رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دعونا نحلم بدولة الحُسن والجمال

يؤكد علماء الجمال أنه لا بد لطالب المتعة الفنيّة من أن يعود إلى العمل الفني مرة بعد أخرى، حتى يستطيع أن يستشف ما فيه من جوانب غامضة، غابت عنه في المرات السابقة، فما كان للعمل الفني أن يبوح بسره للمتأمل العابر، أو الناظر المتعجل، وهو الإنتاج البطيء الجهيد الذي لم يولد إلا بعد صراع عنيف ضد المادة..
لقد عرف الفيلسوف "سنتيانا" الفن بأنه متعة جماليّة، أو لذة جماليّة، وغيره الكثير من الكتاب المحدثين يربطون بين مفهوم الفن ومفهوم الجمال، أو القدرة على توليده، أو المهارة في استحداث ما يطلق عليه متعة جماليّة..
يذكر أنه وبالرغم ما قدم وحقق نحات ومصور كبير مثل "مايكل أنجلو"، فقد روي عنه في ختام حياته أنه سُئل يومًا: إلى أين تمضي هكذا سريعاً وقد غطت الثلوج شوارع المدينة؟ فما كان منه سوى أن أجاب بقوله: إنني ذاهب إلى المدرسة، فلا بد لي من أن أحاول تعلم شيء قبل أن يفوت الأوان!
حين أنجز"مايكل أنجلو" النحات والمصور والشاعر والمعماري ومخطط المدن تمثاله الضخم الشهير "داود" من الحجر، دعت البلدية في يوم ٢٥ يناير ١٥٠٤ أحد عشر فنانًا من عظماء القرن السادس عشر ليختاروا موقعًا في المدينة لتمثال "مايكل أنجلو"، كان من بين هؤلاء الأحد عشر عضوًا كل من أستاذه "جيرلاندايو"، و"كوزيمو روزيللى" و"سانر تشيلي"، و"فيليبو ليبتى"، ثم "ليوناردو دافينشي" نفسه، ولكنهم اختلفوا جميعًا حول الموقع وانتهى الاجتماع بأن أصدروا قرارهم بأن يتولى "مايكل أنجلو" بنفسه اقتراح الموقع..
نحن أمام مثال رائع بشأن الإعداد لمشروع تخصيص ميدان لوضع تمثال، عندما تم تشكيل تلك اللجنة الرائعة من كبار مبدعي ذلك العصر لاختيار موقع وضع العمل، تقديرًا لأهمية ومكانة العمل وتوقع تأثيره الفني والجمالي والروحي والاجتماعي، أرى أهمية أن يصل ما سبق من إشارات لدور الفن ورسائله الإنسانية عبر اللوحة والتمثال واللحن وكل ألوان التعبير لمسؤولي المحليات وأجهزة وزارة الثقافة والتنسيق الحضاري.. أن تصل تلك الرسائل لمتخذ القرار والمنفذ ومن قبلهما المخطط من أجل مناهضة القبح بكل أشكاله، وفي كل مواقع انتشاره..
لقد كتبت عشرات المقالات ، وتحدثت عبر الكثير من وسائط الميدياــ ومعي كثيرون ــ حول التماثيل التي انتشرت في الفترة الأخيرة في العديد من الميادين الكبري في الحقبة الأخيرة من ولاية الفنان "فاروق حسني" إدارة وزارة الثقافة.. نعم "الفنان" ووجود هيئة للتنسيق الحضاري لأول مرة.. هي أعمال تمثل جريمة ازدراء للفنون الجميلة ولعيون المصريين، ولمن أقيمت لتكريمهم فبتنا أمام أعمال تقلل من قدرهم ومن مظهرهم ومن رسائلهم الوطنية والإنسانية لوطنهم.
قام الفنان "أحمد فؤاد سليم" بسؤال بعض فنانينا الكبار حول رأيهم في تلك الأعمال، ويمكن الإشارة هنا أنت خلصت وعايز ننط لبعض الإجابات:
قال الفنان الدكتور"مصطفى الرزاز حول تمثال البطل العظيم الشهيد عبدالمنعم رياض" إنه تمثال خال من فكرة البطولة والاستشهاد، تمثال لا يليق حتى بخامته للمتحف المصري، ولا يليق بميدان عام، ويفتقر للرصانة والكبرياء، بل إن القاعدة ذات طابع كاريكاتوري، وهذا تورط واضح للساق والقدم والثنايات، بل والتشريح أيضًا.. إنه تمثال غير صرحي، ربما لو تم تصحيح أخطائه الكثيرة، يمكن حينئذ وضعه على "كومودينو"!
وقال المثال "السيد عبده سليم"، "إنه تمثال سيء جدًا، يده اليمنى أطول من اليسرى، وقدمه اليسرى تبدو كما لو كانت مكسرة، وهناك عيوب واضحة في الخامات، وأما القاعدة فتبدو مثل بكرة خيط مقلوبة"، وأجاب المثال "أحمد جاد" أستاذ النحت بكلية الفنون الجميلة، إنه تمثال كاريكاتوري، إن الأكتاف هزيلة، والرأس صغير، والكرمشة فوق الملابس خنقت الفورم..
وقال المثال "حليم يعقوب": أنا صدمت، وأعرف أنه حين ينشر رأيي هذا للناس سيتهمني البعض بالحقد والغيرة، ولكن عليهم أن يبحثوا عن "النحاتين" وليس عن "ألقاب النحاتين"، لقد حزنت جدًا، فهذا تمثال خالٍ من الشموخ ومجرد من العزة.. وقال الناقد المعروف "محمد حمزة" هذا تمثال مائع.. هل هناك عسكري وصل إلى رتبة فريق أول ويتواجد في خط المواجهة الأول، ثم يقف بمثل هذه الميوعة المتبدية في التمثال!
ولن أعرض نماذج من تلك الأعمال حفاظًا على مشاعر المتلقي ورد فعل ذويهم ومريديهم وتلامذتهم.. فقط أعرض نماذج من تماثيل الميادين عبر دول العالم التي رأت في تقديم فنون شعبها ومبدعيهم عبر التماثيل وفنون العمارة المعاصرة والجداريات أمرًا حضاريًا عظيمًا وداعمًا للأنشطة السياحية ورافعًا لمستويات التذوق الفني لدى الجماهير.. 
في مقولة مهمة للرئيس السيسي، أكد "ربنا بيحب الحُسن.. والسلام حُسن.. والخير حُسن.. والتعاطف حُسن.. وأي حاجة قبح مالهاش مكان، أي قبيح مالهوش مكان بيننا، الجمال فقط هو اللي ليه مكان، واحنا هنا في بلدنا هنقدّم ده، هنقدّم الجمال والحُسن للعالم كله".
إنه القبح الذي استدعى نزول الجماهير المصرية بالملايين في الشوارع والميادين في كل محافظات مصر في 30 يونيو 2013، وبإرهاصات أولى رائعة أبدعها أهل الفن والفكر والثقافة من بيتهم بيت الثقافة (وزارة الثقافة) وأمام مكتب ذلك المعين من قبل إخوان النكد والتخلف وزيرًا للثقافة رفضًا ومنعًا لدخوله مكتبه.. لقد أدركت تلك الجماهير الهدف الرئيس الذي تعجل الجماعة الحاكمة لتحقيقه الذي يتمثل في تغيير الهوية الثقافية لتسود جراثيم التخلف وميكروبات القبح وفيروسات الغباوة والاندحار القيمي..