رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يا أحمد هذا أبوك.. صلاح السقا.. المذكرات المجهولة لـ«رائد فن العرائس»

 

 

لا أعرف أسماء الذين تآمروا ضد صلاح السقا حتى أبعدوه عن الذاكرة والوجدان، لا أعرف الأسماء كلها، لكن صلاح السقا يحكى فى هذه المذكرات، بوجع كبير، عما تعرض له من ظلم وإبعاد عن مسرح العرائس، حكى عن الآهات التى كان يكتمها وقت أن جاءوا بخبراء أجانب وتركوه، يشكو من إهمال مشروعاته التى تقدم بها لمسرح الطفل، ويتحدث عن دور عبدالقادر حاتم بعد ثروت عكاشة، وكيف تم التعامل معه كغريب داخل المكان الذى كان أحد مؤسسيه. لا أعرف كل الأسماء، وإن كان صلاح السقا يذكر بعض الوقائع التى تثير الحزن والبكاء، إلا أن ما أعرفه الآن، وبكل يقين، أن صفحات من حياة وتجربة فنان مصرى كبير قد تم تمزيقها بفعل فاعل، وأن المصادفة التى أوقعتنى على هذه الصفحات ربما كانت من ترتيبات القدر حتى نستفيق ونعرف أن هناك عباقرة مصريين تم تجهيل دورهم واستبعادهم من المشهد وذبحهم بسكين بارد.

صلاح السقا.. والذين حاربوه 

فى ديسمبر ١٩٦١ سافر صلاح السقا إلى بوخارست لدراسة فن الإخراج فى واحد من أهم مسارح العرائس على مستوى العالم، فى منحة لمدة عام وبدعوة خاصة حملت اسمه، وفى جمهورية رومانيا استقبلوه استقبال الملوك، واستضافوه فى قصر فخم مخصص لكبار الرسامين والموسيقيين والفنانين من كل أنحاء العالم، وهناك صنع معجزات فى فن العرائس، وعاد إلى القاهرة يحمل التفاؤل فى جيب بنطلونه الأيسر، ومشروعات لتطوير فن العرائس وتدريسه لطلاب المدارس فى الجيب الأيمن، لكنه فوجئ بأن الأحلام تتبخر وبأنه أصبح غريبًا على مسرحه الذى أسسه مع ثمانية أشخاص آخرين كانوا حديث مصر كلها من ١٩٥٨: «.. أحسست بنفسى معزولًا، فتقدمت بمشروع للطفل المصرى.. ما يجب أن يُقدم للطفل فى المرحلة الدراسية الأولى. واقترحت أن أؤسس فرقة خاصة للطفل، وتقدمت بالفكرة لإدارة المسرح، لكنهم جميعًا كانوا فى حالة انشغال تام بالخبراء الرومانيين والسوفيت الذين جاءوا وفق بروتوكولات جديدة مع الكتلة الشرقية».

قبلها بعامين فقط كان صلاح السقا يقف بجوار الرئيس عبدالناصر بعد أن صنع مع صلاح جاهين وناجى شاكر وعلى إسماعيل أعظم ملحمة فى عالم العرائس وقدموا «الشاطر حسن» المحفورة فى وجدان أجيال وأجيال، لكن جهات غير معلومة استبعدته وهمّشت دوره فلجأ إلى مسرح محمود شكوكو ليصنع معه مجدًا كبيرًا، وظل صامدًا أمام حملات غامضة ومجهولة داخل وزارة الإرشاد القومى حتى أرسلت إليه جمهورية رومانيا تلك الدعوة التى عاد بعدها ليعيش تجربة هى الأصعب فى حياة الفنان الكبير، وتجاوزها بمساعدة الفنان الكبير محمد فوزى الذى تعاطف تعاطفًا كاملًا مع صلاح السقا، وقدم له أول ألحانه للمسرح، وقدم السقا رائعته «صحصح» التى أعادت لفن العرائس مصريته بعد أن حاول الخبراء الأجانب إلغاء الهوية المصرية.

