رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خطاب الأديان.. وإنسان الغد

لا شك، أن للخطاب الديني التأثير البالغ في توجيه وتشكيل فكر الناس وصياغة وجدانهم وتنميط سلوكهم في مجتمعاتنا العربية ، حيث يشكّل الدين فيها مكوّنًا بارزًا من مكوّنات الهوية الفردية والجماعية .. 
والخطاب الديني هو شكل من أشكال الاتصال مع الناس في ظلّ مجتمعات تُعتبر في غالبيتها متدينة، وليس غريبًا أن يكون الحديث عن الخطاب الديني ذا أهمّية فائقة في وقتنا الراهن ..
وإذا كان أمر تدريس التربية الدينية على النحو الذي تًدرس به الآن ضرورة حتمية وقضية غير قابلة للنقاش مجتمعيًا، فلتكن من أولويات أهداف مُعد المنهج- بالإضافة لتعليم أسس العقيدة والفرائض والشعائر وبث القيم الإيجابية النبيلة- أن يراعي تضمين فصوله ما يؤكد أن الأديان وكتبها المقدسة تدعونا للمزيد من الانتماء للوطن بدعم وتكريس مبادئ التربية والتنشئة الوطنية، ولتكن مناهج التربية الدينية مدخلًا رائعًا لدفع الأجيال القادمة للارتباط بقضايا وهموم الوطن وطموحات شعبنا وآماله في تحقيق التقدم ..
على سبيل المثال، أرى أهمية أن تتضمن كتب التربية الدينية المسيحية خلاصة الفكر المسيحي عبر القراءة الجيدة لأقوال وأفعال والأمثلة التي ساقها السيد المسيح الداعمة لأصول التربية الصالحة ولمفهوم "المواطنة" والعدالة والانصياع للقوانين الأرضية المنظمة لعلاقات البشر البينية، والتفاعل الطيب مع الأنظمة المدنية المعمول بها في الأوطان.. أيضًا عرض المواقف الوطنية لرموز الكنيسة المصرية عبر تاريخها وتاريخ الوطن، الذين أدركوا الفارق الجوهري بين الدور الوطني للمؤسسات الدينية دون التورط الخطير في اتخاذ مواقف سياسية باسم أتباع الديانة وارتداء ثوب الزعامة السياسية..
لم يكن حضور السيد المسيح ليعلّم الناس بناء الكنائس الشاهقة وتشييد المؤسسات الدينية الضخمة في جوار الأكواخ الحقيرة والمنازل الباردة المظلمة، بل جاء ليجعلَ قلبَ الإنسانِ هيكلاً ونفسَه مذبحًا وعقلَه كاهنًا..
هذا ما كان يؤكد عليه السيد المسيح، وهذه هي المبادئ التي صُلب لأجلها مختارًا، ولو عقل أتباعه لوقفوا اليوم فرحين متهلّلين منشدين أهازيج الغلبة والانتصار..
كان يسوع المسيح إنسانًا حرًا متمردًا على التقاليد الدينية والاجتماعية البليدة، يعشق الفرح ويحمل إلى الناس رسالة الغفران والمحبة والجمال..
ولعل من مؤلفات الأب “متى المسكين”- على سبيل المثال- ما يصلح لأن يمثل توجه وأساس طيب وعصري في مجال تنشئة المواطن الصالح وبث ونشر مفاهيم والتعريف بأسس العلاقة بين المواطن والدولة، وبين الكنيسة وأتباعها، وبين الكنيسة والدولة والتعريف لمفاهيم التعصب والطائفية والتمييز والعنصرية والانتماء والولاء والتسامح وقبول الاختلاف.. إلى غير ذلك من التعريفات التي حرص ذلك المفكر تناولها في مؤلفاته من وجهة نظر دينية وطنية وتربوية..
يقول "المسكين" في تعريفاته الطيبة: "معلوم أن الحياة الأبدية هي الوطن السمائي للذين اختيروا وتعينوا من قبل الله لهذا الميراث الذي لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل المحفوظ في السموات، ولكن لم تدع الحياة الأبدية "بالوطن الأفضل" للإنسان إلا على أساس أن الحياة هنا هي "فاضلة" أيضًا، لأن الأفضل لا يمكن أن يكون أفضل إلا بسبب وجود ما هو فاضل، لا يمكن ولا نوافق أحدًا أن يدعو الحياة هنا أنها نجسة أو دنسة فالذي خلقه الله وقدسه، لا تنجسه أنت، فكما أن كل شيء طاهر للأطهار، كذلك الحياة أيضًا تكون فاضلة للفضلاء.. 
فلتكن تلك المناهج فرصة لأن يعي الطالب أن الوطن السمائي لا يلغي وجود الأوطان والولاء لرفعتها، والسعي نحو الوطن السمائي لا يشمل معنى إنكار الأوطان، فالمسيح نفسه قيل عنه "وخرج من هناك وجاء إلى وطنه وتبعه تلاميذه" (مر 6 : 1) ، مع أنه معلوم لدى الجميع أن المسيح قائم أبدًا في حضن أبيه كما يقول الكتاب..
وفي مجال خدمة الأوطان يشير "المسكين" إلى أن خدمة الوطن الأرضي باجتهاد، حصيلة طبيعية للنمو الطبيعي لأن إعالة الوطن للإنسان من جهة ما يقدمه له من الأكل والشرب وعطف الأهل والأصدقاء وارتباط مرح الصبوة بالأماكن، ينشئ في الإنسان النبيل دوافع طبيعية ملحة لرد الجميل ويحمله تلقائيًا روح المسئولية للدفاع عنه!
مطلوب أن يعي شبابنا أن كبت الروح الوطنية نوع من وأد الروح الإنسانية ومحاولة توجيه الإنسان نحو وطنه السمائي على حساب احتقاره للوطن الأرضي قصور في فهم النفس البشرية، وإضرار بنموها، والأجود أن ننمي في الإنسان توقير الاثنين، فهذا حق وعدل وهو موافق لروح الإنجيل أيضًا، والإنسان إذا تُرك لطبيعته، نجده أنه كلما نما روحيًا، قوي حنينه للحياة الأبدية مع احتفاظه بعلائقه التي تربطه بوطنه وأهله وأصدقائه وجميع الناس سليمة ناجحة نافعة..