رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى مسرحية «ولا فى الأحلام».. المصريون شعب ما زال يحب الفودفيل!

لماذا يحب المصريون عروض المسرح الغنائى والفودفيل وعروض المنوعات التى تقوم على المواقف المضحكة والحوادث المعقدة والمفاجئة وتعتمد على الالتباس الذى يحقق الإثارة وتتميز بحوار ذكى وسهل يقوم فى بنيته العميقة على الموسيقى والغناء؟ مسرح تقريبًا تخلو بنيته الدرامية من الصراع، فقط حدث يتطور بشكل يؤدى إلى التشويق من خلال خلق لأزمة تنتظر الحل.

فى مسرح قصر النيل كان الجمهور المصرى على موعد مع هذا النوع من المسرح من خلال عرض «ولا فى الأحلام» للمخرج هانى عفيفى، تأليف وموسيقى وإنتاج إبراهيم موريس، ليضع المخرج الجمهور منذ اللحظات الأولى فى فضاء الحكاية من خلال ديكور واقعى هو مزيج من البانر «لوحات مصورة تجسد المكان» وقطع الأثاث الصغيرة أتاحت له تصوير الواقع المصرى فى ستينيات القرن الماضى وتوريط المشاهد فى هذا الزمن من خلال صورة الحى الشعبى، حيث يسكن الأخوان «برجل وسفرجل» الأول مخترع يعد دواءً سوف يؤثر على العقل الباطن ويحقق الطموحات من خلال الأحلام فمن المفترض أن من يتناوله وينام يعيش كل ما يتمناه، تتحقق طموحاته وأمنياته فى الحلم كأنه عاشها فى الواقع، وهذا الاختراع هو قوام الحبكة التى تدور حولها أحداث العرض الذى يتنقل بين مجموعة من المشاهد فى فصلين يغلب عليها الطابع الغنائى والمحاكاة الساخرة، مشاهد تعتمد على الغناء والموسيقى والاستعراض من خلال لغة لا تخلو من التهكم، وتجسد بقوة هذا النوع من المسرح الذى يتناول موضوعات اجتماعية مثيرة حول الخيانة والمال وعلاقات الحب، تقريبًا يخلو من أى بعد نقدى تحليلى للمجتمع، فالعروض غالبًا ما تطرح شخصيات اجتماعية مسطحة تناقش قضايا خاصة تبتعد وتتجنب الأمور فى عموميتها، و«برجل وسفرجل» نموذج حى لهذه الشخصيات، يحملان أسماء غريبة سوف تكون مادة جيدة للسخرية، كلاهما يحب، كلاهما تعيس فى الحب، فبعد أن ينجح برجل المخترع فى إعداد الدواء يجربه فى سفرجل الذى ينام فتتغير الدنيا وتتحول الشخصيات وتتبدل طبائعها بل ويتغير الشارع فى فضاء الحكاية، تتغير الألوان وصورة البيوت ليغلب عليها اللون الوردى، الخردواتى صابر يتسامح مع كالستيا الخياطة ويبيع لها بالآجل بعد أن كان يزجرها، السيدة التى فى الشرفة بدلًا من الصراخ على زوجها تهمس برقة ودلال، جميلة الحبيبة المستعصية تتحول وتعامل سفرجل بود وحنان، يذهبان إلى الحديقة، وسوف يشاهد الجمهور على خشبة المسرح ما يدور فى العقل الباطن لبرجل، وأيضًا يشاهد هذه النزهة فى ثلاثة مشاهد بثلاث رؤى مختلفة هى تحولات العرض، مشاهد تجسد بقوة صيغة الفودفيل، تجمع بين الغناء والاستعراض وتقوم على الالتباس الذى يثير التشويق ويؤدى إلى الضحك، الجميع فى الحديقة سعيد وتفيض أساريره بالرضا، الخردواتى وكالتسيا، سيدة الشرفة وزوجها، سفرجل وجميلة.. وثمة امرأة تبكى ومعها طفلتها تحنو عليها جميلة تمنحها المال وتعدها بالعمل فى اليوم التالى، تتردد الكلمات «جوزى الشهر اللى فات فى حادثة مات وساب ديون حتى التليفون» ويفيق سفرجل من الحلم أو هكذا يبدو! تتغير الحارة، وتعود الصورة إلى القتامة أى إلى الواقع ويطلب من جميلة الذهاب إلى نفس الحديقة، يتغير الأداء قليلًا لتبدو جميلة شخصية صارمة، نفس الشخصيات، نفس مفردات المشهد تتغيرالألوان، تتغير الملابس تصبح واقعية، تتوارى لغة الحلم قليلًا وتتحول الشخصيات وتتبدل أفعالها، جميلة تزجر الأرملة وتقسو على ابنتها، تصطدم مع سفرجل، تعامله بفظاظة وتغادر الحديقة، وتغنى الأرملة ومعها الآخرون «سيبك منها ما تستهلكش»، وفى سياق حبكات الفودفيل القائمة على الصدفة ينسى سفرجل مفتاح بيته ويلتقى «زهرة» التى تحبه دون أن يلتفت إليها، تقوده الصدفة إلى بيتها يجد صوره تملأ الحوائط، يقع فى غرامها يذهبان إلى الحديقة ليتكرر المشهد للمرة الثالثة وفى الواقع تكرر «زهرة» ما حدث مع «جميلة» فى الحلم تكون حنونة ورقيقة مع الأرملة، مشهد يثير الضحك حيث يعرف المشاهد ما لا تعرفه الشخصية، يعرف المفارقة، فعلى سبيل المثال لا تعرف زهرة أن «برجل» عاش هذا الحدث من قبل مرتين فى الحلم والواقع مع الجمهور فقط «زهرة» الغريبة عن المشهد والجمهور يعرف ما لا تعرفه وهذا ما يثير الضحك عنده لأنه يعرف أن الشخصية تجهل ما يعرفه!

