رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

توجهات مُعلّبة فى النشر للأطفال

ما زالت أغلب دور النشر تعتمد القوالب الجاهزة والأفكار المُعلّبة فى الكتابة للطفل، دون أى مراعاة لإمكانياته الحالية وتطلعاته، وحصيلته اللغوية مستمرة النمو والتنوع، حتى فى تناول الكتب التعليمية تصر على تقديم  أفكار مبسطة إلى حد التفاهة واستفزاز عقلية الطفل 
ومن كثرة ما تقدمت بأفكارى لكثير من دور النشر وتم رفضها، لأنها تحتوى على فلسفة ورمزية، أو أنها مباشرة وواضحة.

 فقد كنت على وشك الدخول إلى تلك القوالب والتكبل بها .. من باب السوق عايز كده والمصلحة تحكم .. رغم أنى أرى تلك المرونة والانسيابية والتنوع فى الخيال والأفكار فى الكتب المترجمة التى قد تتبناها الدور نفسها التى رفضت أفكارى لنفس الأسباب ..  إلى أن وقع فى يدى كتاب لكاتب مصرى عظيم الشأن تعجبت أنه يكتب للأطفال. فقد اعتاد كتابة الكتب التاريخية شأن كتب (صلاح الدين وعصره، فتح العرب لمصر، أبو الفوارس عنترة، الملك الضليل امرؤ القيس، السيد عمر مكرم) وكثير من العناوين للكاتب العظيم محمد فريد أبوحديد  التى تشير إلى قدراته فى امتلاك زمام اللغة (المجعلصة) والتى يصعب تشذيبها وتبسيطها للكتابة للطفل.

 ولكن كتاب (عمرون شاه) حقق تلك المعادلة وإعادنى إلى رشدى ومنحنى قدرًا من التفاخر بأن أفكارى تلاقى الرفض من هؤلاء.    
والكتاب يندرج تحت فئة الأساطير وهو إصدار دار المعارف ١٩٩١  الطبعة التاسعة. ولنضع خطوطًا كثيرة أسفل الطبعة التاسعة.. التى تعنى أن الكتاب بديع وينفد سريعًا من الأسواق من دار عريقة. لهذا اعترف بأنى أول ما بدأت قراءته أصدرت حكمًا مسبقًا عليه بعقلية تلك الدور التى تلبستنى إلى أن وصلت للصفحة العاشرة كنت أقف له بالمرصاد.. كيف يتنمر الكاتب  هكذا؟ 
إنه يستخدم ألفاظًا.. إنه يقتبس فكرة مستهلكة مثل عقلة الإصبع.. إنه يظهر الجدة بأنها قاسية وحادة وهذا لا يليق. إنه يروج لفكرة البلادة للأطفال والهروب من المدرسة من أجل اللعب وهذا خارق للأعراف المتداولة فى الكتابة للطفل.. إنه وإنه.. حتى قبضت على نفسي من ياقة قميصى  من قفايا ورجرجت رأسي لأسترد عقلى .. لكى أنتبه أنى وقعت فى هذا الفخ وقرأت القصة بعيون محللى ومفصصى أدب الأطفال الزاعمين أنهم يتبعون نهجًا متفردًا فرضوه على الوسط كله حتى تسرب دخانه إلى حكام ولجان القراءة فى الجوائز التى تهتم بتلك التفاصيل الجامدة التى عفا عليها الزمن، وصارت لا تصلح لأطفال عصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعى . فصارت الجوائز حكرًا أيضًا على من يتبع تلك القوانين ولا يخرج عن حيز استخدام مفردات لائقة وأفكار مستهلكة أُعيد تدويرها ليس إلا. 
وإليكم فقرة من الكتاب يقول الكاتب على لسان الجدة:

(أنت لا تحسن إلا النوم، أرسلتك للمدرسة فلم تفلح وذهبت إلى التاجر لم تتعلم وبعثتك للخياط هربت.. اذهب من وجهى أيها الولد الذى لا يصلح لشيء.. فما أنت إلا عقلة إصبع كما يسمونك).
يدخل بنا الكتاب بعد ذلك إلى عالم خيالي بحت مع أرنب يتكلم وأطفال حجريين وساحر مؤذٍ 
وإذا نظرنا للقصة بعيون المتقولبين سوف نراها شجعت الطفل على هروبه من المدرسة، لأن الكاتب نجح فى تحميسنا للبقاء فى هذا العالم، كما أنه  أظهر التنمر بشكل مباشر هكذا وعلى لسان جدته بخاصة، فضلا عن أنه  فى النهاية لم يعالج المشكلة سوى أنه جعل الولد يتقبل لقب التنمر وهذا جُرم فى حد ذاته. 
وبهذا المنطق، لو كان الكاتب محمد فريد أبوحديد تقدم اليوم بهذه القصة البديعة لإحدى دور النشر  لكانت رفضتها على الفور وربما لا تعنى بأن تجيبه بالموافقة أو الرفض عليها، ولن تعتبره مؤلفًا من أساسه، وتكتفى بالصمت حتى يعرف من نفسه رسالتها له (إلعب بعيد يا شاطر)، فكتابتك غير مطابقة بالمرة للمواصفات المتفق عليها.. والتى لا أدرى من وضعها تحديدًا واتفق عليها كمان!.