رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لعبة «الاغتيال المعنوى»

لم يكن «الحسن الصباح» بعيدًا عن عيون الوزير «نظام الملك»، بل لقد كان أكثر أعضاء البلاط السلجوقى إدراكًا لخطورته، فقد عاشره خلال مرحلتى الطفولة والشباب، وعلم ما يتمتع به من ذكاء وقدرات، والأخطر طموحه الذى لا يقف عند حد، ورغبته العارمة فى أن يكون النجم الأوحد على مسرح السياسة فى العالم الإسلامى. وصل العديد من التقارير إلى نظام الملك عن عمليات الاغتيال التى قامت بها جماعة «الحشاشين» لتصفية خصوم «الصباح»، وكان الوزير يعلم أن اسمه يأتى على رأس من يستهدف أمير قلعة «ألموت» تصفيتهم، بل واسم السلطان «ملكشاه» نفسه. تبنى الوزير «نظام الملك» الرؤية التى حكمت الصراعات السياسية فى عصره، والقائمة على تشويه الخصوم، فى مواجهة «الصباح» وأتباعه. فكما كان الحسن الصباح يسعى إلى تلطيخ وجه السلطة أمام أتباعه، سعت السلطات الرسمية إلى تلطيخ «الصباح وأتباعه» أمام الرأى العام الإسلامى. تجد ملخصًا لذلك لدى «ابن كثير»، إذ يصف «الصباح» قائلًا: «كان الحسن بن صباح قد دخل مصر وتعلم من الزنادقة الذين بها، ثم صار إلى تلك النواحى ببلاد أصبهان، وكان لا يدعو إليه من الناس إلا غبيًا جاهلًا لا يعرف يمينه من شماله، ثم يطعمه العسل بالجوز والشونيز (الحبة السوداء) حتى يحرف مزاجه، ويفسد دماغه، ثم يذكر له أشياء من أخبار أهل البيت، ويكذب له من أقاويل الرافضة الضُّلال أنهم ظُلموا ومُنعوا حقهم، الذى أوجبه الله لهم ورسوله، ثم يقول له فإذا كانت الخوارج تقاتل بنى أمية لعلى، فأنت أحق أن تقاتل فى نصرة إمامك على بن أبى طالب، ولا يزال يسقيه العسل وأمثاله ويرقيه، حتى يستجيب له ويصير أطوع له من أمه وأبيه، ويظهر له أشياء من المخرقة والنيرنجيات (السحر) والحيل التى لا تروج إلا الجهال، حتى التف عليه بشر كثير وجمع غفير». المتأمل لتلك الرواية التى لخص فيها «ابن كثير»- فى كتابه «البداية والنهاية»- عقيدة الحشاشين، وعلاقتهم بالسلطة، وبالأفراد العاديين من أبناء الشعوب، والطريقة والأسلوب اللذين كان يدير بهما «الحسن الصباح» أتباعه- يستطيع أن يستخلص العديد من السمات وأبعاد الصورة الذهنية التى حاولت السلطة السلجوقية، ودولة الخلافة العباسية، وفقهاء ومؤرخو أهل السنة، رسمها لتنظيم «الحشاشين» وشيخه «الحسن الصباح». ويتحدد أبرز هذه السمات فى: الزندقة «أى الإلحاد بالمصطلح المعاصر»، واعتزال الناس، وسيطرة الجهل على الأتباع، وخضوعهم لعمليات تخدير ممنهج ومنظم، والسمع والطاعة الذى يبديه الأتباع للقائد. تهمة الزندقة كانت من التهم المريحة الجاهزة فى ذلك العصر التى تسهّل على السلطة أو الجهة أو الشخص اغتيال خصومه السياسيين معنويًا. وتعنى الزندقة فى الوجدان المسلم «إنكار الدين»، وهى من أقبح الصفات التى توجب ازدراء المجموع المسلم للشخص، حال الاتهام بها. يشير «ابن كثير» إلى أن الحسن الصباح «كان قد دخل مصر وتعلم من الزنادقة الذين بها»، وهو يقصد بالزنادقة فى هذا المقام: الشيعة الفاطميين من المؤمنين بالمذهب الشيعى «الإسماعيلى»، ولا خلاف على أن من تعلم الزندقة- على حد وصف ابن كثير- وتكاثر الأتباع من حوله، لا بد أن يتحول إلى معلم للزندقة، بما تعنيه من معانى إنكار الدين والخبث والضلال والشرود عن الفهم الشائع للإسلام، وهى معانٍ كفيلة بإثارة العامة على أى شخص أو جماعة بمجرد إلصاقها بها، خصوصًا إذا تردد الاتهام على لسان كبار الفقهاء والشيوخ وعلى ألسنة