بشكل مستمر كانت الإجراءات أكثر سرعة لتجميع الفرقة الأصلية، وتقديم عروض الترفيه عن الجمهور، وفى الثانى من يناير ١٩٦٠ فوجئ صلاح السقا باستدعاء عاجل: «وصلنى استدعاء من وزارة الثقافة إلى منزلى فى السكاكينى، ما القصة؟، مصر تمر بظرف سياسى، وهناك احتفال بافتتاح المعرض الزراعى الصناعى، ورأت الوزارة استدعاء فرقة العرائس الأصلية لعدم تمكن الفرقة الجديدة من إعداد عمل فى ظل وجود الخبراء التشيكيين، ليس هذا فحسب، بل إن الرئيس جمال عبدالناصر سيحضر بنفسه إلى المسرح رغم وجود شائعات بمحاولات اغتياله! وهنا استيقظ عبدالمنعم الصاوى من نومه، وكان يشغل منصب رئيس الهيئة العامة للمسرح والسينما والموسيقى، ليشرف بنفسه على وصول كل أفراد الفرقة الأصلية قبل طلوع النهار لتأمين المسرح، ورغم كل هذه الظروف العصيبة فإن صلاح السقا كان سعيدًا بعودته من جديد إلى مسرح الدولة، وبانتصاره وفريقه القديم على كل محاولات استبعادهم: وعندما عدت كان أول شىء أفعله هو أن أمسكت بالعرائس أنفض عنها التراب، وأعيد رسمها بالألوان، وأكسوها بالجديد من الثياب، وأتبادل التحية والسلام، وجاء الزملاء القدامى وظل العمل مستمرًا فى الإعداد حتى الثالثة، وجاء الرئيس، فقدمنا له الجزء الثانى من الشاطر حسن على وجه التحديد. ثم اصطففنا لتحيته، وعندئذ سلم علينا مهنئًا.. وفى اليوم الثانى، كانت الصحف المصرية تنشر صورتى مع الرئيس، لأنى كنت أول من صافحه وأول المحيين.. وفى نفس اليوم أخبرنى عبدالرحمن صدقى مدير عام الأوبرا بأن الرئيس أصدر تعليمات بالإعداد لبناء مسرح دائم لمسرح العرائس.. ماذا تقول.. مسرح خاص بهذه الفرقة؟! وصدر قرار بتعيين الجميع بمكافأة كان مقدارها ضعف المبلغ القديم: ثلاثين جنيهًا، وفجأة بعد عشرة أيام اكتشفنا هرجًا فى صالة المسرح، فإذا بنا نتشرف بالزيارة الثانية للرئيس جمال عبدالناصر، وكان معه هذه المرة أولاده وعدد من أولاد المسئولين كبار السن، ومعه أيضًا ضيفه جلالة الملك محمد الخامس ملك المغرب، واستمر العرض لمدة ثلاثة أشهر فى المعرض الزراعى، منذ هذا اليوم بدأت أقدام هذه الفرقة تثبت، واعتبارًا من مارس عام ١٩٦٠، أصبحنا جميعًا موظفين بوزارة الثقافة فقط، واستقلنا جميعًا من وظائفنا السابقة، وعادت إلينا الخبيرتان الرومانيتان مرة أخرى، بناءً على اقتراح المسئولين.

الليلة الكبيرة برعاية الدكتور على الراعى

ثم رأت الوزارة أن يتم ضم الفرقتين القديمة والجديدة لتذهب بهما إلى مهرجان دولى للعرائس، فجلس العباقرة الكبار يسألون: ماذا يقدمون.. هل يستعينون بأعمال الخبراء، هل يقدمون عملًا من التراث المصرى؟، فكان ميلاد أوبريت الليلة الكبيرة، واختارت الوزارة الناقد الكبير على الراعى مشرفًا على البعثة التى ستتوجه إلى بوخارست برومانيا، وسيصدر على الراعى فيما بعد قرارًا بتعيين صلاح السقا مديرًا لمسرح العرائس.

ومرة ثانية يلتقى جاهين وناجى والسقا الملحن سيد مكاوى، ويتم العمل على الأوبريت الذى أذيع فى الإذاعة من قبل عام ١٩٥٦، حيث تم إدخال فكرة الصورة وخيالها الواسع، واستمر الجهد والحوار والصراع ليالى طويلة، حتى جاءت الليلة الكبيرة على الصورة التى أخرجها صلاح السقا، والتى عاشت فى الوجدان منذ أكثر من نصف قرن، وفى سبتمبر ١٩٦٠ سافر العرض إلى بوخارست لتمثيل مصر وسط حضور أكثر من ثلاثين دولة لها باع طويل فى هذا المجال، لكن مصر بصلاح السقا وعبقرية جاهين ومكاوى وناجى شاكر حصلت على الجائزة العالمية الثانية «الميدالية الفضية»، والأهم من الجائزة هو أن موسيقى وألحان سيد مكاوى تم تسجيلها، وكانت تذاع فى الإذاعات المحلية، وتمسك الجمهور هناك بوجود حفلات إضافية لأوبريت الليلة الكبيرة، وحضر كل نجوم فرقة. 

وعاد الدكتور على الراعى رئيس البعثة ليصبح من بعدها المسئول الأول عن هيئة المسرح «مؤسسة المسرح»، وعلى إثر هذا التغيير أصدر قراره بأن يصبح المخرج صلاح السقا المدير الفنى لمسرح القاهرة للعرائس.. وطاف أوبريت الليلة الكبيرة عواصم المحافظات، وانتقل إلى القرى والكفور والنجوع.