رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عزيزى إبراهيم عبدالفتاح.. اضحك وعديها وماله

لا أذكر عن تلك الليلة البعيدة شيئًا، وربما لا أعرف الآن عن تفاصيلها الكثير، لكننى كنت وحدى، وكان زحام اليوم الدراسى فى كلية الهندسة بشبين الكوم، تلك الكلية التى لم تكن لى ولم أكن لها، لا أعرف ماذا قاد خطواتى إليها، ولا كيف ساقتنى الأقدار لدخولها، ولا كيف استسلمت لها على غير عادتى، فأنفقت فيها ما أنفقت من سنوات، لم يكن لى خلالها سوى الهروب إلى رفقة الشعر والشعراء، وليالى المسرح والغناء ونوادى الأدب، والبنت التى أهدتنى ألبوم «أنا كنت عيدك» لعلى الحجار فور صدوره نهايات ١٩٨٩. 

كان المطر والبرق والرعد تملأ سماء المدينة الصغيرة، والجميع يهربون إلى دفء البيوت.. فى الأفق أضواء شحيحة تتسرب من بعض النوافذ مُحكمة الإغلاق، إحداها فى المبنى المقابل، يتسلل منها صوت على الحجار فى هدأة الليل، ناعمًا بلا حِلياتٍ لحنية معقدة، وبلا «عُربَ» معتادة، ولا انتقالاتٍ شاقة لاستعراض الصوت.. فقط جملة لحنية تنساب بسهولة ويسر، وكلمات بسيطة ومبللة بماء الحنين: «مش جى ألومك ع اللى فات، ولا جى أصحى الذكريات، لكنى بحتاجلك ساعات.. لما الشتا يدق البيبان».

لم أعرف وقتها إن كانت تلك فتاة تستمع إلى الأغنية من إحدى محطات الراديو، أم هو زميلٌ، حديث الغرام ومعاناة الهجر، ألجأه الحنين إلى غرفة الذكريات، لكننى عرفت وقتها، وأعرف الآن، أنه منذ إصدارها فى ألبوم «أنا كنت عيدك» نهاية عام ١٩٨٩، أصبحت أغنية «لما الشتا يدق البيبان» للشاعر الجميل إبراهيم عبدالفتاح هى المرادف الرسمى لفصلى الخريف والشتاء، لا يبدأ العام الدراسى إلا بها، ولا معنى لسهرات المذاكرة دونها ودون تفاصيلها كاملة، برودة الليل تكتسب منها القدرة على نبش القلوب، والحفر فى أعماقها، والوصول إلى الدفين من أسرارها.. ربما تمطر السماء فتجرى لتبحث عن رصيف أو مدخل عمارة تحتمى تحت سقفه، تلف نفسك بكوفية صوفية تغطى بها صدرك ورقبتك أملًا فى قليل من الدفء، تعلن اللجوء إلى اللحاف، «تتكلفت» تحته أو بداخله، لكنك لن تدرك أنه الشتاء إن لم تستمع إلى واحدة من فقراتها، لن تشعر بالدفء يغمر القلب ويعوضه عن افتقاد الونس إن لم توقظه تلك الكلمات التى كتبها إبراهيم عبدالفتاح «وهو سايب إيده»: «لسه حنينى بيندهك رغم البعاد، ولسه زهرة حبنا بتطرح ميعاد».

أذكر تلك اللحظة جيدًا، وأذكر أن شيئًا ما مس القلب عندما استمعت إليها تتسلل إلى الروح فى سكون الليل الطويل، «خريف نادانا والشجر دبلان، بردانة كنتى وكنت أنا بردان».. يا الله!! ما هذه البساطة المفرطة؟ وما هذه المشاعر المؤلمة وكيف ترتاح فى ظلها الروح؟ كيف صاغها ذلك الشاب «خفيف الروح» فى عبارات لا تقبل الحذف أو الإضافة؟ ومن أين له كل هذا السحر؟ وهذه العفوية؟

