رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صلاح السقا يروى: حكايات الطفولة وليالى الغوازى فى سنباط

هناك وسط الحقول وبين الفلاحين وفى قرية صهرجت الصغرى، محافظة الدقهلية، سيولد طفل طيب الملامح يمرح ويلعب ويعشق حكايات الراوى وغناوى الحصاد ومواويل السهرات اسمه «محمد صلاح الدين عبدالعزيز أحمد السقا»، المولود فى ٢ مارس ١٩٣٢، والذى سيصبح ذات يوم رائدًا لفن العرائس نهاية الخمسينيات بعد رحلة طويلة يزور فيها بلاد الدنيا، ويتعلم خلالها أن الرهان الحقيقى ليس على مؤسسات أو أشخاص ولكن على الموهبة مع الإصرار، سيتعلم كيف يفتح الأبواب مهما أغلقوها فى وجهه ليظل هو نفس الطفل طيب الملامح الذى خرج من صهرجت.

هذه عائلتى الكبرى

سيبدأ الطفل الصغير حياة مختلفة فى بساطتها: «كنت طفلًا انطلق مبكرًا فى الحقول وملأ جلبابه بالجميز والتوت والنبق ورءوس الخس وكثير من الفاكهة، فالدقهلية أرض الخير، والدى فلاح بسيط، لكنه مشهور بفضل أجداده الذين كانوا يقلدون أهل مكة فى الرفادة والسقاية وضيافة الحجيج، الرجل متدين والأم قطعة سكر».

هكذا يختصر صلاح السقا تاريخ العائلة ولا يضيف معلومات أكثر من ذلك حول أشقائه أو باقى أفراد عائلته، ففى الرابعة من عمره سيبدأ رحلة التعليم، حيث دفع به والده إلى شيخ الكُتّاب الذى عنده عريف يتابع عمل الطلبة ومقرعة ينال بها كل عاصٍ عقابه، وبالفعل حفظ محمد صلاح الدين فى كتّاب الجرن جزءين من القرآن، حتى إذا أرادوا له أن يدخل المدرسة الإلزامية الابتدائية كان عليه أن ينتقل من صهرجت إلى قرية أخرى اسمها دقادوس، وهى أكثر شهرة وزحامًا لأنها تقع على مدخل كوم النور وهى قرية أخرى أكبر لها شهرة بين القرى كلها، إذ إن أهلها يتوارثون مهنة واحدة هى «تجبير الكسور» ويقال لهم المجبراتية، وكانوا أكثر شهرة من كل أطباء العظام على مستوى المملكة «مملكة مصر والسودان».

ولكن كيف بدأت علاقته بالعرائس؟ وما بذور تلك الموهبة؟، يقول السقا إنه لم يجد أحدًا فى العائلة له علاقة بالفن: «كنت أسخر من إخوتى البنات إذا وجدت فى أيديهن عروسة من القش أو القطن وأقف أمام خيال المآتة فى الغيط أحملق فيه وأراه شيئًا شديد البلاهة، لكن والحق يقال كنت شديد الولع بأشياء أخرى تحدث على مستوى القرية أو فى بلدة سنباط التى بيننا وبينها أربعة كيلومترات، وسنباط بالنسبة لى هى الفن والموسيقى والغناء والراقصات (الغوازى) وأصحاب المواويل والطرب القديم، ومن سنباط تخرج الفرق لإحياء الأفراح والحفلات الخاصة، والحفلات الدينية خاصة، وفيها يختلط فن المديح والإنشاد بفن الصهللة والصحبجية والرقص والغناء، وكانت سنباط تقع على الضفة الأخرى من نهر النيل بالدقهلية، ومن هناك ترقب قرية (ميت دمسيس) المقابلة لصهرجت الصغرى تمامًا كأنها فضاء رحب وفسيح كان يحمل أحلامى الصغيرة، لكننى كنت دائمًا أخاف كسر جناحى قبل الأوان لذلك تعلمت الحذر».

