رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صلاح السقا يروى: حكاية الليلة الكبيرة 3

انتهت الخدمة العسكرية، وعاد صلاح السقا لممارسة عمله كمحامٍ يقضى صباح اليوم فى المحاكم ثم يعود للقاء زملاء الفن والتمثيل على كازينو هافا، حتى كان يوم من عام ١٩٥٨ جاء فيه مبكرًا، حيث تأجلت له عشر قضايا كاملة، وإذا بالأستاذ أحمد حلمى، وكيل دار الأوبرا والمترجم والمؤلف المسرحى، يقترب من السقا ويأخذه متأبطًا ذراعه سيرًا على الأقدام حتى دار الأوبرا، وطوال الطريق وهو يحاول أن يفهم إلى أين هما ذاهبان إلا أن أحمد حلمى التزم الصمت واقتصرت إجاباته على كلمة واحدة: «لما نوصل هتعرف».

الطريق إلى البهجة.. والخوف من المجهول

لم يكن صلاح السقا يعرف أن هذا المشوار سيكون بداية جديدة تمامًا فى حياته، حيث كانت فرقة العرائس الرومانية «تساندريكا» قد زارت مصر عام ١٩٥٨ لتقديم عرض «الأصابع الخمسة» وقد حازت على إعجاب الجمهور؛ فقررت وزارة الإرشاد فى عهد الوزير فتحى رضوان طلب خبيرتين من هذه الفرقة الرومانية لتكوين فريق عرائس مصرى، وتم نشر إعلان بالصحف عن تكوين فرقة للعرائس وفتح مسابقة للهواة الذين يرغبون فى الانضمام إلى الدورة التدريبية التى تعدها وزارة الإرشاد القومى «الثقافة» فى هذا الفن الجديد، لم يكن صلاح السقا يعرف أيضًا أن أحمد حلمى يأخذه إلى هذا العالم السحرى، حيث كانت الوزارة قد بدأت بالفعل فى استقدام الخبيرتين، وما إن وصلتا إلى دار الأوبرا القديمة حتى وجد نفسه وسط ورشة بمعنى الكلمة، ورشة من البشر يصنعون العرائس: «رأيت ديكو رايتر يرسم، وأناس تصنع من الخشب دمى، وآخرين يخيطون ملابس بسيطة وصغيرة، كانوا مجموعة صغيرة يدبر أمرها جماعة من الأجانب بقيادة سيدتين، باختصار التقيت لأول مرة الفنان صلاح جاهين، وهو صحفى ورسام وشاعر لامع، والفنان الأستاذ ناجى شاكر، الذى أصبح أستاذًا بكلية الفنون الجميلة، أما السيدتان فهما مدام (دورينا كونسيسكو) وهى مصممة ومخرجة ولاعبة، ومدام (ايوانا كونستا نتينكو) مصممة العرائس المشرفة على التنفيذ، وكلتاهما من جمهورية رومانيا الاشتراكية، وقدمنى الأستاذ أحمد حلمى قائلًا: وهذا الأستاذ صلاح السقا أحد تلاميذى يعمل محاميًا ويعرف من اللغة الفرنسية ما يمكنه من التفاهم مع الخبيرتين، وقال راجى عنايت الذى كان يقف على باب الورشة: (حسنًا عليك أن تأتى فى يوم الرابع عشر من سبتمبر، سوف يكون هناك امتحان، ولجان مقابلة لجميع الهواة الذين يرغبون فى الانضمام إلى الدورة التدريبية التى تعدها وزارة الإرشاد القومى- الثقافة- فى فن العرائس)».

المثير فى الأمر أن صلاح السقا كان قد شاهد العرض الذى قدمته الفرقة الرومانية بصحبة أحد الأصدقاء، لكنه لم يفكر أن يكون مستقبله فى هذا العالم، فقد كان هذا الفن غريبًا. 

إنه مقصور على الفنانين الشعبيين الذين يجولون الشوارع والحقول والحوارى والموالد فى مصر ويقدمون فنونهم كوسيلة من وسائل كسب الرزق. 

لم يتحمس صلاح السقا فى البداية، رغم كل هذا الترحيب، فقد كان يحلم حلمًا جديدًا، وهو الالتحاق بالمعهد العالى للتمثيل الذى تحوّل إلى معهد نهارى لأول مرة، وفكر بالفعل فى الاعتذار للأستاذ أحمد حلمى، لكنه فى اليوم الذى حضر فيه للاعتذار وجد أكثر من ٣٥٠ شابًا متقدمًا للاختبار استجابة لإعلانات الصحف، فسأل عن عدد المطلوبين تحديدًا فقيل له ما بين عشرين إلى ثلاثين شخصًا، فقرر أن يدخل التحدى الأكبر واستعد لدخول الاختبار أمام اللجنة: «طلبوا منى قراءة شعرية ثم حوارًا باللهجات، واستمعت إلى موسيقى ثم وصفتها، ومشهدًا صامتًا، وفعلت كل ذلك على مضض ومن دون رغبة فى استكمال المشوار»، وصفقت له اللجنة، ومع ذلك خرج وقد قرر أن ينسى الموضوع.

