رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ما أحلمُ به لبلادى فى الحوار الوطنى! (3)

 

(الجزء الثالث)

عن التمييز الذى دفعت مصر ثمنه باهظًا!

(1)

أنا أصدق الرئيس وأعتقد يقينا أن هذا الحوار الوطنى هو بداية طريق حقيقى لتغيير وجه مصر...

لذلك فلن أضع سقفا لحديثى إلا ما يخالف يقينى بحقيقيته وصدقه!

الكلمة أمانة والوطن أمانة! لذلك فقد آثرت منذ أن بدأت الكتابة والنشر عام 2008م أن أُلزم نفسى بعدم كتابة إلا ما شاهدته أو تأكدت من صدقه وتوثيقه، وبعد ما مرت به مصر فى العقد الأخير فإننى أعتقد أن الصمت- لمن توافرت لهم الوقائع وفرصة الحديث- جريمة تامة فى حق هذه البلاد!

لذلك سأتحدث عن التمييز الذى شاهدته أو صادفت أحد أو بعض أبطال قصصه الحزينة.. ولن أتحدث عن حق أىٍّ من هؤلاء، فقد مضت سنوات طويلة على ما حدث، وكلهم شقوا طريقهم بعيدا عنا.. لكننى سأتحدث عن حقٍ آخر لا يتطرق إليه أحد.. حق الوطن لا حق المواطن!

(2)

نظريًا تمتلك مصر ترسانة من القوانين التى ترفض أى تمييز بين المصريين بأى شكلٍ من الأشكال! يتساوى المصريون دستورًا وقانونًا ولا يمكن حرمان مواطن مصرى من أى حقٍ لاعتباراتٍ دينية أو اجتماعية أو جغرافية أو طبقية..

نظريًا نحن فى مصر ليس لدينا مشكلة تمييز! هذه حقيقة! أو ربع حقيقة، باقى الحقيقة يتوزع بين ربعٍ آخر هو أننا واقعيًا لدينا مشاكل تمييز!

وربعٍ ثالثٍ مضىء من الحقيقة يقول إنه وعلى أرض الواقع وفى السنوات القليلة الماضية وبمساندة مباشرة من القيادة السياسية استطاعت مصر- فعليا- أن تفتح هذا الملف الشائك وأن تقطع خطوات جريئة وتاريخية فى طريقها للقضاء على هذا التمييز الواقعى بأن استطاعت وضع قانون موحد لبناء دور العبادة، واستطاعت وضعه موضع التنفيذ على الأرض، وأنهت مصر فعليا عقودا طويلة من ممارسات مجتمعية ظلامية كانت بمثابة وصمة عار لا تليق بمصر ولا شخصيتها الأصيلة!

(3)

أما ربع الحقيقة الأخير فهو موضوع هذا الجزء، وهو ما كنتُ شاهدا على بعض ظواهره وأتمنى أن يكون الحوار الوطنى نقطة نهاية له واكتمال الحقيقة التى نحلم بها لبلادنا! فمن حق هذا الوطن أن يستفيد بكل طاقات الموهوبين والمبدعين وأصحاب الكفاءات فى كل مجال وموقع ومنصب! فمن مجموع هذه الطاقات تكون قوة الأمة الجمعية، والخصم من تلك الطاقات فى مختلف المجالات يكون جورا على حق الوطن قبل أن يكون جورا على حقوق بعض مواطنيه!

استمعتُ إلى مداخلة تليفزيونية بين الإعلامى د. محمد الباز وبين أحد أعضاء الجماعات الإرهابية السابقين والذى قدم نفسه فى السنوات السابقة كمفكرٍ عائد إلى طريق الصواب، وكان ممن تمت دعوتهم لإلقاء كلمة فى جلسة من جلسات الحوار الوطنى المناقشة للقضاء على كل أشكال التمييز. كرر الرجل فى مداخلته الإعلامية ما قاله فى الجلسة مما أثار دهشتى بشكل كبيرٍ، حيث سجل فى كلمته اعتراضه على قبول «الشذوذ الجنسى» كنوع من القضاء على التمييز، على الرغم أن أحدا من الحاضرين أراد ذلك!

