رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الطهطاوى فى السودان

دفعتنى الأحداث الدامية الحالية التى تعصف بالسودان الشقيق، إلى إعادة قراءة التاريخ الحديث والمعاصر للسودان، مع التركيز على العلاقات المصرية السودانية من منظور «وحدة وادى النيل»، هذا المنظور الذى ظل يحكم قلب وعقل أبناء وادى النيل عقودًا طويلة.

ومن الأحداث التى تكاد أن تكون مجهولة لدى الكثير من المصريين والسودانيين فى هذا الشأن: مسألة إقامة رفاعة الطهطاوى فى السودان، ودوره التنويرى فى إدخال التعليم المدنى الحديث فى الخرطوم. ولن نتحدث هنا عمن هو رفاعة، فهو رائد الفكر العربى الحديث، ولا عن كتبه وأفكاره، لأن ما يهمنا هو حياته فى السودان، ودوره هناك. 

ويعود ارتباط الطهطاوى بالسودان إلى قصة مثيرة وفترة غامضة فى التاريخ المصرى، هى عصر حكم عباس الأول لمصر، الذى بدأ فى عام ١٨٤٨؛ إذ وصل عباس إلى الحكم بعد انكسار مشروع جده العظيم «محمد على» مع معاهدة لندن ١٨٤٠. كما جاء عباس إلى الحكم بعد وفاة عمه البطل الفاتح إبراهيم باشا. وينظر معظم المؤرخين إلى عباس على أنه كان عثمانى النزعة، رافضًا التحديث الذى بدأه جده وعمه. كما كان عباس يشك كثيرًا فى نوايا الغرب، ومَن يأتى من الغرب. من هنا قلّص عباس المشروع التعليمى الحديث الذى بدأه من قبله الحكام العظام، وسواء كان ذلك للأسباب السابقة، أو توفيرًا للنفقات، كما ادعى هو، فإن هذه السياسة كانت شرًا وبيلًا على الطهطاوى ومشروعه فى التعليم.

على أى حال رغب عباس فى إنشاء مدرسة مصرية فى الخرطوم، حيث كان السودان جزءًا من مصر، وكان الهدف من وراء ذلك تعليم أبناء الموظفين المصريين فى السودان، وأيضًا أبناء رؤساء القبائل السودانية. لكن الأمر المثير هو اختيار الطهطاوى ليكون ناظرًا لهذه المدرسة، والحق أن الطهطاوى بمكانته وعلمه آنذاك، كان أكبر كثيرًا من هذا المنصب. ويختلف المؤرخون فى تفسير إرسال عباس «الطهطاوى» إلى السودان، وهل كان ذلك لغضب عباس عليه، أم أن هذا الأمر كان من تدبير «على مبارك» لإبعاد الطهطاوى عن القاهرة، وانفراد على مبارك بشئون التعليم والإدارة فى مصر؟!

على أى حال قضى الطهطاوى عدة سنوات فى السودان، وقام بتأسيس المدرسة المصرية فى الخرطوم لتعليم أبناء وادى النيل من مصريين وسودانيين، والأمر الأكثر أهمية أن هذه المدرسة ستكون نواة لتأسيس حضور مصرى تعليمى وثقافى فى السودان بعد ذلك، تمثل فى إنشاء البعثة التعليمية المصرية فى السودان بعد ذلك، وانتشار المدارس المصرية هناك، ثم أعقب ذلك إنشاء فرع لجامعة القاهرة فى الخرطوم، يضم عدة كليات، حيث تخرج فى هذا الفرع العديد من رموز النخبة السودانية. لكن للأسف الشديد قام نظام البشير بإغلاق فرع جامعة القاهرة ليحد من النفوذ التعليمى والثقافى المصرى هناك.

تحية للطهطاوى مؤسس التعليم المدنى الحديث فى وادى النيل.. مصر والسودان.