دورينا.. الماركسية التى شقلبت كيان السقا

صلاح السقا الذى خرج من دار الأوبرا وهو لا يريد العودة إليها من جديد، صلاح الذى رأى أن العرائس أقل من أحلامه، وقع فجأة فى غرام العرائس، وأصبح يتحدث عنها مثل عشيقة يتمنى اللقاء بها كل يوم! فماذا حدث؟!

يقول صلاح السقا إنه كان يمضى فى طريقه حين لمح المدربة الرومانية «دورينا كونسيسكو» تجلس على الرصيف، عند باب الأوبرا الخلفى، فأشارت إليه ليجلس إلى جوارها، وأخبرته بأن تلك جلستها اليومية بعد انتهاء التدريبات لتريح أعصابها، ثم طلبت أن يصمت ويسمع معها أجمل سيمفونية ستخرج من بين الأشجار الأربع التى أشارت إليها، وجلس السقا يترقب حتى خرجت العصافير فى نغم واحد جميل كأنه يسمعه للمرة الأولى، وبعد هذه المقطوعة الإلهية طلبت منه أن يتناولا أى طعام؛ لأنها جائعة وامتد الحوار بينهما حتى وجد السقا نفسه يستجيب لها بالموافقة عندما طلبت منه الانضمام إلى التدريبات من الغد.

وكالمسحور عاد السقا فى اليوم التالى ليبدأ التدريبات: «هالتنى التدريبات التى منها ما هو رياضى بحت وما هو تشكيلى وما هو موسيقى.. ثم التوافق بين هذا كله عمل مستمر لساعات طوال لتؤدى نصف ساعة عرضًا متكاملًا، فليس كل شخص مؤهلًا ليكون لاعب عرائس، فهناك شروط أساسية، أولها اللياقة البدنية والأذن الموسيقية والتركيب الجسمانى السليم حتى يتحمل المجهود المطلوب بذله فى أثناء العرض، حيث سيقف منحنيًا على العروسة يتناولها بيديه حتى تتحول إلى جزء من كل حركات جسده وليست أصابعه فقط». 

وأصبح السقا واحدًا من الفريق واستمرت فترة التدريب من ٢٥ سبتمبر حتى أول مارس ١٩٥٩، حيث انطلق لسانه يعبر عن هذه المرحلة، ولا تعرف هل كان يقصد مغازلة العروسة أم كان يقصد الست دورينا التى شقلبت أفكاره وجعلته يتحدث بطلاقة عن علاقته بالعروسة وعالمها، وهى دورينا كونسيسكو، عضو فى الحزب الماركسى الرومانى، ومؤلفة نصوص عرائسية وإحدى أبرز مثقفات رومانيا. 

يقول السقا:

«هنا بدأ العشق.. بدأ الغرام.. نعم. تعلقت بها، أحببتها، جعلت يومى يبدأ بها وينتهى بها. أصبحت لا أفترق عنها، عاشرتها كأنها كل عائلتى. كيف حدث هذا، واندست بين جوانحى. وهل يكفى هذا الزمن ليصبح الإنسان مدلها بحبها.

فقط ستة أشهر.. لا أكاد أصدق أصبحت متعلقًا إنسانيًا بالعروسة.. نعم عشقتها.. وعشقت أن أنظر إليها وأنا أعلقها من خيوطها التى تنتهى إلى قطعة خشبية على شكل مفتاح النيل وعن طريق هذه القطعة الخشبية المثبتة بها الخيوط التى تتدلى منها العروسة كنت أقول ما أشعر وأعبر به عما فى داخلى.. هل تصدقون لقد أصبحت قادرًا على الكلام أنا والعروسة بأكثر مما يقول الممثل المسرحى بالإيماء والحركة والإيقاع والكلمة.. بل إن الكلمة عندى ليست زائدة أو يجوز اختصارها لأنها لا ترد إلا عندما تكون ضرورية التواجد.. هذا هو فن العروسة.

وهكذا بدأ حوارى مع العرائس بصحبة صلاح جاهين وناجى شاكر والخبيرتين، وبمرور الوقت والأيام وجدت نفسى أحد أعمدة هذا العمل، وذلك للعلاقة الحميمة التى نشأت بيننا جميعًا، وبدأت أمارس معهم ليس فقط التدريب والأداء واللعب فى فن العرائس.. بل بدأنا نفكر فى ابتكار برامج ومشاهد نلعبها مع لياقة بدنية عالية وإيقاع راقص.. وأذن موسيقية وتمثيل صامت، ودراسة لفن وتاريخ العرائس فى العالم.. ثم التمثيل بالعروسة أمام كل مسئول وزائر كى نستميله لدعم هذا الفن الوليد».