ما أثار دهشتى هو خطأ الطرح فى محفلٍ يمكن أن يكون منطلقا لمناقشة ما يثقل كاهل هذه البلاد من قضايا مصيرية فى قصة مقاومة كل أشكال التمييز! فمصر يا سادة وقبل المسيحية والإسلام بقرونٍ طويلة قد وضعت لنفسها إطارا أخلاقيا ألزمت به نفسها عبر العصور.. لم تنتظر مصر أن تطرق أبوابها الديانات السماوية لكى تهذب أخلاقها! هذه قضايا محسومة ولن يستطيع أحدٌ أن يفرض عليها ما يناقض قيمها الأخلاقية المتسقة مع الفطرة الإنسانية! فمتى يدرك مفكرو مصر هذه الحقيقة وأنه لا مخاوف أخلاقية على مصر ولا المصريين فى القضايا الأخلاقية المبدئية، وأنه على هؤلاء المفكرين أدوار وطنية أهم يجب عليهم أن يتصدوا لها!

(4)

فى تسعينيات القرن الماضى كنتُ شاهدا على ممارسة التمييز فى ثغرٍ من ثغور مصر يخص عقلها! فى الجامعات المصرية! كان يتم استبعاد بعض النابغين من حقوقهم المشروعة فى العمل الأكاديمى الجامعى لأسباب بعضها معروف وبعضها غامض غير معروف! كان هناك ما يشبه العرف فى استبعاد بعض الطلاب النابهين فى كليات عملية من تولى المناصب الأكاديمية العلمية أو حتى من الالتحاق بأقسام بعينها فى كليات بعينها بسبب الدين أو الطبقة الاجتماعية أو بسبب منح نفس الأماكن لأبناء الأساتذة كنوع من أنواع التوريث!

كنتُ أعتقد أنها حالات فردية فى بعض الجامعات الإقليمية حتى بدأت ممارسة مهنتى كمرشد سياحى، وفى عام 1997 وبعد انهيار السياحة الخارجية بعد جريمة معبد حتشبسوت بالأقصر أتت لمصر مجموعات سياحية من المصريين بالخارج، والتقيت بعضهم وصدمتنى الوقائع والقصص الحزينة كمًا وكيفًا! أطباء مصريون نابغون تم حرمانهم من مواقع أكاديمية استحقوها فتركوا مصر وتوجهوا إلى بعض دول أوروبا الغربية ومنها إنجلترا فساهموا فى النهوض بالقطاع الصحى بتلك البلدان، وكأن الذين حرموهم مما يستحقون قد قدموهم كمنحة مجانية لتلك الدول وحرموا مصر منهم!

(5)

توريث المواقع والوظائف فى مواقع بعينها- وعبر تراكم الممارسة- ألقى لمصر بكثيرٍ ممن لا يستحقون وممن لا يتميزون بأى نبوغ، حتى أصبحت تصدمنا بعض المشاهد المحزنة.. قيادة برلمانية سابقة كبرى لم تكن تجيد إلقاء كلمة بلغة عربية سليمة، رغم انتمائها التعليمى لمجال يفترض فيه أن يكون أسطونا لغويا لا يُشق له غبار، وبينما كانت كلمات أسلافه منذ عقود عبارة عن قطع أدبية يتم تدارسها!

بعض الهيئات والمؤسسات فى مصر تحولت بالفعل فى العقود السابقة إلى هيئات مغلقة على عائلاتٍ بعينها، تتوارث فيما بينها المواقع والمناصب فى تلك المؤسسات التى غدت كالجزر الخاصة يفقد غالبية المصريين مجرد الحلم بالدخول إليها، فأُغلقت بذلك أمام السواد الأعظم من المصريين فرص الترقى الاجتماعى المشروع والمتاح فى كل الأمم التى قطعت أشواطا من الحضارة المعاصرة!

أدى ذلك إلى انتشار شعور مصرى جمعى بالاغتراب وكان من أحد مسببات انضمام كثيرٍ منهم إلى مشهد فوضى يناير 2011م!

لم تقتصر تلك الممارسة على تلك المؤسسات والهيئات الوطنية الحكومية بل تغولت فى المجتمع المصرى حتى أصبحت كالعادة المصرية الكريهة، وتسللت إلى مجالات الفنون والإبداع التى من المفترض أن تكون أبعد ما يكون عن ذلك! فى عدة عقود من تلك الممارسة تم حرمان هذه البلاد من أعدادٍ كبيرة ممن كان يمكنهم أن يساهموا فى نهضتها!