«من هذه القرى المجاورة- يقول صلاح السقا- عرفت معنى الفن وعاشرت الفنانين وانتقل إلى وجدانى كل ما رأيت فى هذا العالم من غناء واستقدام للفرق الفنية فى الأفراح والمناسبات الدينية حسب تـقاليد مصر فى ذلك العهد (المولد النبوى، رؤية الأهلّة، ليالى رمضان، حفلات الحج، حفل وفاء النيل، حفلات الموالد من أولياء الله وآل البيت، الطهور، الزواج)، ولم تكن قرية تخلو من احتفال، فهنا يقام مولد مار جرجس للأخوة الأقباط وبالقرب منه مولد أبوحصيرة عند اليهود، فإذا بصفحة النيل من كثرة المراكب والفلك التى تحمل (الكلوبات) المنيرة كأنها بلدة برودواى فى أمريكا، مراكب وبواخر مضاءة، موسيقى، مرح وطعام من كل لون، وجميع ألوان الفنون نشاهدها أمامنا بداية من الأراجوز إلى الساحر ولاعبى النار وسرادقات الرقص والغناء.. أعتقد أن شيئًا من هذا دخل إلى سويداء قلبى وتسرب ليوجد النزعة الفنية عند طفل القرية الصغير».

وصية الوالد.. وحلم ضابط البحرية 

يعترف صلاح السقا بأنه لم يقع فى غرام العروسة الحلاوة ولم يسترح لشكل خيال المآتة فى الغيطان، ويعترف بأنه كان يسخر من بنات العائلة إذا وجد إحداهن تلعب بعروسة من الحلاوة أو القطن، لكنه لم ينكر وقوعه فى غرام الفارس الذى يركب الحصان الحلاوة، كان ينتظر هدية والده فى المولد النبوى الشريف فيحافظ على الحصان فى مكان بعيد عن النمل ويستعير الألوان أحيانًا لإعادة تلوينه، بل يحرص على تقديم التحية العسكرية للفارس كل صباح، فهو حلمه الذى لم يخبر به أحدًا، نعم يتمنى صلاح أن يكون ضابط بحرية بزى أبيض مثل هذا الفارس المصنوع من السكر.

المرحلة الثانوية هى الأهم فى مسيرة الفن مع صلاح السقا، فقد ضمن له النشاط المسرحى والفنى أن يتعلم الكثير عن فن التمثيل وأن يقع فى هذا الفن، ولك أن تتخيل أن الفنان والعبقرى الكبير سعيد أبوبكر، مؤسس المعهد العالى للفنون، كان هو المشرف على النشاط المسرحى بالمدرسة: «وفى الثانوية بدأنا نتعلم شيئًا يقال له النشاط المسرحى، لقد حضر إلينا الممثل المرحوم سعيد أبوبكر مدربًا ومدرسًا لفن التمثيل وليخرج لنا مسرحية (سلك مقطوع)، رفض انضمامى للفرقة وقال: إنت مش ممثل جايز تكون فنان، لكن مش ممثل.. لكنى كنت أجلس لمراقبته والنقل عنه، وتقليد كل ما أراه».

لهذا بدأ صلاح السقا الحديث عن السنة الثانية فى المدرسة الثانوية، وأكد أنه تعلم كل الفنون والهوايات والأنشطة، فكان عضوًا فى الجمعية الجغرافية، وكذا الجمعية الزراعية، وفى جمعية الكشافة وفى جماعات الأشغال اليدوية، وشارك فى صنع سجادة ١٦ عقدة، وأنه أيضًا شارك فى دور كومبارس فى مسرحية من إخراج سعيد أبوبكر، كل ذلك كان يحدث وهو لا يفكر إلا فى تحقيق حلمه القديم، ألا وهو الدراسة فى مدرسة عليا لضباط البحر بالإسكندرية.. فظل حريصًا على تحقيق هذا التوازن الداخلى، فالفن هواية غير ثابتة بينما التذوق وحب مشاهدة الفن الشعبى كان غاية فى شهور الإجازة، «لكن ميولى العلمية سوف أجد لها طريقًا فى الإسكندرية عندما أصبح ضابطًا وفارسًا يرتدى ملابس البحارة»، واجتاز صلاح الثانوية العامة وتوجه إلى الإسكندرية، لكن أوراقه كانت تنقصها فقط شهادة الميلاد فأرجأ الأمر إلى حين إحضارها، فإذا عاد إلى القاهرة وجد أوراقه كاملة قد قُدمت إلى كلية الحقوق جامعة عين شمس بالعباسية!، دفع بها والده إلى الأستاذ أمين حماد، مدير الإذاعة، ليتولى الإشراف على انتظامه فى الجامعة، وقد تم دفع المصاريف وأصبح صلاح طالبًا نظاميًا بها بناءً على رغبة والده الذى طلب أن يستعد ليصبح «وكيل نيابة أو قاضيًا».