على إسماعيل وحكاية الشاطر حسن 

هكذا بدأت الحكاية، وهكذا سيعرف العالم كله أن أربعة أشخاص «جاهين والسقا وناجى شاكر وعلى إسماعيل» صنعوا مسرح العرائس ليصبح جزءًا من الوجدان المصرى، وهكذا بدأت وزارة الإرشاد القومى تكوين فريقها الذى سيقدم هذا الفن على معظم مسارح العالم مشاركًا فى المهرجانات الكبرى، واستقدمت الوزارة فرقتين، إحداهما رومانية والأخرى تشيكوسلوفاكية، وتكفلت سفارتاهما بدفع كل المصاريف خدمة للثقافة وفن العرائس، ثم يتوافر لهذا الفن موسيقى مثل زكريا أحمد وشاعر مثل صلاح جاهين وفنان تشکیلی مثل ناجی شاكر ومتحمس لهذا الفن مثل راجى عنايت وخلفهم جميعًا وزارة تضم فتحى رضوان ثم يحيى حقى رئيسًا لمصلحة الفنون ثم محمود النحاس مدير الأوبرا الخديوية «المصرية» ووكيليه شكرى راغب وأحمد حلمى. 

وهكذا ترك صلاح السقا المحاماة وأصبح متفرغًا تمامًا لهذه اللعبة التى توافر لها كل عناصر النجاح، ورغم أن زكريا أحمد لم يستمر وأحجم عن دخول التجربة فإن الظروف الفنية التى كانت تعيشها مصر من تعدد نوابغها جاءت بملحن شاب هو الفنان المبدع العبقرى على إسماعيل فاكتملت المنظومة العبقرية، فكان الأربعة «السقا وصلاح جاهين وعلى إسماعيل وناجى شاكر» يعقدون جلسات لدراسة ما يجب أن يكون عليه النص «المسرحية» فى الشكل العام، والعرائس والديكور والشعر والأغانى والألحان وما هو مطلوب من الدمية. 

وقبيل الغروب يتركهم صلاح ويتوجه إلى عش العصافير، حيث التدريبات على التمثيل بالعروسة، فقد وقع فى الغرام الأكبر بكل جوارحه، وخلال أسابيع كان قد تعلم حرفية العروسة وما يجب عليها أن تعبر عنه بالحركة والإيقاع معتمدًا على دراسة علم التشريح والآلية الخاصة التى يجب أن تكون عليها الخيوط والحركة مع أصابع اليدين حتى تؤدى عروستان مع لاعب واحد فى وقت واحد أداءً مختلفًا ومكملًا بعضه البعض، كل هذا مع كيفية الكتابة للطفل، ثم الكتابة للعروسة مع دراسات علمية وعملية عن سيكولوجية الطفل، والقيم التى يجب تكوينها لديه فى سنوات طفولته المختلفة، وهى كلها دراسات كتبها السقا، كما يقول المؤلف الدكتور فؤاد رضا، فقد بحثت عن تلك الدراسات ولم أجد لها أثرًا، وربما نجد منها نسخة لدى الفنان أحمد السقا، فلم يتم حفظ معظم أعمال صلاح السقا.

وكانت الأوبرا من بعد معهد الموسيقى العربية هى دار العرض الرسمية التى تباهى بها الوزارة إعلاميًا.. وهكذا عرضت حدوتة «الشاطر حسن» الجزء الأول، ثم تقدمت عروض هذا العمل وأكملنا تأليف الجزءين الثانى والثالث ولهما مجموعة تابلوهات ومنوعات وذكريات للشاطر حسن فيها استعراضات كانت من أجمل البدايات التى قدمها مسرح القاهرة للعرائس.

وانفض السامر.. وبدأت الدراما 

كل ذلك سينطفئ فجأة، وسيعلق صلاح السقا قائلًا: 

كان حفلًا بهيجًا.. نعم انفض المولد.. بعد العرض، ودخلنا متاهة البيوقراطية وبدأنا نتذكر أحداث القدر التى رتبها الله منذ عام ١٩٥٧، وزيارة مسرح سندريكا، واهتمام النقاد فى حينه بهذا الفن، ثم تحمس الناس لهذه الظاهرة الفنية، ثم جاء انصراف الكوادر السياسية عن الاهتمام بالترفيه عن الطفل وتعليمه، وإنما فقط بغرس الولاء للأفكار الجديدة.

ومن هذه الصفحة ستبدأ معاناة صلاح السقا مع مسرح العرائس.