رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

آخرة السهر مع آل باتشينو

هل كان هو فعلًا آل باتشينو الذى كان يجلس هنا؟ أم هى خيالات الوقوف على الحواف؟ ماذا جاء به إلى شقتى وهو الذى اشترط طائرة خاصة للحضور إلى مهرجان القاهرة السينمائى؟

ولماذا غادر إذا لم تبدر منى أى بادرة تجعله يفعل ذلك؟ حتى إننى جاهدت أن أجعل من صحبتى غير مملة أو مضجرة؟! قلت له من النكات ما لم أعتد عليه، واجتهدت فى إلقائها بطريقة جاذبة أو مضحكة.. امتيازنا كمصريين الذى جعل منا «أولاد نكتة» ليس فى قدرتنا الفذة على استخراجها من منغصات الحياة وأظلم لحظاتها فقط، بل فى الأداء، أو ما يسمونه العرض، «الطريقة يعنى»، المصرى يلقى نكتة سمجة وقديمة ومضجرة بطريقة لا مفر لك قدامها إلا أن تفطس على نفسك من الضحك عند سماعها، وإن كان يعيدها عليك للمرة العاشرة بعد الألف، هى موهبة ضمن سلسلة من المواهب التى ورثها أبًا عن جد، بعضها من بعض، وبعضها يسلم بعضًا.

أعرف أننى لم أكن يومًا من الموهوبين فى أداء النكات أو حفظها أو حتى إلقائها بطريقة مريحة، لكننى أعرف أيضًا أن شقة التحرير، التى لم يدخلها غير أعداد محدودة ومنتقاة من الأصدقاء، ضجت فى تلك الليلة بخليط من الضحكات المبهجة، أكثرها بهجة كانت ضحكة الكولونيل «فرانك سليد» التى لم يرها أحد، أو قل لم يتوقف عندها أحد، فلم تزد خلال «عطر امرأة» عن لقطات سريعة وعابرة، منها مثلًا عندما أوقفه ضابط المرور وهو يحاول أن يحتال عليه أو يروض صرامته لقيادته «الفيرارى» متجاوزًا السرعة.. ومنها وهو يحاول الزج برفيقه الشاب «تشارلى سيمز» إلى الوقوع فى شباك «دونا»، عندما كان يحاول تعريفها به، فسبقته إلى اسمه، فابتسم غامزًا الولد: «شى لايكس يو.. هى معجبة بك».

لا أظن أنه كان هنا، وأغلب الظن أنه افتقاد الونس، ليس غيره.

لم يأت أشرف عبدالشافى كما وعدنى، ولم يهاتفنى عبدالحفيظ طايل لكى ألحق به فى «الجريون»، ولم يسألنى أحمد عبدالعليم إن كان بالإمكان أن أمر عليه فى «زهرة البستان»، ولم يكتب لى محمد الباز طالبًا أن آمر بإعداد الشيشة فى انتظاره.

على أية حال، كان هنا أم لم يكن، تحدث معى وتحدثت إليه أم لم تكن هنالك كلمات بيننا، أم لم يكن أى كلام على الإطلاق.. ربما يكون ما حدث مجرد مبرر لى لكى أكتب هذه الكلمات.. كل الكلمات بحاجة إلى سبب، لنطقها، لكتابتها، لورودها على الخاطر، وحده الصمت لا يحتاج إلى أسباب، مثله مثل الحب تمامًا، لا تدرى ماذا جاء به إلى وسادتك، أو طاولتك أو حجرة مكتبك، أو مقعدك فى الميكروباص أو على كورنيش النيل.. هو يأتى هكذا، دون مقدمات، أو أسباب، ودونما تفاصيل، والمرأة لا تسأل حبيبها عن السبب الذى جعله يحبها إلا لأنها تمر بلحظة تريد فيها بعض الإطراء، ولو «هو كده، بحبك وخلاص»، بالطبع يكون الأمر ألطف لو أضاف بعض الصفات، ليس مهمًا أن تكون صفات مستحسنة أم لا، ليس شرطًا على الإطلاق، فلو قال لها مثلًا إنه يحبها لأنها «عنيدة ورأيك من دماغك»، سوف تسمعها على أنها «مستقلة بذاتها، وأن شخصيتها غير منقادة»، وأنه يستصوب آراءها، ويحترمها أو يقدرها على الأقل.

على أننى أظن أنه من المناسب أن أوضح هنا، قبل أن أنسى، أننى عندما قررت كتابة هذه الكلمات لم يكن فى خاطرى أننى أكتبها لنا، أحياء هذا الجيل، أو مجموعة الأجيال المتقاربة، فهذه الكلمات ليست لنا، لسبب واحد وبسيط، ملخصه أن أغلب ظنى أنه ليس فينا، أو ليس منا مَن لا يعرف مَن هو ألفريدو جيمس باتشينو، على الأقل لما للسينما من سحر لا يقاومه إلا جاهل أو جاحد أو مختل العقل أو متطرف مصاب بخلل فى القياس، يقوده إلى الجمود والموت فى عز الحياة.

هى كتابة موجهة للأجيال التالية، التى ربما لن يصلها علم بمن هو آل، وإن كنت آمل أن يكون لديها منه «جوه»، وأغلب الظن أنه سيكون لديهم منه، ومن غيره، بتنويعات تناسب وقتهم وظروف حياتهم، على أننى أريد أن أقول لهم إننا، «أجدادكم القدماء»، عشنا حياتنا، وانبسطنا بها، وكانت لدينا مبررات وأسباب بهجتنا، كان لدينا آل باتشينو ورفاقه من كبار العامة والخاصة والبين بين، عِلية خلق الله وصفوته، القادرون على تحريك الهواء، وإمالة الحجر، أولئك الذين تمر أرواحهم بين أوراق الشجر فيكون النسيم، ويكون المطر، كان لدينا السير دانيال دى لويس، واللواء محمد عبدالوهاب، وكان لدينا أنتونى هوبكنز ومارلون براندو وروبرت دى نيرو وأحمد زكى وعادل إمام، كان لدينا صوت أم كلثوم وعبدالحليم حافظ، وكلمات مأمون الشناوى ومرسى جميل عزيز وعبدالرحمن الأبنودى وسيد حجاب، وكان لدينا بليغ حمدى، وسعاد حسنى وكيت وينسليت، وشادية وليلى مراد، كان لدينا نصرالدين طوبار وسيد النقشبندى ومصطفى إسماعيل ومحمد رفعت، وكان سيد مكاوى وصلاح جاهين، ووحيد حامد ومحمود الخطيب ومحمد صلاح.

غادرنى العجوز الفاتن دون مقدمات، وكما وجدته فى صالة شقتى دون استئذان، عدت من الحمام لأجده اختفى، هكذا، كأن شيئًا لم يكن، لا سلام ولا كلام.. لم يهتم كثيرًا بما يمكن أن أظن فيه، ولا بما يمكن أن أكتب عنه.

قال ما قال ومضى، وكانت مفاتيحى ما زالت فى مكانها بباب الشقة حسبما تعودت، ولكننى عندما أمسكت بها أدركت أن الباب مفتوح من الداخل، حملت هاتفى المحمول وأضأت السلم وأنا أنصت لسماع صوت خطواته تهبط السلم، لكننى لم أسمع أى شىء. 

جريت إلى البلكونة لكى أراه وهو يغادر، لكن لم يكن هناك أحد.

■ من كتاب يصدر قريبًا بعنوان «سهرة مع آل باتشينو»