أصحاب السلطة والسلطان. ويعد «اعتزال» الناس سمة أخرى من سمات الصورة السلبية التى حاول أهل هذا العصر رسمها للحشاشين، فهم يلجأون إلى القلاع وشعاب الجبال فيما يشبه الهجرة، كمظهر من مظاهر رفضهم المجتمع، وكفرهم السياسى أو العقائدى بما يدين به أهله. والتكفير- أيًا كان نوعه- لا بد أن تعقبه «عزلة» أو هجرة، وذلك ما قرره الحسن الصباح- كما يشير ابن كثير- حين تمدد من قلعة «ألموت» إلى الاستيلاء على مجموعة أخرى من القلاع المحيطة بها، وتحصن بها، وبدأ يعزل فيها أتباعه عن العالم، ويدربهم ويعدهم للانقضاض على المجتمع الذى هاجروا منه وناصبوه العداء. وكان «تجهيل الأتباع» من السمات الأساسية للصورة السلبية للحشاشين، فأتباعهم يوصفون بالجهل والفراغ المعرفى الذى يجعلهم مرتعًا خصبًا للأفكار التى يبثها فيهم التنظيم. يقول «ابن كثير» إن «الصباح كان لا يدعو إليه من الناس إلا غبيًا جاهلًا لا يعرف يمينه من شماله»، ولا خلاف على أن تشويه التابع بهذه الصورة، ووصفه بأنه لا يعرف يمينه من شماله، يستهدف التقليل من قدرات القائد الذى يسيطر عليه ويوجهه، وأن خضوع التابع مردّه الجهل والتغفيل، وليس عبقرية من يقوده. ومن الملفت فى سمات الصورة التى رسمها «ابن كثير» لـ«الحشاشين» تلك الإشارة إلى الأدوات التى كان يستخدمها «الصباح» فى السيطرة على أتباعه من خلال إطعامهم العسل بالجوز والشونيز «الحبة السوداء» حتى يحرف مزاجه، وهى أدوات فى المجمل لا تؤدى إلى التخدير، لكن قد يكون لها تأثير إيجابى على استرخاء الأعصاب، وربما دعم ذلك أن «الصباح» كان يشفعها بالرقية، وبعض أعمال السحر، كما يذهب «ابن كثير»، وهو يسقى المريد ويطعمه، حتى يتهيأ لقبول الخطاب «الحشيشى» الشيعى المنتصر لأهل البيت والإمام على بن أبى طالب. وتكون النتيجة المترتبة على ذلك هى الخضوع التام، والطاعة الكاملة من جانب المريد لشيخه وقائده، بحيث يمتثل لكل أوامره أيًا كانت، حتى ولو طلب منه أن ينحر نفسه بخنجر، أو أن يلقى بنفسه من أعلى جبل ليتردى منه. آتت محاولات تشويه جماعة الحشاشين وأتباع الحسن الصباح- على يد الوزير «نظام الملك»- أُكُلها بصورة نسبية، لكنها لم تفلح فى إيقاف تمدد الفكر «الحشيشى» وانضمام المزيد من الأعضاء إلى الجماعة، لأن لعبة التشويه كانت لعبة متبادلة تمارسها الجماعة ضد السلطة، وتمارسها السلطة ضد الجماعة، والتشويه المتبادل لا بد وأن يؤدى إلى التسطح والتشوش والدعاية، وتفيد هذه الحالة الجماعات المتمردة على السلطة أكثر مما تفيد السلطة نفسها. كذلك لم يفلح الأسلوب الذى اتبعه «نظام الملك» فى محاصرة التمدد الحشيشى عبر حشد العوام فى الحرب على «الحشاشين»، بل وإشراكهم فى غنائم الهجوم عليهم، وقد أشار «ابن كثير» إلى أن الوزير كان يحرض العوام على قتل الحشاشين: «ونودى فيهم أن كل من قدرتم عليه منهم فاقتلوه وخذوا ماله»، إنه تحريض رسمى على القتل، ليس بهدف إشعال حرب أهلية، بل للاستقواء بالأهالى فى الحرب على أتباع هذا التنظيم، بالإضافة إلى خلق نوع من أنواع العداء الشعبى تجاه الحشاشين يحول دون انضمام المزيد من الكوادر إليهم، خصوصًا أن طريقتهم فى العمل كانت مثار إعجاب بعض الأفراد العاديين من أبناء الشعوب.

توصل الوزير «نظام الملك» بعد ذلك إلى مسار أكثر جدوى من لعبة «الاغتيال المعنوى» فى صراعه مع الحسن الصباح وأتباعه، يعتمد على مواجهة الفكر بالفكر، وذلك من خلال تجربته الفريدة فى إنشاء ما أطلق عليه «المدارس النظامية» نسبة إلى «نظام الملك».