ولأن هذا النوع من المسرح لا يطرح الأسئلة ولا يسعى إلى التغيير بل يعيد الأمور إلى نصابها مثل التصالح بين الأحبة أو عودة الابن لأبيه وهكذا يتزوج برجل من زهرة ويعيش حياة نمطية فى مشاهد تتعمد تكرار المفردات، تتعمد النمطية لإثارة الضحك، تتطور دورة الحياة بين الزوجين من الحب والرومانسية إلى البيت والمسئولية وأعباء الحياة، موضوعات تشبه تفاصيل حياة من يشاهدون هذا العرض فى الصالة، حياة يعرفها هؤلاء جيدًا ويشاهدونها على خشبة المسرح فى لوحة غنائية لا تخلو من السخرية والمواقف المضحكة، فتنال رضا المشاهد الذى لا يشعر بالغربة أو الغرابة، مشاهد مسلية وخاصة إذا كانت متقنة الصنع. مسرحية «ولا فى الأحلام» نموذج لهذا النوع، عرض متقن الصنع يقدم نموذجًا لعروض المسرح الغنائى التى تعتمد صيغة الفودفيل، هذا النوع الذى ذاع صيته فى عشرينيات القرن الماضى على يد رائد الإخراج المسرحى فى مصر عزيز عيد مع نجيب الريحانى وبديع خيرى والذى حقق نجاحًا جماهيريًا كبيرًا اعتمد على نصوص عالمية من خلال إعداد قدم حبكات متقنة من خلال تمصير هذه النصوص التى ظلت باقية سنوات طويلة وأعيد إنتاجها مع آخرين شأن معظم أعمال نجيب الريحانى، ففى هذه العروض بالإضافة إلى فخامة مفردات المنظر المسرحى لعب النص وبناء الحكاية دورًا كبيرًا وهذا ما افتقده عرض «ولا فى الأحلام» الذى اكتفى بتقديم فكرة مثيرة قوامها الغناء والموسيقى وبعض المواقف المضحكة دون أن يهتم ببناء الحكاية بتطور الأحداث وبناء الشخصيات وفقًا لقالب الفودفيل ومسرح المنوعات، مما أصاب العرض بالتكرار وبدت أفعال الشخصيات عشوائية دون مبرر درامى، غير مقنعة، تكرار أصاب المشاهد بالملل، رغم محاولة العرض من خلال مفردات المنظر المسرحى محاكاة زمن الحدث «ستينيات القرن العشرين» من خلال اللغة وأيضًا الموسيقى، فقد استلهم إبراهيم موريس إيقاع موسيقى النصف الأول من القرن العشرين، مما وضع المشاهد فى زمن الحدث بالإضافة إلى براعته فى كتابة الأغانى التى استعارت كلماتها روح تلك المرحلة، ليقدم العرض مجموعة من المشاهد متقنة الصنع على مستوى الصورة بالإضافة إلى الموسيقى وكلمات الأغانى التى استمع إليها الجمهور بشكل مباشر من فريق العرض وهذا ليس سهلًا، فالسواد الأعظم من المسرحيات الغنائية تقدم الأغانى مسجلة للجمهور، وظنى أنه من مزايا عرض «ولا فى الأحلام» الغناء الحى الذى استمع إليه الجمهور وتفاعل معه طيلة زمن الحدث والذى كان من أهم عناصر الجذب والتشويق. الغناء الذى هو جزء أساسى من وجدان المصريين ويحتل مساحة كبيرة فى الذائقة العربية قديمها وحديثها وهذا ما أدركه رواد المسرح الأوئل مارون نقاش وأبوخليل القبانى ويعقوب صنوع. وعلى الرغم من المدارس والاتجاهات الحديثة والمعاصرة التى مرت على المسرح المصرى على مدى أكثر من قرن ونصف إلا أن المسرح الغنائى بكل تجلياته وأشكاله عبر العصور ظل الأقرب إلى الوجدان وخاصة إذا كان ذا طابع كوميدى!