رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإبداع الاقتصادى.. والهوية الثقافية

لقد أسعدني كمواطن مصري أن يكون الهم الثقافي بكل ما يمثل من أهمية وطنية على طاولة الحوار الوطني، فالشأن الثقافي ودوره الفاعل في دعم الهوية الوطنية، ومواجهة تبعات العولمة وسيادة وانتشار آليات دنيا الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، بجانب القراءات المختلفة للحداثة والأديان والمذاهب والأفكار الأيديولوجية، بكل ما يتم طرحه من علامات استفهام وتعجب وأحيانًا الاستنكار والرفض في إطار العمل الجاد للحفاظ على الهوية، بما فيها التساؤلات الخاصة بمن نكون نحن؟.. لعل من اجتمعوا على طاولة الحوار الوطني يضعون ملامح خارطة "جغرافيا هوية وطن" على الساحة الإقليمية والعالمية..
وأمر طيب ومهم أن تؤكد لجنة الثقافة والهوية الوطنية على أهمية تعميق الدور الثقافي والهوية الوطنية وآليات تحقيق ذلك على أرض الواقع، بجانب ملف الصناعات الثقافية، وأيضًا أوضاع تطوير المؤسسات الثقافية والسياسات الثقافية والنقطة الأخيرة ستكون متعلقة بقضايا الإبداع وحرية الإبداع.
معلوم، أنه دون هوية اجتماعية وثقافية يغترب الأفراد عن بيئاتهم الاجتماعية والثقافية، بل وعن أنفسهم تمامًا، ودون تحديد واضح للآخر لا يمكنهم تحديد هوياتهم الاجتماعية والثقافية، ويشير "برهان غليون" إلي أنه "لا تستطيع الجماعة أو الفرد إنجاز مشروع مهما كان نوعه أو حجمه، دون أن تعرف نفسها وتحدد مكانها ودورها وشرعية وجودها كجماعة متميزة، فقبل أن تنهض لا بد لها أن تكون ذاتًا"..
ومن الملاحظ أن الكتابات العربية والأجنبية تزخر بالكثير من البحوث والدراسات التي تناولت موضوع الهوية، مما قد يوقع الباحث في نوع من اللبس عند تناول هذا الموضوع بالبحث، وتأتي المعضلة من صعوبة إيجاد تعريف محدد لمفهوم الهوية، بسبب تعدد المدارس الفكرية التي تناولت الموضوع، بالإضافة إلى سعته وشموليته، حيث تشارك في تكوينه متغيرات متعددة، وخاصة المتغيرات المجتمعية التي تطرأ وتؤثر في الفكر، فالهوية مفهوم له دلالته اللغوية واستخداماته الفلسفية والاجتماعية والنفسية والثقافية. 
كما أن الهوية ترتبط بالانتماء، فقد عرفها البعض بأنها "مجموعة من السمات الثقافية التي تتصف بها جماعة من الناس في فترة زمنية معينة، والتي تولد الإحساس لدي الأفراد بالانتماء لشعب معين، والارتباط بوطن معين، والتعبير عن مشاعر الاعتزاز، والفخر بالشعب الذي ينتمي إليه هؤلاء الأفراد"..
ولا ريب أن الهوية والثقافة والتراثية، لأي أمة من الأمم، تعد أحد أهم الأعمدة التي يقوم عليها تاريخها وحضارتها، باعتبارها القاسم الجوهري والقدر الثابت والمشترك من السمات العامة التي تميز ذلك التاريخ وتلك الحضارة، وهو ما يُبنى عليه لمستقبل واعد مرتكز على أسس وقواعد متينة، تعطي القوة للأمة وتدفع أبناءها لمزيد من البناء والتطور..
وتكتسب الهوية الثقافية للأمم مقدرتها على البقاء بقدرتها على التطور والتفاعل مع المعطيات الاجتماعية والسياسية والثقافية والتاريخية، وبما تملكه هذه الهوية من وعي للخصوصية المرنة والانفتاح والاستجابة النقدية..
ولعل من المفيد الإشارة لتاريخ وبعض وقائع التجربة الصينية في مجال دعم الثقافة الصينية، تذكر الكاتبة والباحثة الرائعة "خديجة عرفة" أنه في سبتمبر 2009، وافق مجلس الدولة الصيني على أول خطة في البلاد تتعلق بالصناعات الثقافية والتي أُطلق عليها "خطة نهضة الصناعات الثقافية"، تم وضع خطة استراتيجية وطنية لهذا القطاع، أكدت أهميته ودوره المحوري اقتصاديًا، وقد نصت الخطة على أن الدولة ستدفع وتعزز الجهود المبذولة في مجال الصناعات الثقافية والإبداعية بجوانبه المختلفة والتي تشمل الرسوم المتحركة وصناعة السينما والمعارض الثقافية والنشر والتوزيع والمسلسلات التلفزيونية وغيرها، ومع الخطة الخمسية الثانية عشرة (2011- 2015)، تحققت نقلة مهمة في هذا الشأن، وتمثلت في العمل على الربط بين الصناعات الثقافية والإبداعية في البلاد من جهة وما حققته البلاد من تنمية اقتصادية واجتماعية من جهة أخرى، فعلى مدار العقود الأربعة الماضية حققت الصين معدلات نمو للناتج المحلي الإجمالي بلغت حوالي 9% في المتوسط سنويًا، في تلك الفترة، لم يعد المستهدف هو الداخل الصيني فحسب، وإنما صار الهدف هو المنافسة عالميًا، ولهذا الغرض، سعت البلاد إلى تعزيز البنية التحتية للصناعات الثقافية من خلال دعم المشروعات الثقافية الرائدة الصغيرة والمتوسطة، وتطوير البيئة التشريعية والإدارية الداعمة لهذا المجال، من خلال تطوير قوانين حماية الملكية الفكرية، إضافة إلى ضخ استثمارات مهمة في تطوير المتاحف الكبرى والحدائق التاريخية والمواقع التاريخية المهمة وغيرها، بما يعزز من مكانة الصين في هذه الصناعة عالميًا..
ومعلوم، أنه في عام 2014، وضع مجلس الدولة الصيني، مجموعة من المقترحات للمشاركة في دفع عجلة التنمية لدمج الصناعات الثقافية والإبداعية في الاقتصاد المحلي، لكي تصبح جزءًا من الاقتصاد الحقيقي، توافق ذلك مع النمط الجديد للنمو الاقتصادي في الصين الذي يقوم على تحفيز الاستهلاك وجعله القوة المحركة الأساسية للنمو الاقتصادي، خاصة أن تنمية تلك الصناعات من شأنها زيادة حجم الاستهلاك، خلال الفترة من عام 2011 حتى عام 2014، زاد متوسط الإنفاق الثقافي للفرد في الصين بنسبة أكثر من 12%، وفقا لمسح أجرته مصلحة الدولة للإحصاء.. والمجال لا يتسع لعرض جوانب أخرى من تلك المنظومة الصينية، وإن كنت أتمنى أن يستعرض أهل الحوار الوطني المزيد من التجارب العالمية في مجال دعم العمل الثقافي..