رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«كان مهتمًا بكتب الصوفية والدجل».. كواليس تعلم طه حسين السحر

طه حسين
طه حسين

عندما بلغ العاشرة كان جسدُ طه حسين واهنًا وضعيفًا، وكأنه مصابٌ بمرض أو لم يأكل منذ زمن، ولكن هذا الوهن لم يمنعه من السير والركض في المنزل الواسع، ولو شاهده أحد وهو يتجوّل داخل البيت بخطواتٍ ثابتة وواثقة، لما قال إنه أعمى، بحسب ما جاء في كتاب "طه الذي رأى.. أيام ما بعد الأيام" للكاتب اللواء حمدى البطران، الصادر عن دار كلمة للنشر والتوزيع.

فالطبيعة ليست مغلقة أمامه، فكان عندما يخرج بصحبة أحد أشقائه، يدوّي الفضاء في أذنيه كأغنية جميلة. 

كان من المفترض أن يسافر الشيخ الصغير إلى القاهرة للدراسة في الأزهر الشريف مع شقيقه الأكبر، ولكن يبدو أن شقيقه ضاق منه فطلب من والده تأجيل سفره حتى يستعدَّ للدراسة بالأزهر بحفظ كتابين هما: الأول: كتاب ألفية بن مالك، والثاني: كتاب مجموع المتون.

حتى يستعدَّ للدراسة في الأزهر، كان عليه أن يحفظ كتاب ألفية بن مالك لمحمد بن عبد الله، ابن مالك الطائي الجياني حفظًا جيدًا، وأن يحفظ بعض الموضوعات من كتاب مجموع مهمات المتون للحلبي وغيره من المؤلفين. 

لم يحاول الشيخ الصغير أن يفهم ما تحتويه تلك الكتب، كان الشيخ الصغير يحتاج إلى من يقوم بتحفيظه ألفية بن مالك.

لم يكن كتّاب الشيخ يفيده في شيء، فأشار عليه والده أن يذهب إلى القاضي الشرعي في المحكمة الشرعيّة ليقرأ عليه الألفية ويقوم بتحفيظها له.
تفاصيل زيارة طه حسين للطريقة الشاذلية

وبدأ الشيخ الصغير ينتبه لما حوله من أحوال المشايخ، والفروق بينهم، شيوخ الحنفية والمالكية والشافعية، والتنافس بينهم، والكراهية المتبادلة بينهم، لكن ما يتذكره الشيخ الصغير هو زيارة شيخ الطريقة الشاذلية التي ينتمي إليها والده إلى بيتهم. 

كان اقتراب موعد زيارة شيخ الطريقة إلى والده، تجعل الوالد يعلن حالة الطوارئ في البيت كله، ويصبح لكل شخص في البيت مهمّات محددة، فقد كانت تلك الزيارة تستهلك الكثير من القمح والسمن والعسل والملح والشاي والسكر والبن، ما إلى ذلك، وكان صاحب البيت يضطر إلى الاقتراض لشراء ذبائح الضأن والماعز التي ينحرها لطعام الشيخ ومريديه المرافقين له.

وكان والده يذبح لهم الذبائح، وتقوم والدته مسبقًا بطحن كميات من القمح وتصنع بالتعاون مع قريباتها خبزًا طريًّا، ليأكلَ منه الشيخ ومريدوه.

كانت زيارة الشيخ لمنزل والد طه حسين يومًا مشهودًا، تستعدُّ له الأسرة قبلها بأيام، صباح يوم الزيارة تتجمع النساء والأولاد في الشارع الذي يقع فيه بيتهم، وينتظرون مرورَ موكب شيخ الطريقة إلى بيتهم، فشيخُ الطريقة لا يأتي بمفرده، بل يحضر معه أتباعُه ولا تقلّ أعدادُهم عن مئة فرد، ولا يأتون بقطار، ولكن يأتون على حميرهم وبغالهم وخيولهم، ويحتشدون في الساحةِ والشارع أمام المنزل.

ويكون صاحب المنزل قد استعدَّ بالأفران لتخبز الخبز، والأواني النحاسية والحلل الكبيرة، والأخشاب التي تستخدم كوقود لطهي اللحوم والخضروات.

وتُمدُّ الموائد، ويأكل الجميع، وبعد الأكل، يغفو شيخ الطريقة قليلًا، وينهض ليتوضأ، ويتزاحم الناس للحصول على المياه المتبقية من الوضوء ليتبرّكون بها، ثم يتعشى الشيخ، وتُنصب الحَضرة أو الذِكر، ويتمايل الناس يمينًا ويسارًا، وهو ينشدون أشعار ابن الفارض. 

