رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"محافظون وتجارب 3".. أبناء الجيش العظيم

فى الرابع من إبريل سنة 1960 صدر القانون رقم 124 بتنظيم الإدارة المحلية فى مصر الذى بموجبه تبدل نظام البلديات، وتحول إلى نظام المحافظات، ليتولى السيد/ صلاح دسوقى الشيشتاوى منصب محافظ القاهرة الذى أصبح فيما بعد سفيرًا ثم رئيسًا لنادى الأهلى، واستمر الشيشتاوى فى منصب محافظ القاهرة لمدة خمس سنوات حتى 30 يوليو عام 1965، بعده تولى أحد ضباط ثورة يوليو، وهو سعد زايد لمدة خمس سنوات أخرى، والفرق بين سنوات تولى الشيشتاوى وسنوات سعد زايد هى محور الحديث الآن، لأن مرحلة ما بعد 1965 وحتى عام 1970 هى مرحلة التحول الذى أصاب المجتمع بظهور أزمة الإسكان، وما سمى بظام «خلو الرجل» فى نظام تأجير المساكن واختفاء ما قبله من ظاهرة «تبخير الشقق» من أجل تأجيرها.
وهنا نتوقف عند دور المحافظ سعد زايد الذى تولى عدة مناصب، منها محافظ لأسيوط، ثم القاهرة، ثم وزيرًا للإسكان، ولعب دورًا غاية فى الأهمية لمواجهة ظاهرة «خلو الرجل»، وبداية أزمة الإسكان فى أعقاب نكسة يونيو 67.
وخلو الرجل هو عبارة عن مبلغ مالى كان المالك يجبر المستأجر على دفعه مقابل تحرير عقد الايجار، ولا يتم إثباته بأى أوراق أو بعقد الإيجار، وكانت تجرمه جميع القوانين الاستثنائية بداية من ثورة يوليو حتى القانون 136 لسنة1981.
وكان يحال المالك إلى محكمة أمن الدولة طوارئ لمحاكمته وتصل عقوبته بين السنة والثلاث سنوات، بالإضافة إلى إلزامه برد المبلغ «خلو الرجل» إلى المستأجر، وتغريمه بمثلى المبلغ لصالح صندوق الإسكان.
وينسب إلى سعد زايد المقولة الشهيرة «اللى يلاقى شقة فاضية يكسر بابها ويسكن فيها»، هكذا تعامل زايد بعنف مع مقاولى البناء المستغلين للأزمة، حتى وصل إلى حد التهديد المباشر بالاعتقال والحبس.
نفس الأمر فعله المحافظ وجيه أباظة أحد ضباط ثورة يوليو الذى تولى منصب محافظ القاهرة فترة قصيرة من أبريل 1970 وحتى يونيو 1971، سبقت له تجربتان ناجحتان فى محافظتى البحيرة والغربية ما زالتا أكثر تجارب المحافظين نجاحًا، ويتذكرها شعب المحافظتين إلى الآن- سوف نحكى عنهما فى وقتها- مع ملاحظة فارق التوقيت بين الستينيات والسعينيات.
سار أباظة على نفس منهج سلفه فى مواجهة مافيا العقارات والإيجارات و«خلو الرجل» وعرف عنه أيضًا حبه للفنون فكان اهتمامه كبيرًا بالشكل الجمالى للقاهرة، خاصة إنشاء الحدائق وتنظيم حفلات الفرق الموسيقية فى الحدائق والمتنزهات مجانًا.
وتعرضت القاهرة بعد إقرار قوانين الانفتاح لأكبر موجة هجرة داخلية من الريف، خاصة بعد تمركز تجارة الجملة بين مدينتى القاهرة وبورسعيد باعتبارها منطقة التجارة الحرة الجديدة فى هذا الوقت، وتمركز الأسواق التجارية فى القاهرة كأسواق العتبة والأزهر ووكالة البلح، مما أدى إلى زيادة الهجرة من الريف للقاهرة ومعها انتشرت المناطق العشوائية وتمركزت فى مناطقها المعروفة حاليًا، ومعها انتشرت ظاهرة سكان المقابر.
وخلال الاحتفال بمئوية مصر الجديدة أكدت إحدى الدراسات أن هذا الحى الراقى حافظ على طرازه المعمارى المتميز، وعلى خصوصيته مقاومًا العشوائيات حتى عام 1979، حين بدأ زحف البوتيكات على منطقة روكسى وتحويل مداخل العمارات وأماكن الجراجات إلى محلات تجارية.
وفى مرحلة جديدة عاشتها القاهرة بدأت فى مارس 1983 بتولى منصب محافظ القاهرة الفريق يوسف صبرى أبو طالب الذى أصبح فيما بعد وزيرًا للدفاع والقائد العام للقوات المسلحة ووزير الإنتاج الحربى خلفًا للمشير عبدالحليم أبوغزالة. 
وبشهادة الزميل الكاتب الصحفى الكبير حمدى حمادة الذى عمل كمحرر لشئون العاصمة فترة تولى الفريق يوسف صبرى أبوطالب كتب يقول «كان المحافظ الجاد ابن سلاح المدفعية وزميل المشير أبوغزالة، وكان أقرب المقربين إليه بسلاح المدفعية، كان المقاتل الجسور فى حرب أكتوبر ١٩٧٣. 
وتولى منصب المحافظ وكان محافظًا مرموقًا للقاهرة.. كان المحافظ المتابع والنشيط، وفى عهده تم تحويل العشوائيات إلى حدائق، ومنها على سبيل المثال منطقة عرب المحمدى، وكانت خلف مستشفى الدمرداش وهى حديقة غناء الآن.. ولأنه كان المتفحص المدقق كان يحرص على الجولات المفاجئة، وتحديدًا يوم «الإثنين»، وكنا نرافقه كصحفيين، ولا ندرى إلى أى منطقة سيتوجه ويقرر وجهتها الفريق يوسف صبرى أبو طالب وحده.. ويتحرك الركب فى تمام العاشرة صباحًا ونحن بصحبته من زملاء المهنة الصحفية كعبدالهادى تمام مندوب الأهرام، وعبدالعزيز زايد من الأخبار، ومحمد رأفت من الجمهوريه، وصلاح فضل من المساء، وزملاء من جريدة مايو وآخرين.. وكنا كتيبة صحفية جادة تسجل وتكتب بل وتنتقد! والفريق يوسف صبرى أبوطالب كان بالطبع يتصدر اجتماع المجلس الشعبى للمحافظة، وكان يعقد مرة كل شهر، ويجلس بجواره رئيس المجلس الراحل عبداللطيف بلطية ووكيله على الإمام.. كانت المناقشات تدور بين المنصة والأعضاء، حيث الأسئلة وطلبات الإحاطة والاستجوابات.. كان المجلس الشعبى كمجلس شعب مصر لدوائر القاهرة.. وكان أعضاء مجلس الشعب لا يتخلفون عن الحضور.. بل كان الوزراء يحرصون على الحضور أيضًا حتى اللواء زكى بدر وزير الداخلية والمهندس حسب الله الكفراوى وزير الإسكان وآخرون يحرصون على حضور اجتماعات المجلس المحلى للعاصمة فى هذا الزمن، كان العمل بلا كلل أو ملل، لأنه كانت هناك الجدية والرقابة، بل والاستقامة فى العمل.. ولن أعدد إنجازات الفريق يوسف صبرى أبوطالب لمحافظه القاهرة، ويكفيه أنه كان يعمل فى صمت.
ونستكمل سيرة محافظى القاهرة المقال القادم.