رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

متعة العودة إلى «منزل الجميلات النائمات»

قبل أيام كنت أعيد قراءة رواية «منزل الجميلات النائمات»، وهى فى تصورى واحدة من أجمل كلاسيكيات الأدب العالمى التى يتفق عليها الجميع، مؤلفها هو ياسونارى كواباتا، أول يابانى يفوز بجائزة نوبل للآداب عام ١٩٦٨، والمدهش فى هذه الرواية أننى فى كل مرة أعيد قراءتها أشعر بمتعة خافتة تتسلل إلى الروح، تتسرب مع عباراته الشعرية المكثفة الساحرة، وهو يصف بدقة وحساسية مفرطة ما يدور بداخل أبطاله من انفعالات وعواطف ورغبات، والتعبير عنها بكثافة وتركيز، وهى الرواية التى كتب عنها الكولومبى الأشهر جابرييل جارثيا ماركيز، الحائز على نوبل بعده بأربعة عشر عامًا، فى مقالته المنشورة كمقدمة للترجمة العربية للرواية: «خلال خمس ساعات من الطيران تأملت فيها الجميلة النائمة، أدركت بسرعة وبقلق منزوع من المستقبل أن وضعى النعيمى لم يكن شبيهًا بسونيتة جيراردو دييجو، بل بعمل رئيس فى الأدب المعاصر، وهو (منزل الجميلات النائمات) لليابانى ياسونارى كواباتا»، ثم يعود ليقول ما نصه: الكتاب الوحيد الذى وددت لو أكون كاتبه هو «منزل الجميلات النائمات» لكواباتا، الذى يحكى قصة منزل غريب فى ضواحى طوكيو يتردد إليه برجوازيون يدفعون أموالًا طائلة للتمتع بالشكل الأكثر نقاءً للحب الأخير، قضاء الليل وهم يتأملون الفتيات الشابات الأكثر جمالًا فى المدينة وهن يرقدن عاريات تحت تأثير مخدر إلى جانبهم فى السرير، لا يملكون حتى إيقاظهن ولا لمسهن، ولا يحاولون على أى حال لأن الاكتفاء الأكثر صفاء لهذه المتعة الناجمة عن الشيخوخة هو إمكانية الحلم إلى جانبهن.

الملفت فى الأمر أن هذا الاعتراف، أو هذه الرغبة المكتومة، واللذان خطهما ماركيز بيده عام ١٩٨٢، لم يفارقا رأسه لسنوات طويلة، ولكنه كان بحاجة إلى ست عشرة سنة أخرى لكى يملك الجرأة ويكتب عملًا مستوحى من منزل جميلات كواباتا النائمات، وهو روايته التى نشرت عام ٢٠٠٤ بعنوان «ذكرى عاهراتى الحزينات»، مع اختلافات هامشية وبسيطة، كأن يكون بطل ماركيز صحفيًا كولومبيًا يحتفل بعيد ميلاده التسعين، بينما كان بطل كواباتا مجرد رجل وحيد فى السابعة والستين.

وعلى الرغم من قراءتى الرواية مرات عديدة، لكننى توقفت هذه المرة عند الصفحة الثالثة من مقدمة الطبعة الثانية الصادرة عن دار «الآداب» عام ٢٠٠٦، والتى يقول فيها كاتب المقدمة غير الموقّعة، فلا تعرف إن كان كاتبها هو المترجمة مارى طوق أم الناشر: «فى أى عالم سيدخل إيجوشى العجوز عند اجتيازه عتبة (الجميلات النائمات)؟ هذه الرواية المنشورة عام ١٩٢٦ تصور لنا سعى العجائز المصابين فى رغباتهم داخل منزل غامض، يأتون لقضاء الليل إلى جانب مراهقة نائمة، لكن الفتاة لا تستسلم لنوم طبيعى بل تنام تحت تأثير مخدر الليل كلّه دون توقف، حتى إنها تجهل مع مَن قضت ليلتها، يلج هؤلاء العجائز، أو الزبائن الذين لا يجلبون المتاعب، الغرف السرية للنائمات كأنهم يدخلون إلى معبد بعض الكاهنات، وهناك إلى جانب الدمى الحيّة ربما يستعيدون وهم شبابهم، وهم حيوية ضائعة ومغامرة أخيرة، كمن يضاجع بوذا خفيًا، وهكذا يجد هؤلاء العجائز غير القادرين على التصرف كرجال فرصتهم الأخيرة، هبة من الحياة، دون خجل أو انزعاج أو ذنب».

ووجدتنى أضحك رغمًا عنى، وأضع الكتاب جانبًا وأنا أردد بينى وبين نفسى «يالا البؤس الذى تعيش فيه الثقافة العربية». 