وكانت زيارة شيخ الطريقة أمرًا تحبّه الأسرة وتريده وتحرص عليه، لأنه يمكّنها من التفاخر على الجيران والأهل، في تلك الفترة سمع طه حسين عن كرامات الأولياء والمعجزات وأسرار الصوفيّة. 

وعرفَ الشيخُ الصغير أن لأهل الريف، شيوخهم وشبانهم وصبيانهم ونسائهم، عقلية خاصة فيها الجهل والغفلة والسذاجة والتصوف.

وقتها كان باعةُ الكتب يتجولون في المدن والأرياف حاملين العديد من الكتب، ومنها، كتب السحر والطلاسم، وأخبار الفتوحات والغزوات، وكتب الهلاليين، ومنقب الصالحين وأدعية وأوراد الصالحين، وسيرة عنترة بن شداد وسيف بن ذي يزن، ومعهم نسخٌ من القرآن الكريم.

كان طه حسين يُجلس أقرانه المبصرين، ويتلوون عليه محتويات تلك الكتب، وكان يُلمُّ بها، كانت لدى طه حسين ميولٌ واهتمامات خاصة بكتب السحر وكتب التصوّف، كان يعتقد أنهما يقودان إلى شيء واحد. وكان يرى حسب تفكيره أن التصوّف يؤدي إلى كراماتٍ غريبة وغير واقعية، وهو نفس ما يؤدي إليه السحر والشعوذة.

كان يرى أن الساحر يتصل بالشياطين بينما يتعامل المتصوف مع الملائكة، كما كانت ألف ليلة ضمن الكتب التي يحملها الباعة، والتي سمع عنها طه حسين في تلك الفترة، وأعجبته منها قصة أبو الحسن البصري.

وهي القصة التي يقوم فيها المجوسي بتحويل النحاس إلى ذهب، وانبهر بالقصر المُقام على أعمدة في الهواء، وتقيم فيه سبع بنات جميلات من الجِنّ، والذي أوى إليه أبو الحسن البصري. 

تمنى لو كانت معه تلك العصا التي مع أبي الحسن البصري، والتي ما إن يضرب بها الأرض، حتى يخرج منها تسعة أنفارٍ من أقوياء الجِن، خِفاف ويطيرون، يأتمرون بأمر صاحب العصا، ويلّبون له طلباته كلَّها، فكان يحلم بها، ويتمنى لو كانت معه واحدة مثلها.
وكان لطه حسين صديقٌ في مثل سنِّه، ومفتون مثله بالعصا التي تشق الأرض ويخرج منها تسعة من الجن، يأتمرون بأمر صاحبها. 

فاتفق طه مع صديقه على ضرورة الحصول على تلك العصا، وأن الحصول عليها ينبغي أن يتم بطقوس خاصة كما قرأ الصبي المبصر في الكتاب.

تتطلب تلك الطريقة أن ينفرد الشخص بنفسه في مكان مغلق، ويوقد نارًا، ثم يلقي فيها البخور، ومع تصاعد دخان البخور يردد الشخص "يا لطيف يا لطيف"، ويظلّ يردّدُ حتى تدور به الأرض، ويشعر بأنه يلفّ في دائرة في نفس الغرفة، فيظهر أمامه فردٌ من الجِنّ، فيطلب منه الشخص ما يريد.

بخور ونيران

وبالفعل اشترى طه البخور، وأشعلَ بعض النيران في موقد في المندرة، وعندما توهّجت النيران، ألقى فيها البخور، فازدادت كثافةُ الدخان، ومع تصاعد الدخان قام بترديد "يا لطيف يا لطيف". ولم يحدث شيء.

ومع ذلك فقد خرج من المندرة يمسك رأسه بيديه راسمًا علامة الاضطراب، وأسنانه تصطك، وظلَّ فترةَ دون كلام، وبعدها أخبر صديقه كذبًا أن الأرض دارت به وسمع صوتًا يملأ المندرة، وأنه أغمى عليه ثم أفاق وخرج مسرعًا.

أخبره صاحبه أنه كان ينبغي أن يتوضأ ويصلي ركعتين لله قبل أن يبدأ، لم يكن طه حسين وحده هو من يمارس السحر، ولكنه شاهد والده يفعل ذلك.

عدية سورة يس

كان والده موظفًا بسيطًا وأولاده كثيرون، وكان يلتمس أن يزداد راتبه، وأن تتم ترقيته، ليتقاضى مرتّبًا أكبر، وكان يلتمس ذلك بالتقرب إلى الله عن طريق قراءة ما يعرف بـ "عدّية ياسين" أو سورة يس، في القرآن الكريم، وكان يطلب من ابنه الصبي الكفيف أن يفعل ذلك، عسى الله أن يستجيب لقراءة الصبي الكفيف البريء الطاهر.