إن حياة عريضة وتجربة عالمية فريدة واستثنائية عاشها هذا الرجل وسط العرائس دارسًا ومغرمًا ومثقفًا وعالمًا بأهميتها، فلم يكن مجرد هاوٍ أو موهوب صغير تم اكتشافه، لكنه كان مدرسة فنية كبيرة يتحدث الفرنسية والإنجليزية ويتعلم الرومانية، ويدرس كل ما يتم تقديمه لطلاب المدارس فى العالم ليطبقه على مسرح العرائس فى مصر، ستكتشف فى هذه المذكرات أشكالًا وألوانًا من الاضطهاد والاستبعاد التى تعرض لها السقا فى صمت وصبر، نقلوه من مسرح العرائس إلى مكتب خبراء وهمى، تركوه يقوم بتكوين فرقة كاملة للمدارس بمفرده، وبعد نجاحه حاولوا اغتيال حلمه بتشكيل فرقة مشابهة، لكنهم فشلوا وبقى السقا وتجربته.

ستكتشف أيضًا رحلة طفل لم يكن يحب العرائس فى طفولته وظل يحلم بدخول الكلية الحربية ليصبح فارسًا على حصان، وليس مجرد عروسة من القطن، وفى رحلة التعليم التى بدأت من كُتاب القرية إلى كلية الحقوق بالعباسية ثم العمل بالمحاماة وحتى المشاركة فى تأسيس مسرح العرائس ظل هو نفس الطفل الذى يحلم ويعافر ويتحمل قسوة الكبار وجبروتهم وتعنتهم ضده، وكلما حاولوا تهميش دوره أثبت لهم ولنفسه أن عشقه لفن العرائس أقوى من ضغائن البشر، فعلوها معه كثيرًا ونهض على قدميه وصنع كل ما يستطيع فنان مصرى أن يصنع لبلده، لكنهم فى نهاية الطريق أيضًا استبعدوه وغيّبوا اسمه عن الناس لدرجة أن معلومة واحدة غير متوافرة عن رجل بهذا الدور وتلك المسيرة، خمس كلمات عن مولده ورحيله وجائزته التى حصل عليها هى كل ما تمتلك المكتبات والسوشيال ميديا فى مصر عن رائد فن العرائس الحقيقى صلاح السقا!

وعندما تقرأ المذكرات تشعر بين سطورها بالظلم الكبير الذى تعرض له رجل لا يقل فى دوره الرائد عن دور سلامة حجازى أو جورج أبيض والريحانى وسيد درويش وراغب عياد ومختار فى بعث وإعادة الروح للفن المصرى على مختلف مستوياته فى القرن العشرين، فقد سبق المسرح ثم جاء الفن التشكيلى بنهضته بعد إنشاء مدرسة الفنون الجميلة بالزمالك، وأصبح المسرح الغنائى يقترن بتيمور وسيد درويش والريحانى والمهدية والكسار، واقترن المسرح الشعرى بأحمد شوقى وعزيز أباظة وأحمد باكثير. لكن هذا الفن لم نعرف بوجوده ومفرداته المتطورة عن خيال الظل ومسرح الأراجوز إلا فى عام ١٩٥٧ مع ظهور الرواد الثلاثة «جاهين، ناجى شاكر، صلاح السقا» كل له دوره، وكل له ميدانه، والجميع يكمل الفريق، فلماذا سقط صلاح السقا من الذاكرة؟!

من هنا تكتسب الصفحات التى عثرت عليها قيمتها الحقيقية، فقد تعرض هذا الرجل لاضطهاد وملاحقة واستبعاد وتجهيل وتعتيم مقصود، فكيف حفظنا اسمى صلاح جاهين وناجى شاكر وسيد مكاوى، ولم نحفظ اسم صانع كل هذه البهجة الفنان والرائد صلاح السقا؟!

أنا والسيد الوالد وإبراهيم نافع وصلاح منتصر

هل كان السيد الوالد موافقًا على عمل ابنه بالتمثيل؟ هل كان يعرف أصلًا أن ابنه ترك المحاماة واتجه إلى عالم العرائس؟!