طبعًا لم أقل «يالا» هذه التى ذكرتها، فلم يصل بى الحال بعد إلى التفكير أو الكلام مع نفسى بالعربية الفصحى، إنما قلت عبارة شبيهة بها إلى حدٍ ما، ولكن هذا موضوع آخر يخص التفكير بالعامية والكتابة بالفصحى، ربما يأتى وقت للحديث عنه. 

المهم.. أولى علامات هذا البؤس التى انتبهت إليها فى هذه المقدمة أن الرواية لم تنشر عام ٢٦، عندما كان المؤلف يدخل عامه السابع والعشرين، بل بعدها بخمسة وثلاثين عامًا بالتمام والكمال، أى فى عام ١٩٦١، ولا تحكى عن «العجائز المصابين فى رغباتهم»، أو «غير القادرين على التصرف كرجال»، بل عن رجل وحيد يتردد على المنزل الذى دخله للمرة الأولى بدافع الفضول، ويعرف فى قرارة نفسه أنه قادر على الفعل، وهو ما يعبر عنه المؤلف بوضوح شديد فى الصفحة الحادية والعشرين من ترجمة الرواية بقوله: الرجل الذى دل إيجوشى على المنزل كان طاعنًا فى السن، وفى عداد هؤلاء، أى أنه لم يعد رجلًا، لم ترمقه المضيفة التى اعتادت استقبال عجائز من هذا الصنف بأى نظرة شفقة، ولا أظهرت ناحيته أى ارتياب. لم تكن تعرف أن إيجوشى العجوز، وبفضل تمرسه الدائم فى اللذات، لم يصبح بعد ما تدعوه المرأة «زبونًا لا يجلب المتاعب»، ولكن بإمكانه أن يصير كذلك بإرادته الشخصية، ووفقًا لمزاجه الآنى أو للمكان، أو للشريكة أيضًا.

فإذا ما عدت إلى مقدمة الترجمة ستجد ما نصه: «بالنسبة لإيجوشى ستكون الليالى الخمس التى أمضاها فى غرفة الشهوات فرصة لتذكّر نساء حياته والغرق فى تأمّلات طويلة للوصول، من يدرى، عند عتبة الموت إلى الطفولة والتكفير عن ذنبه».

والحقيقة أننى لا أعرف من أين جاءت المترجمة أو الناشر بهذا الوصف «غرفة الشهوات»، إذ لا شىء يحدث فى تلك الحجرة سوى الأحلام، واستعادة الذكريات، فعلى مدار فصول الرواية الخمس يقضى إيجوشى العجوز ليالٍ خمس فى الاستلقاء بجانب جميلات نائمات، يستعيد فيها ذكرياته التى ينتقل إليها من خلال رائحة أو لون أو حركة غير مقصودة تقوم بها النائمة إلى جواره، فمرة يعود إلى ذكريات قديمة مع أمه، كما نرى فى الجزء الذى يبدأ بقوله: «ذاكرة الإنسان وذكرياته لا يمكن وصفها بالقريبة أو البعيدة وفقًا لترتيبها الزمنى القديم أو الحديث فحسب. قد تبقى حادثة ترقى إلى الطفولة من ستين عامًا فى ذاكرتنا بشكل أفضل مما تبقى واقعة البارحة، وتُبعث بالصورة الأكثر صفاءً وحياة»، ومرة أخرى يرى زوجته، أو بناته الثلاث، يتذكر أحيانًا من مررن بحياته من نساء وعشيقات: «لقد مر إيجوشى بطبيعة الحال خلال سنواته السبع والستين بليالٍ مزعجة مع بعض النساء. وكانت خيباته من النوع الذى لم يتمكن من نسيانه. بيد أن هذه الخيبات لم تكن عائدة بالتحديد إلى بشاعة جسدية بل إلى تحول تعس فى حياة هؤلاء النساء»، «أسرت له زوجة مدير تنتمى إلى طبقة راقية، وهى امرأة ناضجة ولها سمعة فاضلة، وفوق ذلك لديها علاقات اجتماعية كثيرة: فى المساء، قبل أن أنام، أغمض عينى وأحاول أن أعد على أصابعى الرجال الذين يروق لى أن يقبلونى.. أحصيهم على أصابعى، الأمر مسلٍّ، وعندما لا أصل إلى العدد عشرة، أحس نفسى وحيدة متروكة».

ينصت إلى أنفاس النائمات ويغوص معها إلى أعماق روحه، وتفاصيل حياته.. خمس ليال تنتهى بموت مفاجئ لجميلة سمراء ذات أنفاس ثقيلة، تبدو جميلة.. تمامًا كالموت. لا شهوات هنا، ولا تكفير عن ذنوب، ولا أى شىء سوى أسئلة الحياة والخوف وقراءة الحياة، ما يعبر عنه كواباتا بقوله: «ما كانت تبثه ذراع الفتاة فى أجفان عجوز مثل إيجوشى هو تيار الحياة، إيقاع الحياة، دعوة إلى الحياة ورجوعٌ إليها».