رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«72 طريقة للقضاء على حب الشباب»

شاهدت مؤخرًا على مسرح الجزويت العرض المسرحى «٧٢ طريقة للقضاء على حب الشباب»، تأليف وإخراج محمد عادل وبطولة جماعية لمجموعة من شباب المسرح.

ورغم ما فجّره العرض من ضحكات، إلا أنه كان عرضًا موجعًا ينتمى إلى ما يسمى وفقًا للتصنيفات المسرحية بالكوميديا السوداء، حين ينبع الضحك من عمق المأساة.

ويتناول العرض مأزق الانتظار الذى يعانى منه العديد من الشباب المرهونين فى طوابير الانتظار، انتظار فرصة للعمل وفرصة للحب والزواج، وفرصة للتحقق أيًا كان نوع الفرصة، لكنهم كلما مر الوقت يجدون أنفسهم فى انتظار ما لا يأتى.

وتتكرر على مسامعهم من الحين للآخر دقة التنبيه المعهودة والتى تعقبها الجملة المعهودة التى ألفناها طول العرض «يرجى الانتظار»، يتململ الشباب ويمارسون جميع الألعاب والتحايلات الممكنة وغير الممكنة لتمضية الوقت، منتظرين دقة التنبيه الذى سيعقبها استدعاء رقم أو اسم أى منهم، لكننا لا نسمع سوى الجملة المُعادة للأبد «يرجى الانتظار».

تأملت الشباب الواقفين على خشبة مسرح الجزويت حُفاة- الذى قدم للتو عرضًا فنيًا متماسكًا ومتكامل العناصر وبسيطًا، والذى اتفقت الفرقة على تخصيص عائده بالكامل، لدعم إعادة بناء مسرح الجزويت- وتداعت إلى ذهنى العديد من الأفكار، فهذا الجيل رغم ما يروج عنه من سلبيات، لديه شعور بالمسئولية والانتماء، فالجزويت هو المكان الذى تدرب فيه معظم هؤلاء الشباب على فنون المسرح، وعلى رأسهم مؤلف ومخرج العرض المسرحى محمد عادل.

ويعكس هذا السلوك أن الشباب ما زالوا محتفظين فى عمقهم ببعض من أمل، حتى وإن لم يدركوا ذلك، ولكن هل يدرك صُناع هذا العرض من الشباب تلك المفارقة؟.. أن وقوفهم على خشبة المسرح لتقديم عرض مسرحى بهذا الجمال والحساسية، والتبرع بعائده لبناء المسرح، إنما هو مؤشر على أنهم ما زال لديهم أمل، وأنهم قادرون على إلهامنا من حيث لا يدرون.

أتذكر أيضًا الجهد الذى بذلته أنا وزملائى من العاملين بالمسرح المستقل، «الفرق غير الحكومية»، لنفتح منفذًا صغيرًا للأمل ليحصل منه شباب المسرح على فرصته، فى ظل الحجم المحدود لمخصصات الإنتاج المسرحى فى الدولة، والعدد الكبير للفرق التى تطلب الحصول على دعم.

وجدتنى أنظر خلفى إلى ٢٨ عامًا مضت، هى عمر حركة المسرح المستقل، عمر حركة مسرحية شابة رفضت كل الصيغ الجاهزة، وتحدت كل القوالب الإنتاجية والفنية، وقدمت عروضًا تشى بحساسيات جديدة، ومنحتنا وعودًا متجددة بتحقيق الدهشة. 

فى هذا الوقت، كانت المطالبات بدعم الدولة للمسرح المستقل تتزايد، فيرفع حازم شحاتة شعاره الشهير «فرق حرة + دعم»، وتساند الدكتورة نهاد صليحة الحركة وتدافع عنها، وتطالب بحقوقها فى تمثيل مصر فى المهرجانات الدولية والمحلية.

وتذكرت كيف دعمت الدكتورة هدى وصفى جيل التسعينيات من الفرق المستقلة، ومن الجماعات الأدبية والفنية المستقلة، عبر فتح أبواب مسرح الهناجر لإبداعاتها وتوفير خبراء المسرح فى العالم لتدريبها.

وكانت العروض تقدم بمركز الهناجر للفنون، وقد كتب على الأفيش مركز الهناجر للفنون يقدم فرقة «الحركة/ المسحراتى/ المختبر/ القافلة»، كانت إدارة الهناجر واعية بأن دعم فرقة مستقلة مع الحفاظ على هويتها واسمها هو دور ثقافى مهم، بينما الآن لا يحق للمخرج وضع اسم فرقته، حتى وإن كان العرض المسرحى يمثل الهوية الفكرية والفنية للفرقة.