لا يستفيض صلاح السقا فى الحديث عن والديه إلا فى مواقف بعينها، فإن كانت السيدة الوالدة، رحمها الله، قد ساعدته فى الخروج من البيت بعد صلاة العشاء لمتابعة السامر فى القرية أيام طفولته المبكرة، فإن الأب المعمم والملقب بالشيخ كان يحلم به وكيلًا للنيابة، وصلاح نفسه ورغم عشقه الفن فإنه قرر أن يستكمل حلمه القديم كضابط وفارس مثل حصان السكر الملون، وبالفعل ذهب إلى الإسكندرية وقدم أوراقه التى كانت تنقصها شهادة ميلاد فقط، وعندما عاد لإحضارها كان السيد الوالد قد دفع بأوراقه كاملة إلى كلية الحقوق جامعة عين شمس بالعباسية، وأن المصاريف قد دُفعت وأنه أصبح طالبًا نظاميًا بها، وأن والده طلب منه أن يستعد ليصبح وكيل نيابة أو قاضيًا.. أما كيف عرف الأب حقيقة عمل الابن بمسرح العرائس؟ فكانت مفاجأة كبرى بحضور جمال عبدالناصر بنفسه.

عمومًا، فإن القدر كان يحمل الفن إلى صلاح السقا داخل كلية الحقوق العريقة التى تكشف المذكرات دورها فى تقديم عشرات من نوابغ الفن من خلال فريق الكلية ثم منتخب الجامعة للتمثيل.

لا تخلو حياة صلاح، التى يروى جوانب منها فى هذه المذكرات، من مفاجآت، فلك أن تتخيل أن «أبوبكر عزت، عبدالرحمن أبوزهرة، زين العشماوى» صنعوا معًا فريقًا للتمثيل الصامت أو البانتوميم، وأن صلاح السقا انضم لهذه الفرقة بعد التخرج فى كلية الحقوق، وفى فترة انتظاره القيد بجدول المحامين، حفظ أدوار الثلاثة وحركاتهم، لأنه كان ينتظر غياب أحدهم ليقوم بدوره، ولك أن تتخيل أيضًا أن الكاتب صلاح منتصر كان ممثلًا بجوار الكاتب إبراهيم نافع وصلاح السقا فى مرحلة الجامعة!!، وأن فريق التمثيل فى الفترة من ١٩٥٤ إلى ١٩٦٤ ضم إلى جانب هؤلاء: «سعد أردش، كرم مطاوع، نجيب سرور، سعيد عبدالغنى، محروس الجارحى، محمد عوض، جمال إسماعيل، فايز حلاوة. محمود يس»، وتقريبًا هذا هو الجيل الذى شارك فى إنشاء المسرح الحر، والعمل أحيانًا فى جمعيه أنصار التمثيل والسينما.

عن المذكرات وحكايتها

صحيح أننى عثرت على المذكرات بالصدفة فى سور الأزبكية، لكنها ليست أوراقًا وصورًا وميداليات كما جرت العادة فى العثور على كنوز فنانينا بكل أسف، لكننى عثرت عليها محشورة فى ثنايا كتاب صادر عن إدارة النشر والترجمة بوزارة الثقافة، المركز القومى للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية عام ١٩٩١، بعنوان «صلاح السقا عرائسنا العزيزة تحياتى» من تأليف الدكتور فؤاد رضا رشدى، ومن الصعب توافر نسخ منه إلا بتلك المصادفة التى كانت من حظى، والمؤلف ليس كاتبًا محترفًا لكنه عاشق فن العرائس أولًا وصديق محب ومخلص لصلاح السقا ومؤمن بموهبته لدرجة أنه قرر التفرغ لتسجيل مسيرته مع عالم العرائس الساحر، واستفاض الفنان فى حكى تجربته التى لا أظن أن الفنان أحمد السقا نفسه يعرف جوانبها وخفاياها التى حكاها عن رحلته ومشواره والعراقيل والظلم والصبر والتاريخ الذى حمله على ظهره وحيدًا.

ومن الواضح أن صلاح السقا قد خصّ الدكتور فؤاد رضا بهذا الحكى لما بينهما من صداقة قديمة، أشار إليها المؤلف فى المقدمة، فقد تزاملا فى فريق التمثيل بكلية حقوق عين شمس «القديمة بالعباسية»، ثم انقطع الخيط بينهما حتى أصبح صلاح السقا مسئولًا عن مسرح الفنان الراحل محمود شكوكو للعرائس بحديقة الأزبكية قبل نهاية الخمسينيات، ثم تطورت علاقتهما أثناء عمل السقا مع صديقهما المشترك صلاح جاهين.

