صراع الحيتان على الدراما
اعتدنا مع قدوم شهر رمضان الكريم على هذا الجدل الذى ينخرط فيه المصريون صغيرهم وكبيرهم حول الدراما التليفزيونية، ورث الصغار من الكبار رمضان بكل طقوسه الدينية والروحية وكل ما يأتى معه: ياميش رمضان، قمرالدين المستورد من سوريا، لمة العائلة حول الطعام ساعة الإفطار، الخشاف، صلاة التراويح، وبعد ذلك كله مسلسلات رمضان.
ومما يقال إن المسلسلات الدرامية عرفتها مصر منذ إطلاق الإذاعة عام ١٩٣٤، ثم جاءت بعد ذلك المسلسلات التليفزيونية فى الستينيات، لم يخترع أحد لنا تلك الطقوس، لم نستوردها من أحد، وإنما كانت «ماركة مصرية مسجلة» وممتازة دخلت قلوب إخوانا العرب من المحيط للخليج، لم يسعَ أحد فى مصر إلى تصدير الفن المصرى، وإنما أقبل العراقيون والسوريون والخليجيون والمغرب العربى على المواد الدرامية المصرية من تلقاء أنفسهم، حبًا وكرامة، أى والله.. لماذا؟ لأن المواد المنتجة كانت أكثر من ممتازة من الناحية الفنية، تتميز بالصدق فخلقت ما يسميه شباب اليوم «بوندنج» أى رابطة عاطفية من أنسجة وعظام الإنسان.
امتد الجدل العام الحالى حول ١٨ عملًا ما بين الكوميديا والتراجيديا منها: «الكتيبة ١٠١» بطولة عمرو يوسف وآسر ياسين و«الكبير أوى» لأحمد مكى و«عملة نادرة» لنيللى كريم، و«بالطو» و«بينا ميعاد» للفنانة شيرين رضا وصبرى فواز، و«عالم تانى» بطولة رانيا يوسف، و«الأصلى» بطولة ريهام عبدالغفور و«جروب العيلة» و«جروب الماميز» و«تياترو» و«الغرفة ٢٠٧».
أستطيع أن أقول إن دراما رمضان جزء من الهوية المصرية لا ينبغى أن نقلل من أهميتها فى وسط عالم ضارٍ تحتدم فيه المنافسة، سواء فى الإقليم أو فى شرق العالم أو غربه حول الدراما، وهو ما ينبغى مواجهته بكل قوة رغم انتقادات البعض مستوى بعض المسلسلات، ليه لأ؟ خلى الناس تعبر عن رأيها فى الدراما، هذه ظاهرة صحية تعبر عن مدى تقدير المصريين لهويتهم وغيرتهم على ما نقدمه، هناك بالتأكيد مسلسلات جيدة يشاهدها البعض، وهنا تختلف الذائقة، السوشيال ميديا وضعت صحيفة تحت يد كل مواطن يقول فيها ما يشاء، تحولت صفحات الفيسبوك وغيرها إلى صفحات نقد فنى واجتماعى، وهو ما نطلق عليه فى علوم الإعلام «المواطن الصحفى».
هذا الكم من الدراما المصرية يحاول أن يواجه ما تمطرنا به المنصات الرقمية من مسلسلات نجح بعضها فى أن يرسخ مكانه لدى شبابنا فى غيبة الكبار، من يتخيل أن الدراما الكورية والموسيقى الكورية والطعام الكورى يجتاح بهوس ذائقة الشباب فى مصر، قبل ذلك شهدنا ظاهرة المسلسلات التركية والسورية ودراما أمريكا اللاتينية. كانت موجة وانتهت.
الآن تستمر المسلسلات الإسبانية والبولندية على شبكة «نتفليكس» التى اضطرت الشهر الماضى إلى تخفيض قيمة اشتراكاتها فى بادرة لا يعرفها المواطن المصرى والعربى لا لسبب إلا لانخفاض عدد اشتراكاتها فى منطقة الشرق الأوسط.
لم تعد المنافسة مقتصرة على «نتفليكس» وإنما «أمازون» و«ديزنى»، والمنافسة تستهدف تكسير العظام، وغالبًا يكتب فيها الفوز للشركات العالمية التى تدخل للاستحواذ على الشبكات المحلية على الإنترنت.
الآن تتاح أمام شبابنا مسلسلات تمتلئ بمشاهد الجنس العنيف، وأيضًا مشاهد الجنس غير التقليدى، ولا يستطيع أحد إيقافها ولا ننادى بإيقافها.
الإنتاج الضخم الذى تقدمه مصر لمشاهدها هو «خط دفاع» عن الهوية والشخصية المصرية.
الإنتاج الضخم هدفه إنعاش صناعة يعمل فيها عشرات الآلاف من الفنانين والفنيين والمصورين والمخرجين وكتّاب السيناريو، فى ضوء تراجع القطاع الخاص الذى يهدف بالدرجة الأولى إلى تحقيق أرباح وأرباح ضخمة.
كما أنشأت مصر مؤسسة السينما فى الستينيات لمساعدة صناعة السينما، تساعد الآن على إنتاج ضخم يملأ ساعات المشاهد، إن لم تملأها مصر فسوف يملأها آخرون غدًا وساعتها لن نبكى إلا على اللبن المسكوب.