رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف تحققت نبوءة عبدالناصر لخالد محيى الدين؟

 

 

فى مذكراته التى نشرت عام ١٩٩٢ بعنوان «والآن أتكلم»، يحكى الراحل الكبير خالد محيى الدين أنه بعد أزمة مارس ١٩٥٤، بين الرئيس محمد نجيب ومجلس قيادة الثورة، قرر الاستقالة من المجلس، وقال إنه زار جمال عبدالناصر فى بيته فى الثانى من أبريل، ليقدم استقالته إليه، وإن عبدالناصر قال له وقتها ما نصه: «اسمع يا خالد، إحنا أصدقاء، لكن المصلحة العامة حاجة تانية، وانت عارف إنك زى العسل، وسوف يتجمع حولك كل الذباب، وتبقى مشكلة ونتصادم، وأنا لا أحب أن أتصادم معك، ولهذا فالأفضل أن تسافر للخارج».

يومها طلب خالد السفر إلى باريس، لكن عبدالناصر كان له رأى آخر، فرد عليه بأن باريس بها حركة سياسية يسارية نشطة سوف تدفعه للانغماس فيها، واقترح سويسرا بديلًا عنها، كما اتفقا على ألا يخبر أحدًا بسفره غير زوجته، وألا يهاجم النظام أو يهاجموه طوال فترة بقائه بالخارج، وهو ما حدث بالفعل حتى بدأ السادات، الذى كان يرأس تحرير جريدة الجمهورية وقتها، حملة صحفية ضد خالد، أطلق عليه فيها لقب «الصاغ الأحمر»، وكشفت السيدة سميرة سليم، زوجة مؤسس اليسار المصرى الجديد، عن أنها علمت وقتها أن عبدالناصر استدعى أنور السادات وقال له: «اتفاقى مع خالد محبة واحترام ولا أريد أن ينقضه أحد»، وبالفعل تم وقف الحملة.

حدث ما حدث بعدها، حتى أراد السادات فى مارس ١٩٧٦ إعادة إحياء الحركة السياسية التى تجمدت منذ قرار حل الأحزاب السياسية فى يناير ١٩٥٣، فأعلن عن إنشاء ثلاثة منابر داخل «الاتحاد الاشتراكى المصرى»، أحدها لليمين، والثانى لليسار، وثالثهما للوسط، وفى أول اجتماع لمجلس الشعب الذى خاضت المنابر انتخابات تشكيله، أعلن تحويلها إلى أحزاب، ثم صدر قانون تنظيم الأحزاب فى يونيو من العام التالى.

ترأس خالد محيى الدين منبر اليسار، ثم قرر تأسيس حزب التجمع التقدمى الوحدوى، كامتداد له، على أن يكون مظلة واسعة لكل التنظيمات اليسارية، بداية من الماركسية، وانتهاءً بالتيارات المحافظة والدينية، وطوال ما يزيد على الأربعين عامًا حافظ خالد محيى الدين على أن يظل باب حزبه مفتوحًا لكل التيارات السياسية، فكانت جميع الأحزاب «تحت التأسيس» تجتمع فى قاعات مقره بشارع سليمان باشا بوسط القاهرة، وفى جميع مقراته بالمحافظات والمدن البعيدة، لكنه لم يكن يشك للحظة واحدة أن كل هؤلاء الذين شربوا من ماء محبته، وارتفعت أصواتهم مستندة على سعة صدره، وصلابته فى المواجهة، هم نبوءة عبدالناصر التى أضحكته خلال لقائهما للاستقالة من مجلس قيادة الثورة.

وفى حوار مع حرمه لصحيفة «الأهرام»، فى أبريل ٢٠١٨، أى قبل رحيله بأيام معدودة، جاء فى مقدمته التى كتبها المحرر: «غابت أخبار خالد محيى الدين زعيم اليسار المصرى ومؤسس حزب التجمع عن الإعلام.. اسمه لم يعد يتردد على الرغم من أنه ما زال على قيد الحياة».. وتضمن الحوار سؤاله لها: مَن يهتم مِن أولاده أو الأحفاد بحزب التجمع؟ فكانت إجابتها ما نصه: «لا أحد.. العلاقة مع التجمع انتهت مع تركه المسئولية، والأولاد والأحفاد ليست لهم علاقة بالحزب.. كل شىء انتهى بخروج الجد».

وفى صباح السبت الماضى، السادس من مايو، كانت الذكرى الخامسة لرحيل خالد محيى الدين، وكان أن فتشت عن أى أخبار تخص اسم الراحل العظيم، فكانت الحصيلة ليومى السبت والأحد كالتالى:

على صفحته بموقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك»، نشر الصديق الشاعر والصحفى سيد الخمار صورة تجمعه بالزعيم خالد محيى الدين، وكتب تعليقًا عن القامات التى عمل معها، وهو منها بالطبع، باعتباره بدأ حياته بالعمل فى صحيفة «الأهالى» التى يصدرها حزب التجمع، وأعاد الكاتب الكبير محمود الوردانى نشر «بوست» كتبه منذ خمس سنوات، بعنوان «ميكانيكى يا خالد»، يحكى فيه عن واقعة حدثت بين خالد وجمال عبدالناصر وذكرها فى كتابه «والآن أتكلم»، معلقًا على إعادة النشر بقوله: «صباح الخير.. مارك بيفكرنى من ٥ سنين»، ومن غير الأصدقاء كتب عادل وليم ما نصه: «فى الذكرى الخامسة لرحيل المناضل والقائد والمعلم خالد الذكر خالد محيى الدين، ندعو له بالرحمة والمغفرة سلامًا لروحه النقية الطاهرة».

ما عدا ذلك فلم تفلح رحلة البحث عن الرجل فى غير العثور على أخبار عن ندوات نقدية يشرف عليها الناقد الدكتور يسرى عبدالله كل ثلاثاء بمنتدى المستقبل للفكر والإبداع، بمكتبة خالد محيى الدين بحزب التجمع الوطنى.. ثم لا شىء مطلقًا!!

والحقيقة أنه رغم صداقتى الممتدة لكثير من كوادر الأحزاب والحركات اليسارية المصرية، سرية وعلنية، ماركسية ودينية، لكننى لم أكن يومًا عضوًا فى أى منها، ليس لعيب فيها أو ما شابه، ولكن لأننى لم أرغب فى ذلك، فلم أكن عضوًا فى «حزب التجمع» رغم حرصى على حضور غالبية الفعاليات الثقافية التى كانت تحتضنها مقراته، ولم أعمل بجريدة «الأهالى» التى كانت هى وجبتى الثقافية والسياسية لسنوات طويلة، ورغم محبتى وامتنانى الكبيرين لعدد كبير من كتّابها، منذ الراحل العظيم فيليب جلاب، وحتى سنوات قليلة سابقة، لكننى اليوم أعرف أننى لم أخالف الصواب حين اخترت ألا أكون واحدًا من كوادرها.. 

طبت حيًا وميتًا أيها القائد العظيم خالد محيى الدين.. ولا عزاء لمن أدرك ناصر حقيقتهم مبكرًا.