عن أمى وشيخ الكُتّاب وليالى السامر 

يعترف صلاح السقا بأن كل هذه المتعة التى عاشها فى طفولته دفع ثمنها ضربًا وجلدًا وتعليقًا فى الفلكة من شيخ الكُتّاب الذى كان يرسل «العريف» يترصد أخبار الهاربين وينقلها بحذافيرها: «وبعد الضرب نلقى بأنفسنا فى النيل لكى تبرد القدم ونستمتع بصيد السمك باليد.. لكن أمى كانت تشفق علىّ من غضب الشيخ وتساعدنى فى الخروج مع أصحابى حتى بعد دخولى المدرسة الابتدائية، فبعد صلاة المغرب أتسرب من الدار بموافقتها إلى حيث سامر القرية، نعم كل قرية كان بها سامر، أو قهوة، أو حانة، وكان تجار القطن هم أيضًا أصحاب الحانات التى تسترجع الذهب الأصفر الذى دفع ثمنًا للذهب الأبيض ولكن بطريق غير مباشر. وفى أرض السامر لا بديل عن الحكواتى الذى يكون أريبًا خفيف الظل صاحب ذاكرة فوتوغرافية، يحفظ الشعر والبطولات القديمة، ويحكى عن كفاح الوطنيين ضد الإنجليز».

لكن كل هذا لم يكن يحدث إلا فى الليالى القمرية خلال الإجازات، فقد كانت الدراسة الابتدائية غاية فى الصعوبة ليس فى مناهجها فقط ولكن فى المشوار الذى يقطعه يوميًا ذهابًا وإيابًا: 

«كنا نمشى إليها زمنًا مقداره ساعة، ونرجع فى ساعة، والدراسة من الثامنة والنصف صباحًا إلى الثالثة بعد الظهر، يوم مشحون بالدراسة العلمية والثقافية والهوايات والنشاط الرياضى. عند عودتى للقرية أمر أمام رجل أعتبره أنا فنانًا كان اسمه السيد المرشدى، ونسميه مطرب القرية، وكان له مستمعوه ومريدوه، أما عم سيد المغنواتى، الذى كان يجيد تقليد السيدة أم كلثوم، فقد أسعده أن عمدة القرية أحضر له عقالًا ليغنى وهو مرتديه مثله مثل الست فى بداياتها. هؤلاء مع عم بسيونى الحكواتى الذى كان مسئولًا عن الصرف الصحى للقرية، ومع ذلك فهو صاحب الدعاية الشقية والأناقة عند الروايات وابتكار الحواديت، وهو صاحب الفرقة؛ حلاق القرية ضابط إيقاع، البقال صاحب الأرغول، صبى القهوة على الدف، ومدرس الحساب عازف العود، فإذا اكتملت الجوقة ارتجل عم بسيونى رواية تنتهى حتمًا نهاية سعيدة. كان الرجل يتفنن فى اختيار الملابس الزاهية ويجعل لكل شخص فى الفريق دورًا وكأنه حسب الحدوتة.. ونجلس جميعًا أمامه باستمتاع بعد صلاة العشاء».

فى صحبة صلاح منتصر وإبراهيم نافع!

لكن القدر جعل صلاح السقا يتجه نحو الفنون أكثر، فقد أُتيح له أن يلتقى كوكبة كبيرة من نجوم مصر فيما بعد فى الدراما والمسرح والإخراج، وجد صلاح السقا نفسه وسط مهرجان مسرحى وفنى بشكل يومى، فهناك فرقة الكلية للتمثيل والغناء، وكانت تقدم عملين مسرحيين فى كل عام، أحدهما على مسرح الريحانى، والثانى على مسرح الأزبكية، وهناك إشراف على التدريبات والنصوص من جانب كبار الفنانين، وعندما نستعرض مع صلاح السقا أسماء هؤلاء المشرفين سنعرف كيف كان شكل وحجم القوة الناعمة فى مصر «الفنان الكبير سراج منير وكان يشرف على الدراما وعمل معه صلاح السقا طوال سنوات الجامعة، والفنان الكبير عبدالمنعم مدبولى وكان مشرفًا على الأعمال الكوميدية، إلى جانب فتوح نشاطى وعبدالرحيم الزرقانى وأحمد علام، ونبيل الألفى وحمدى غيث».

