رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أثير والقاضى

جريدة الدستور

دخل القاضى زين العابدين قاعة المحكمة، فى تمام الساعة التاسعة صباحًا كعادته، التى لم تتغير منذ أن حلف اليمين وأقسم قسم الولاء مستعينًا بالله أن يتم عمله على خير، دخل الحاجب وراءه، أشار إليه القاضى، نادى بصوت جهورى، السيدة أثير رائف، أكد الجندى الذى يقف حارسًا عليها أنها هنا، أثير لم تستطع الوقوف، فهى سيدة عجوز، مسكينة وصوتها ضعيف كجسدها النحيل، قالت بصعوبة: أنا هنا، سألها القاضى، وكانت تلك هى المرة الثانية التى تنعقد فيها جلسة للسيدة أثير، قال القاضى: هل لك بشىء قبل الحكم يا أثير؟، قالت نعم، فقال لها: ماذا تريدين؟، قالت: أريد أن أتوب قبل الموت وأحيا حياة شريفة، قال القاضى: هى لك يا أثير، شرط أن تصدقى النية، وأعقب: حكمت المحكمة حضوريًا على المتهمة فيما نسب إليها بالبراءة.. ضجّت المحكمة بعد هذا الحكم، وزاد الصخب، حتى إن محاميها من فرط تعجبه صافح كفه بالآخر لذلك الحكم، لكن القاضى الذى ضرب بمطرقته ليسكت الجميع قال لها بلهجة حادة: أيا أثير لم تكن تلك إلا المرة الأخيرة لك، وأقسم بالله لو عدت أمامى مرة أخرى ما ترددت فى عقابك، وأعلم أنى عندما نظرت إليك تذكرت قول والدتى حين قالت: ولدى لا تكن قاسى القلب على الناس فاسألوا ظروف الناس قبل أن تسألوهم عنها، وها أنا حققت لك رغبتك، اذهبى فأنت حرة.. فتحت أثير ثغرها بين الابتسامة واليأس، فهى لم تصدق أنها حصلت على البراءة بعد أن تم القبض عليها متلبسة.. أكمل القاضى عبارته وهو ينظر إليها بعين الرحمة، وقال: لا بد أن تعلمى أنى أكرمتك فى هذه المرة، ولكن إن عدت عدنا إليك بحكم سوف ينفذ، فليس من المعقول أن تمارسى أعمالًا مخلة وتتاجرى فى المخدرات، وتكون كلها صُدفة، حتى ولو صدقتِ.. لم تبالِ أثير فقد أنستها فرحتها حديث القاضى، وأخذت تفكر فى عودتها إلى ما كانت عليه، حتى قبل أن تبرح قاعة المحكمة إلى القسم التابعة له، للإفراج عنها حسب الإجراءات المتبعة!!! خرجت أثير من شرنقة السجن إلى براثن الحياة القاسية، أخذت تفكر فى ديونها، وهى لا تملك مالًا إلا من مجاملات أحبائها، وهى فى أشد الحاجة إلى مال، ماذا ستفعل؟، فلقد غلبها التفكير وشق عليها الدين، والعوز، وهى التى تبنت ولدين اثنين، فلما اشتد عودهما، وعرفا الحقيقة، فرّا هاربين من هول أوزار امرأة ربتهما من حرام وهما أولاد حرام.. وأخيرًا كان قرارها الذى كان من نتائجه عودتها إلى سيرتها الأولى، فابتاعت من تاجر الحشيش بضاعة آجلة، وذهبت إلى شقتها المتواضعة فى الحى الشعبى العتيق، وهناك يعرفها الناس، وتعرفهم جيدًا، وهم أكثرية مطحونة، أحبوا تلك العجوز لبضاعتها الرائجة، ومنهم من لا يتعامل معها لسمعتها السيئة، ونظرة المجتمع الدونية لها.. استراحت أثير حينًا واستردت أنفاسها، باعت وسددت بعضًا من ديونها وردت لصاحب البيت المتأخرات من الإيجار، واشترت حاجاتها، وادخرت بعضًا من النقود وعادت إلى عملها الإنسانى من جديد، حيث كانت تسأل عن من تم القبض عليه من قبيل الشرطة، وتذهب إليهم بالسجائر والمأكولات، وتضع لهم بعض النقود فى خزينة السجن.. أثير يعرفها أهل المدينة كلها أنها سيدة متناقضة الشخصية غريبة الطبع، فهى تحب زيارة المرضى والمساجين، وتجامل الشباب عند زواجهم، هى يعرفها القاصى والدانى، شهرتها امتدت خارج مدينتها، وما أشبه اليوم بالبارحة. نسيت أثير نفسها، والعهد الذى قطعته على نفسها، وللقاضى الذى رحمها وبرّأها لتعيش حياة طيبة، ولكن من أين لها بهذا والدنيا تخلّت عنها، والأهل والناس أجمعون؟، سرعان ما تم القبض عليها مرة أخرى، ولم يرحمها أمناء الشرطة، بعد تحذيرها، تم إحضارها إلى النيابة متلبسة، لقد تمكن المرض منها، ضعف بصرها ونحل جسدها، ولم تتمكن من متابعة عملها الشاق بعد زوال الصحة والشباب والجمال، وهى التى اهتزت لها الأرض لقوامها وأنوثتها اللذين أسكرت بهما الناس كخمر النواسى التى أطاحت بهم بعد أن شيّبت رءوسهم بحثًا عن نظرة، أو ابتسامة، وهى الآن فى يدها أساور من حديد «كلبشات» مصحوبة إلى السجن المؤقت، لتعرض على النيابة، من جديد، أصبحت الأيام بطيئة مملة على أثير، وصارت تتمنى الموت فى كل وقت بعدما فعلت كل الموبقات فى حياتها.. أثير التى لها قلب نابض وإحساس جارف لم تكره فى يوم أحدًا، ولم تحمل لأحد ضغينة، فما من مريض إلا وزارته، وما من محتاج إلا ومدت له يد العون، وما من مسجون إلا وكانت سنده، كل هذا فى وقت كثرت فيه الرذائل والجحود والطمع، اختلفت فيه معايير المجتمع، أصبحت هى المجرمة!.. الآن، وفى نفس المحكمة وأمام القاضى نفسه، وقفت أثير، وساد صمت رهيب، نادى الحاجب بصوت جهورى: محكمة، تردد الصوت صداه، قرأ القاضى حيثيات الحكم، ثم حكم بعشر سنوات، دارت الأرض ولفّت بها، إنها الدنيا وحظها العاثر وذلك القاضى، سقطت أثير مغشيًا عليها، تم نقلها إلى مستشفى السجن وهى بين الحياة والموت، شعرت بيد حانية تعبث بها، وترتب لها السرير، فقالت: ألم أمت بعد؟، أخذت تردد: اللهم إنى تبت وعزمت على ألا أعود إلى المعاصى أبدًا، ثم راحت فى سبات عميق.. عميق.