من يومها، كما يقول المؤلف، وهو مشغول بصلاح السقا ليس كشخص ولكن لأنه العمود الأساسى فى فن العرائس موضع بحثه، وهو الفن الذى انشغل به الدكتور فؤاد طويلًا وبحث عن أسراره عند أساتذته وعباقرته بداية من رشدى صالح وراجى عنايت مرورًا بالدكتور عبدالحميد يونس وفتوح نشاطى، كان المؤلف مشغولًا بالبحث عن أسرار فن العرائس أكثر من انشغاله بتدوين مذكرات السقا كاملة. 

ومن الواضح أنها كانت رسالة للماجستير أو الدكتوراه للبحث عن أصول فن «العروسة»، وهل هى أحد أشكال الفنون الشعبية أم وسيلة تعبيرية قادرة على استيعاب المعانى والأفكار وإيصالها للجمهور، شأن أى وسيلة فنية أخرى؟ هل العروسة «الدمية» لا تستطيع مخاطبة البالغين؟

يقول المؤلف: «وفى الحقيقة فإننى قرأت مباحث تعتمد على التراث المتراكم لهذا الفن على مر العصور وفى مختلف بقاع العالم، ولكنى ركزت اهتمامى على حاضر وتطور هذا الفن ووجدت أن نتائج هذا كله يمكن أن تسهم فى نشر الثقافة العرائسية النظرية والعملية، إذا جازت التسمية، لذا رأيت أنه من واجبى فى الجزء الأول من هذا الكتاب (عرائسنا العزيزة.. تحياتى) أن أهتم بالجهد العملى مع تناول سيرة أحد الرواد، وأن أقدم الحصيلة النظرية مع آخر ما انتهى إليه التجريب فى بعض الحركات الفنية، مع مناقشة جماليات فن العرائس فى الجزء الثانى من هذا الكتاب وهو بعنوان (فن المعجزة)..».

لذلك حمل المؤلف كل هذه الأسئلة الشائكة فى عام ١٩٨٩، وذهب بها إلى الرائد الأول صلاح السقا، ونقل المؤلف الحوار بينهما على طريقة تفريغ الشرائط المسجلة، فترك السقا يتحدث من غير ترتيب أو مراجعة للتواريخ والأسماء التى تأتى ضمن الوقائع التى يرويها، وأحيانًا يروى الفنان القصة أكثر من ثلاث مرات بتفاصيل إضافية عن كل مرة، وأحيانًا يتوه الحديث عن الرحلة وتتابعها إلى حديث مطول عن العرائس وفنونها وأشكالها، وكان هذا مرهقًا للغاية فى تقديم هذه الصفحات بعد ترتيبها وتدقيق معلوماتها وتحديد أسماء المسئولين عن هيئة المسرح آنذاك، ولا أقول إننى وثقت كل المعلومات الواردة فى حديث الفنان صلاح السقا، لكننى اجتهدت وسأترك الباب مفتوحًا لتصحيح أو تصويب أى خطأ.

ورغم كل الصعوبات التى واجهتنى فى ترتيب هذه الأحداث حسب مراحلها الزمنية، وتدقيق معلوماتها الذى استغرق وقتًا طويلًا، فإننى استمتعت بإعادة اكتشاف رائد فن العرائس وبتأمل مسيرته وتجربته فى هذا المجال تحديدًا، ما هذا الرجل العظيم الذى لم يتح لأحد أن يقرأ سيرة حياته، أو حتى يعرف دوره المهم فى تاريخ الثقافة والفنون المصرية، ولو كنت مكان الفنان الكبير أحمد السقا لتركت ما فى يدى وأعلنت عن تأسيس أكبر مسرح للعرائس فى الشرق الأوسط يعيد أسطورة «صلاح السقا» وزمن فن العرائس، خاصة أن لدينا مجموعة كبيرة من الشباب وأصحاب الخبرات «محمد فوزى، وعاطف شهبة، والباحث الكبير نبيل بهجت» فى هذا المجال ويعانون معاناة كبيرة فى توصيل فكرة فن العرائس وأهميتها فى حياة الطفل، وتنشئته وتوسيع مداركه ومخاطبة خياله.

ويا أحمد.. هذا أبوك، ولك ولنا بالطبع كل الفخر بمسيرة هذا الرجل التى أسهمت فى تشكيل وجدان أجيال.