هكذا كانت الجامعة فى ذلك الوقت كما يقول صلاح السقا: 

«هذا ما حدث لنا، ولغيرنا من تلاميذ الجامعة الذين دخلوا إليها منذ عام ١٩٥٤ وما بعدها حتى عام ١٩٦٤، بل قديمًا كنا نصنع أكثر من فريق للتمثيل، فريق ينفق عليه اتحاد الكلية ويسمى الفريق الرسمى، ثم نصنع فريقًا خاصًا نتنقل به من حفل سمر إلى آخر لنشارك الكليات التى لا تمتلك مثل نوابغنا فى الدراما والتمثيل والغناء، وسأذكر لك أسماء من زملاء الكلية والتمثيل: سعد أردش، كرم مطاوع، أكرم الدباغ، نجيب سرور، منير التونى، إسلام فارس، سعيد عبدالغنى، محروس الجارحى، محمد عوض، جمال إسماعيل، فايز حلاوة، عصمت خليل، إبراهيم نافع الذى انتهى إلى عمل آخر هو وصلاح منتصر، فؤاد رضا، عصام الجمبلاطى، محمود يس، سامى العيسوى، عبدالوهاب خليل، وكلية حقوق عين شمس قدمت إلى الفن والإعلام زملاء لهم مكانتهم: أسامة البيرى، كاميليا الشنوانى، محسن سليم، يوسف سليمان. 

تقريبًا هذا هو الجيل الذى عاش معنا الهواية، وعاش معنا المشاركة فى إنشاء المسرح الحر، والعمل أحيانًا فى جمعية أنصار التمثيل والسينما».

لم يتخيل صلاح السقا أن يقع فى غرام الفن لدرجة نسيانه الحلم القديم، فقد كان يفكر فى العودة إلى الدراسة بالبحرية أو بإحدى الكليات العملية، كان يفكر أن يرضى والده وأن يدرس عامًا بالحقوق ويعود لتقديم أوراقه بالبحرية، لكنه اتجه كليًا نحو الفن، وواصل الدراسة بالحقوق حتى تخرج ونام فى صدره حلمه بالحصان الحلاوة. وفكر فى أن يكون طالبًا فى المعهد العالى للتمثيل، لكنه أرجأه حتى يتم قيده فى جدول المحامين. وانضم إلى فرقة الثلاثى الصامت «أبوبكر عزت، عبدالرحمن أبوزهرة، زين العشماوى» ممثلو مشاهد البانتومَيم، وكان هو يؤدى دور من يتغيب عن العرض. ثم إنه قام ببطولة مسرحية «جمعية قتل الزوجات» وشاركته نعيمة وصفى العرض، وقدم مسرحية «عزيزة هانم» إخراج فتوح نشاطى مع جمال إسماعيل ومحمد عوض وسعيد عبدالغنى.

ملحمة الجنود.. ومفاجأة كازينو هافا 

سيعود كل عباقرة هذا الجيل للقاء من جديد، حيث تتعرض مصر للعدوان الثلاثى أثناء تأديتهم الخدمة العسكرية، فتكون مهمتهم الأولى هى رفع معنويات الجنود والترفيه عنهم، وسيكون سلاح الفن حاضرًا بقوة، حيث سيضاف إلى قائمة هؤلاء الفنانين اسم الفنان حمدى أحمد الذى كان موظفًا بهيئة النقل العام، والمسرحى على سالم. يقول صلاح السقا: «ولا أنسى أن الجيش قد قدم برنامجًا إذاعيًا يسمى ركن الجيش، وكان سعد زغلول نصار، المجند معنا، هو المشرف عليه، وكنا نقدم به تمثيليات متطورة أحيانًا مكتوبة بيد المجندين أمثال مصطفى أبوحطب، وخرجنا جميعًا إلى شارع علوى لنصبح ممثلين نتعامل مع الميكروفون الذى بُنيت استوديوهاته فى ماركونى، وهناك تعرفنا على أنور العشرى وكامل يوسف وديمترى لوقا والسيد بدير وعثمان أباظة ويوسف الحطاب وعبدالوهاب يوسف، وتعلمت كيف أتعامل مع المستمع واستفدت من خبرات (فاخر فاخر وصلاح منصور ومحمد الطوخى، وعبدالوارث عسر).. وهكذا بدأنا نمارس حياتنا العملية فى الشارع الفنى المصرى.. وكذا فى القاهرة مع القانون ومكتب الأستاذ المحامى الذى أتمرن فى مكتبه وأحمل عنه قضايا والتوكيل لكى أحضر عنه بعض جلسات القضايا العادية... فى البداية. وهكذا أصبحت مقيدًا فى نقابة المحامين، وعندما تنتهى أعمالنا فى المحاكم نلتقى فى كازينو يدعى هافا، بجوار مسرح الأزبكية».

وهناك على هذا الكازينو ستحدث المفاجأة التى ستعيد ترتيب حياة صلاح السقا من جديد.