كان المسرح المستقل يلمع كنجمة ويشع ضوءًا كشمس، فما الذى حدث؟ كيف ومتى انقسمت حركة المسرح المستقل؟ كيف ومتى انفصلت الدوائر؟ كيف ومتى صارت فرق المسرح المستقل تعمل فى جزر معزولة عن الحركة المسرحية؟

ولماذا تخلت الدولة عن دورها فى دعم المسرح المستقل، محتفظة بتمثيل ضعيف له فى بعض المهرجانات المحلية، كما ضيقت عبر لجانها ومؤسساتها على إمكانية سفر فرقة للمشاركة فى المهرجانات الدولية، مصنفة إياه ومصنفة لهم فى خانة الهواة، بلا تعريف واضح لمفهوم الهواية والاحتراف؟ 

وقد تكونت صيغة المسرح الحر المعاصر فى أواخر الثمانينيات بظهور عدد قليل من الفرق المستقلة، ثم جاء الميلاد الرسمى لهذا التيار فى المهرجان الأول للمسرح الحر ١٩٩٠، الذى ملأ ثغرة إلغاء مهرجان المسرح التجريبى حينها بعد غزو العراق للكويت.

وتأسست هذه الفرق بواسطة مجموعة من الفنانين الذين لم تستوعبهم حركة المسرح المصرى حينها، متمثلة فى مسرح الدولة ومسرح القطاع الخاص، سواء لأنهم كانوا حملة رؤى فكرية جريئة «سياسية أو اجتماعية»، وأفرز احتياجهم المغاير للإفلات من الرقابة صيغة مغايرة، أو لأنهم فنانون شباب لم يجدوا ثغرة لدخول مؤسستى الدولة والقطاع الخاص، نظرًا لهيمنة العاملين فيهما على مقاليد الأمور، واقتصار العمل فيهما على أشخاص بأعينهم.

وعند التحضير لمهرجان المسرح الحر الثانى عام ١٩٩٢، تواكبت مع ذلك الذكرى السنوية لرحيل الأديب الدكتور يوسف إدريس، وفكر المنظمون من نقاد ومخرجين فى تطوير الحدث، فطُرحت فكرة التسابق بين العروض المشاركة وخلق مسابقة موازية تتناول أعمال يوسف إدريس.

وأظهر هذا التسابق اتجاهًا جديدًا لدى تلك الكيانات المشاركة، ووضع معيارًا جديدًا لمفهوم المسرح المستقل، وهو «المشروع الفنى»، فكانت تلك اللقاءات الحرة مُحرضة على إظهار التوجهات الفنية لدى الكيانات المستقلة المختلفة. 

وبداية من المهرجان الثالث، بدأت تتبلور فكرة «المشروع الفنى»، وظهرت عدة كيانات تمتلك فكرًا مسرحيًا جديدًا، وعلى مدى سنوات التسعينيات تحققت الاستمرارية المهنية لهذه الكيانات على مشروعاتها الفنية، ما ساعد على وضع معيار جديد لمفهوم الفرقة المستقلة، وهو الاستمرارية رغم معوقات الإنتاج والعرض بشكل منتظم.

وعلى مدى السنوات التالية للقاءات المسرح المستقل، بدأت الكيانات المسرحية فى تطوير إمكاناتها الفنية وعناصرها المسرحية المختلفة، وبات ينتمى إلى هذه الكيانات ممثلون ومخرجون ومصممو إضاة وديكور محترفون، بمعنى أنهم اتخذوا من هذه العناصر مهنًا لهم درسوها وعملوا بها لسنوات.

ومثل عدد من العروض مصر فى مهرجانات ولقاءات دولية، ما وضع هؤلاء الفنانين المستقلين وكياناتهم المسرحية على خريطة المسرح العربى والعالمى بقوة.

وظلت دقات التنبيه التى يعقبها «يرجى الانتظار» فى خلفية المشهد، حيث ظلت تتجدد وعود الدعم بداية من وزير الثقافة الأسبق فاروق حسنى، الذى وعد بدعم ١٠ فرق، لكن صندوق التنمية الثقافية تحجج بعدم مشروعية وضع الفرق المستقلة، ما دفع بالعديد من الفرق إلى تكوين جمعيات ومؤسسات أهلية، إلا أن تلك المشروعية لم تغير شيئًا فى الأمر.