(6)

منذ سنوات قرأت فى أحد كتب الحرب الباردة قصة مؤلمة، تم تجنيد جاسوس روسى على بلاده، لم يلتقِ مَن جنده سوى مرة واحدة فقط فى بدء مهمته التى امتدت لأكثر من عقدين، ثم كانت المتابعة عن بُعد، وكان المقابل سخيا كلما اشتد فى مهمته البسيطة جدا المؤثرة جدا! كان يحتل موقعا قياديا فى الحكومة والحزب، وكانت مهمته أن يختار دائما الأسوأ لتولى أى موقعٍ أو منصب!

أحيانا يقوم بعضنا- مجانا- بتلك المهمة دون أن يقدر مدى تأثيرها على بلاده. يقوم بها حفاظا على ما يراه حقا عائليا أو مهنيا. قد لا يكون التأثير بالغا إن قام به فردٌ واحد سرا وهو خائف، لكن حين يتحول ذلك إلى ممارسة ممنهجة عبر المواقع والمناصب يختلف الأمر كليا. تصبح جريمة تامة تنخر فى عظام أى أمة وتنحدر بها ويهجرها بعض الأكفاء القادرين على صنع الفارق الحضارى!

هذا هو ربع الحقيقة الأسود الذى أتمنى أن تتخلص منه مصر للأبد، وهذه هى فرصتنا الثمينة لمناقشة كل الملفات دون سقفٍ إلا أن يتفق ما نطرحه مع الدستور المصرى! والدستور المصرى يلفظ تماما هذا الربع الكريه!

فهل هناك ممن تمت دعوتهم للحوار الوطنى من يمتلك حلولا واقعية عملية يطرحها ليخلص من خلالها مصرَ من هذه الممارسات؟!

مرة أخرى أذكر بما جاء فى الجزء الأول من هذه المقالات، وأننى أحلمُ أن يكون هذا الحوار الوطنى هو نقطة فاصلة تنطلق مصر منها نحو الهدف الأسمى. ذلك الهدف لا ينحصر فى فكرة الإبقاء على مصر واحدة متماسكة واللهث لتوفير المأكل والمشرب لملايين السكان، وإنما محاولة العودة بمصر لما يليق بها حضاريا. ولن يتحقق ذلك ونحن نحرمها- عبر تلك الممارسة- من الاستفادة بكامل الطاقة القصوى لكل مواطنيها!

فمن حق هذه الأمة ألا تُحرم من عقول أبنائها النابغين وجهد أبنائها الطامحين طموحا مشروعا لا لشىء إلا انتماء هؤلاء لديانة معينة أو طبقة اجتماعية فقيرة أو منطقة جغرافية نائية. فهذا هدمٌ لفكرة (الأمة المصرية) وخيانة صريحة لها. الانتماء الوطنى الخالص غير المنقوص أو المشكوك به والكفاءة هما فقط ما ينبغى لهما أن يصبحا الأساس الذى يتم بمقتضاه القضاء على هذا الشكل من أشكال التمييز الذى نمارسه أفرادا أو هيئات أو مؤسسات!

فمن حق كل بنت وولد فى مصر أن يحلموا بما يريدون، ثم أن يبذلوا الجهد والعرق ما يؤهلهم لتحويل أحلامهم إلى حقيقة على الأرض دون أن يتدخل فلانٌ أو فلان لاغتيال أحلامهم!

(7)

أعلم يقينا أن مواجهة هذه الممارسات وتغييرها ليس بالأمر الهين، وسيتطلب إرادة فولاذية تشبه المعارك الحاسمة التى خاضتها مصر بالفعل فى السنوات القليلة الماضية. هى مواجهة صعبة لأنها بمثابة تغيير مفردات فاسدة توغلت فى شرايين المجتمع المصرى وأصبحت أمرا واقعا!

وأعلم أن المهمة أو الحلم الذى أطالب المتحاورين فى الحوار الوطنى بتحقيقه- توفير آليات وضمانات واقعية تضمن وضع نهاية لهذه الممارسات- هو مهمة ثقيلة جدا.. لكننى أذكرهم بما حققته مصر فى الربع الآخر المضىء، والذى تبنى تغييره الرئيس الوطنى، ولقد منحكم الرجل صلاحيات وقوة كبرى لطرق كل باب وطرح كل ما كنا نتحرج من طرحه! لقد منح الرئيس المشاركين صلاحية تقديم مشاريع قوانين أو أطروحات لتحويلها لمشاريع قوانين، وهذا يمثل شرعية كبرى وفرصة ثمينة يجب عليهم أن يقدروها حق قدرها.. فلا خوف من طرح ما نعلمه جميعا وكنا فى عهودٍ سابقة لا نجرؤ على البوح به!