رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رفاعة الطهطاوى.. وثيقة زواج

 

 

لو أنك، الآن عام ٢٠٢٣، قلت لرجل صعيدى: اعقد قرانك على زوجتك واكتب لها فى العقد أنك إذا خنتها يصبح الزواج بها ملغيًا من تلقاء نفسه، وجرب ماذا سيقول لك الرجل الصعيدى، أو الشرقى عامة، إنه لن يرفض بشدة فحسب بل وقد يقطع علاقته بك على أساس أنك مخرّف.

ومع ذلك فقد قام أحدهم بكتابة مثل ذلك العقد، ومن تلقاء نفسه، منذ نحو مئتى عام حين كان التشدد أقوى، والنظرة إلى المرأة وحقوقها أدنى، وذلك سنة ١٨٤٠! وسجل بخط يده فى عقد زواجه بابنة خاله: «التزم كاتب الأحرف رفاعة بدوى رافع لابنة خاله المصونة الحاجة كريمة بنت العلاَّمة الشيخ محمد الفرغلى الأنصارى أن يبقى معها وحدها على الزوجيَّة دون غيرها من زوجة أخرى أو جارية أيًا ما كانت وعلَّق عصمتَها على أخذ غيرها من نساء أو تمتع بجارية أخرى.. فإذا تزوَّج بزوجة أيًا ما كانت تعد بنت خاله بمجرد العقد خالصة بالثلاثة». ولك أن تتخيل فلاحًا صعيديًا منذ مئتى عام انقضت يكتب عقد زواج كهذا! 

إنه رفاعة رافع الطهطاوى أبو الثقافة المصرية الحديثة كلها، الذى توفى عام ١٨٧٣ فى ٢٧ مايو، وانتبهت بعض الجهات الثقافية إلى ذكرى رحيله، والذى تظل وثيقة زواجه إشارة إلى معجزة التحرر والتنور حين يتشبع به الإنسان من داخله وليس من خارجه، بنفسه كلها وليس بظاهر عقله فحسب. 

ولتدرك دلالة وثيقة زواج الطهطاوى لا بد أن تتخيل أن من سجله فلاح صعيدى اخترع صيغته وكتبه منذ مئتى عام! إنه الطهطاوى الذى رسم آمال الأوطان جميعًا حين أتى بالفكرة التى صاغها على النحو التالى: «فليكن الوطن محلًا للسعادة المشتركة، نبنيه بالحرية والفكر والمصنع»! 

منذ مئتى عام أدرك ذلك الفلاح العظيم على أى دعائم تُبنى الأوطان وبأى ركائز تتحقق «السعادة المشتركة». وفى عام ٢٠٠٩ كانت المستشرقة المعروفة فاليريا كيربتشنكو تترجم إلى الروسية كتاب الطهطاوى المعروف: «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز»، وللقارئ أن يتخيل حجم الصعوبات التى تواجه مترجمًا حين يعكف على كتاب ممتلئ بصياغات وكلمات بعضها مهجور وبعضها غير مفهوم! وكنا نتراسل بالإيميل أنا ود. كيربتشنكو لنتبادل الرأى حول تفسير الكلمات، وخطر لى أن أرسل إليها عقد زواج الطهطاوى، وفرحت به للغاية، وقامت بنشر صورة العقد فى الكتاب الذى قالت فى مقدمته: «إن كتاب تخليص الإبريز كان الخطوة المصرية الأولى لانفتاح مصر على أوروبا». 

أما بهاء طاهر فى كتابه «أبناء رفاعة» فيقول عن الطهطاوى: «إن مصر تدين للطهطاوى بأكبر فضل فى التغيير الثقافى الذى غيّر وجه الحياة، إذ أرسى مُثُل الحرية والمساواة والأخوة الوطنية». وقد كانت رحلة رفاعة من طهطا إلى القاهرة ومنها إلى باريس هى رحلة خروج مصر من الظلام إلى النور معتمدة فقط على حدسها وعزمها وذكاء أبنائها واستشرافهم لحياة العلم والاستنارة والتقدم. وفلاح عظيم ومثقف نادر مثل الطهطاوى كان يستحق مهرجانًا ثقافيًا واسع الأصداء، لكنه من دون ذلك يبقى علامة باهرة فى تاريخ الشعب المصرى، وصلب ثقافته وتطوره.