ربما لم أتوصل أبدًا إلى معرفة مصدر الصوت فى تلك الليلة، لكننى أعرف الآن جيدًا أنه ربما لم يكن فى جيلى، وفى أجيالٍ أخرى تالية من لم تمسسه هذه الأغنية، كلنا تقريبًا أحببنا على نغمات لحنها، وقضينا الليالى «نعيدها ونزيدها»، بل إنها حتى هذه اللحظة، لا تزال كلماتها هى مفتاح الدخول إلى لحظاتنا الحلوة التى صكها إبراهيم عبدالفتاح، وقدم بها نفسه إلى عموم الشعراء فى مصر والعالم العربى، فأفسحوا له الطريق إلى مقدمة المشهد، وهو لا يزال شابًا، عفيًا، بمفردات طازجة، ناعمة، وعبارات سهلة وبسيطة، تبدو وكأن كاتبها لم يبذل أى مجهود فى صياغتها، وكل ما فعله أنه فتح أبواب روحه لتتلقى وتكتب ما يملى عليه.

قبلها كان لإبراهيم عبدالفتاح إنتاجه الشعرى والغنائى، كما كان لعلى الحجار إنتاجه ونصيبه من الشهرة، لكن، أغلب ظنى، أن هذه الأغنية كانت بمثابة نقلة كبيرة لكلٍ منهما، كما كانت بالنسبة لملحنها الراحل الجميل أحمد الحجار، ويكفينى أنها كانت دليلى للبحث عن إبراهيم الذى كنت محظوظًا بمعرفته والقرب منه بعدها بسنوات معدودة، لكى أجدنى لم أفارق ذلك الشاب الذى لمست روحه السهلة البسيطة والعفوية فى ليل شبين الكوم، إذ لا فارق بينه وبين ذلك الشخص اللطيف الذى يلعب «الطاولة» بجانبى على «زهرة البستان»، لا فارق بين ما كتبه ويكتبه، وبين ذلك الوجه المبتسم فى وجه الجميع رغم ما يخفيه من أحمال.. لا يتوقف صوته عن الدندنة والغناء، ولا تتوقف روحه عن مطاردة الشعر، واصطياد اللحظات الفارقة، لا تعجزه قصيدة، ولا تفوته صورة، ولا تغفل عيناه عن قراءة الجمال ولو فى خطوةٍ عزيزةٍ وعابرة، يراقبها جميعًا، ويكتبها جميعًا «وهو سايب إيده».. فى العربية الفصحى له مذاقه، وفى العامية المصرية له فرادته وتميزه وطريقته التى تصيب أهدافها بلا عناء وبلا مشقة ولا «حزق». ربما كان ذلك هو البوابة التى امتدت من خلالها محبتى لإبراهيم عبدالفتاح وشعره ونثره لأكثر من ثلاثين عامًا.. أحبه، وأحب صحبته، أحب صوته عندما يغنى فى جلساتنا الخاصة، وعندما تحلق كلمات أغانيه فى «تترات» المسلسلات فى ليالى رمضان، تلك الكلمات التى أفتقدها ويفتقدها معى كثيرون هذا العام، ونأمل ألا يمتد غيابها عنا لمواسم رمضانية أخرى، خصوصًا بعد رائعته التى أحبها عموم المصريين والعرب العام الماضى فى مسلسل «جزيرة غمام».

على أننى من بين جميع المسلسلات التى كتب أغانيها إبراهيم عبدالفتاح، وهى كثيرة، أجدنى أسيرًا لتلك التى كتبها لمسلسل «الدالى»، أغنية النهاية على وجه التحديد، ولعله من المناسب هنا أن أعترف أنها ظلت لسنوات طويلة، هى المعين الوحيد لى للتغلب على مشاعر الغربة وافتقاد الأهل والأحبة خلال فترة عملى خارج مصر، «ما تقولش ضهرى يا ناس مكسور، بصحى فى هموم وببات فيها.. دا البنا عاش يبنى فى قصور ولا عمره ليلة بات فيها»، كانت هى مفتاح الخروج من أصعب الأوقات، تأخذنى كلماتها البسيطة وحلولها السحرية إلى مساحة من السكون والتسليم بما أرادته وتريده الحياة، وكثيرًا ما تخيلت أن عبارة «اضحك وعديها وماله، ولا شىء بيفضل على حاله»، هى أول الخيط الذى ينبغى أن يمسك به ويتأمله جيدًا كل من يريد قراءة مفاتيح شعر وشخصية إبراهيم عبدالفتاح.. فهكذا هو، وهكذا هى حياته، وهكذا شعره..

رمضان كريم يا صديقى، حتى وإن فاتنا هذا الموسم، فاضحك وعديها وماله.