ثم كانت ثورة ٢٥ يناير وبعدها ثورة ٣٠ يونيو لتكونا نقطة تحول تاريخى، فظهر المسرح المستقل عبر ما أنتجه من وعى مفارق خلال عروضه فى الميدان، وعبر المشاركة بفنانيه وأفراده فى الفعاليات المختلفة.

كانت تلك المرحلة نقطة فارقة، وكان التغير السياسى حينها يفتح بابًا جديدًا للأمل، وبالفعل أعلن عماد أبوغازى، وزير الثقافة الأسبق، فى يوم المسرح المصرى، عن مشروع لدعم الفرق، وتخصيص مسرح أوبرا ملك للفرق المستقلة، ثم عادت الأمور لنصابها مع استقالة عماد أبوغازى وعاد خطاب المؤسسة الذى يستنكر دعم الفرق المستقلة. 

ثم جاء الدور الفارق الذى لعبه عدد غير قليل من أعضاء الفرق المستقلة فى ثورة ٣٠ يونيو، بمشاركتهم فى الاحتجاجات ضد حكم الإخوان ومشاركتهم الفعالة فى اعتصام وزارة الثقافة، حيث كان بعض تلك الفرق تتطوع بالمبيت حماية للاعتصام.

ونظمتُ عبر الملف الذى توليت مسئوليته بالمجلس الأعلى للثقافة «التنسيق والتواصل مع مؤسسات المجتمع المدنى والوزارات والهيئات المعنية بالثقافة»، ورشة بعنوان «بروتوكول وآليات دعم المسرح المستقل»، ورفعت نتاجها للأمين العام للمجلس حينها الدكتور محمد عفيفى، الذى رفعه بدوره إلى وزير الثقافة حينها أستاذى الدكتور جابر عصفور، رحمه الله.

وهنا صادفت نتاج الورشة إدارة واعية وإرادة تغيير حقيقية، ما جعلنا جميعًا نحتفل بصدور القرار الوزارى رقم ١٠٨ لسنة ٢٠١٥، بإنشاء وحدة دعم المسرح المستقل، كوحدة تختص بوضع الخطط والسياسات العامة المتعلقة برعاية الدولة للنشاط المسرحى المستقل «فرقًا وأفرادًا»، ووضع ضوابط ومعايير وآليات صرف الدعم السنوى «مالى ولوجستى وبناء قدرات»، المزمع تخصيصه لأنشطة الفرق المسرحية المستقلة ومتابعته.

وعمل مجلس أمناء الوحدة، عقب صدور القرار، على وضع لائحة تنظم عملها وتحدد آليات وضوابط الدعم، وأُرسلت لوزير الثقافة لاعتمادها، إلا أنه ومن حينها لم يتم اعتماد اللائحة ولم يفُعّل القرار، وتعاقبت الوزارات ولم تعتمد اللائحة.

ربما تكون الفرصة مواتية لأن يجدد شباب المسرح أملهم فى وزيرة الثقافة، بتفعيل وحدة تختص بدعم مسرحهم فى مختلف أنحاء مصر، بميزانية أقل مما يصرف على عرض واحد من عروض مسرح الدولة.

وهنا نستطيع القول إن المسرح وفعاليته وعلاقته بالمتغيرات الاجتماعية والسياسية هو أمر لا نستطيع تجاهله، ولا أن نترك شباب المسرح ما بين الرجاء والأمل يتساقطون ويتناقصون ويعانون من عدم توافر الدعم الملائم وندرة دور العرض المستقلة، ويستهلكون فى تعقيد الإجراءات الحكومية والموافقات التى يحتاجونها حال تقديم عرض مع الرقابة والمصنفات الفنية، أو فى حالة السفر مع العلاقات الثقافية الخارجية التى تعطى الأولوية عادة لفرق المسرح الحكومى، حتى لو كانت عروضها أقل فى جودتها الفنية. 

أخيرًا.. يحتاج شباب المسرح الموهوبون إلى آليات لتمكينهم، يحتاجون إلى فرص حقيقية تستهدف الموهوب منهم، بعيدًا عن الشِلل والوسائط والمجاملات، حتى لا يضيع شبابهم وهم منتظرون أمام بوابة الأمل، وكلما ظنوا أنه قد حان الوقت لتفتح لهم الأبواب تباغتهم الرسالة الصوتية المكررة: «يرجى الانتطار».