رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مجموعة شيماء ياسر

بسبب الجوائز السخية التى تنتظر كتاب الروايات فى مصر والعالم العربى، تراجعت القصة القصيرة، لأن الناشرين فقدوا الحماس أيضًا، وأصبح كاتب هذه القصة مضطرًا إلى نشر عمله على نفقته الخاصة، ولم يعد هناك من يحتفى بهذا الفن سوى القليلين وبعض السلاسل التى تصدر عن وزارة الثقافة، وهذا لا يعنى أن هذه القصة فى أزمة، ولكن الأزمة فى المناخ الذى أعلى من شأن كُتاب يكتبون من أجل الجوائز، وليس من أجل الكتابة نفسها، وأعتقد أننا نملك مواهب كثيرة لم تشغلها الجوائز والزفة الكدابة المصاحبة للروايات، الرواية مزدهرة لا شك، وتوجد روايات جميلة تصدر بين الحين والآخر، ولكن لا توجد روايات عظيمة، فى الماضى كان الإقدام على كتابة رواية يحتاج إلى طاقة روحية كبيرة، معظم كُتاب الستينيات كتبوا رواياتهم الأولى وهم فى الخمسين، وبعد أن أصدر كل منهم أكثر من مجموعة قصصية، لأن الرواية فى النهاية هى بنت الزمن والخبرات المتراكمة، حاليًا يبدأ الشباب حياتهم بكتابتها، معتمدين على خلطات جاهزة هى مزيج من الخبرات والتجارب الشخصية وبعض الحيل التى أسس لها روائيون عالميون، أو الذهاب إلى التاريخ وإعادة صياغة منطقية فيه، أنا لا أقلل بالطبع من الحالة الجميلة فى الكتابة حاليًا، التى من الممكن أن تنتج فى المستقبل أعمالًا أثقل، ولكننى أفتقد الروايات التى تترك فىّ أثرًا كبيرًا، وأعيش معها وفيها، كما تعودت مع كبار كتابنا أمثال «نجيب محفوظ ويوسف إدريس وفتحى غانم وإبراهيم أصلان ومحمد البساطى وخيرى شلبى وعبدالحكيم قاسم وجمال الغيطانى» وغيرهم، ومن الكتاب العالميين مثل «دستيوفسكى وفوكنر وشتاينبك وتوماس مان وهيرمان هسه وماركيز وبورخيس»، لقد شاركت أكثر من مرة التحكيم فى جوائز للرواية والقصة القصيرة، وقرأت مئات الأعمال، واكتشفت أن المنجز فى القصة القصيرة أكثر قيمة، ولا يسلط عليه الضوء لأسباب غير مفهومة، ومؤخرًا وقعت تحت يدى مجموعة قصصية لشيماء ياسر تحمل عنوان «فى منتصف الفراغ»، هى الأولى حسب علمى لها، فى البداية ظننت أن العنوان «السبعينى» سيأخذنى إلى مجموعة ذهنية، وأيضًا النص الافتتاحى المصبوغ بحس وجودى ثقيل على قارئ يبحث عن حكاية ما، ولكنى سعدت وأنا أقرأ المجموعة المكونة من ٢٥ قصة، لأننى أمام صوت مختلف، وعين بريئة تنظر إلى العالم بأسى، وتتأمل مصائر البشر بعطف، وأحيانًا بقسوة، اللغة فى المجموعة محملة فى بعض المناطق بصياغات موروثة، ستجلو مع الوقت، ولكنها قادرة على القنص ووضع القارئ فى حالة شجن، العمل ملىء بالكوابيس، فهناك من يريد أن يخلع جلده، وهناك من تخرج من غرفة العمليات ولا تعرف فى أى مكان فى جسدها أجريت العملية، وهناك قصة «الراقص» التى تحكى بثلاثة أصوات بينها «مانيكان خلف الزجاج»، أما قصة «على فوهة بندقية»، فهى واحدة من أجمل القصص، عن قريب أتى إلى المنزل بقفص عصافير هدية، هذا القريب جاء للاستيلاء على ميراث قريب آخر مات حديثًا وزوجته صغيرة فى السن لا يمكن ائتمانها على ما ترك الراحل، عين الطفل البرية تشفق على العصافير، وتتمنى أن تفرد لها مساحة أكبر، وفى الوقت نفسه التقطت أذناه الحوار بين الأب والقريب، أسئلة كثيرة تبحث عن إجابة، يشاركها الطفل الراوى من ابن الفقيد الذى لا علاقة له بنوايا الكبار، قصة الموظف المثالى هى الأخرى اصطادت الرتابة التى يعانيها سائق قطار، ورث المهنة عن أبيه «لم تكن فى حياته لحظات دراما مسرحية يستشهد على عتباتها باكيًا، وكذلك لم تكن فردوسًا ونعيمًا، هى حياة تحمل فيها خطأ وجوده الذى فرض نفسه عليها- الحياة- دون إرادة منه، فليحاكموا إذن وجوده هذا الذى اختار، وليرحموه، توجد فى المجموعة عشر قصص على الأقل فى غاية الجمال، مثل حوض الورد عن علاقة فتاة صغيرة تعمل فى جمع القمامة مع أسرة يونانية تعمل فى مجال العطور، منسوب الشعر فيها أعلى من القص، وأيضًا القصة التى تحمل اسم المجموعة، وكيف أصبح التلصص على الآخرين وسيلة للتأكد من أننا على قيد الحياة، مجموعة جميلة، لم توفق كاتبتها فى بعض الأحيان، وخصوصًا عندما تسعى الكاتبة إلى وجود مغزى.. الحكاية أكبر منه.