رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«حياة محمد».. رسول الإسلام برؤية مسلم عصرى

جريدة الدستور

عاد الدكتور محمد حسين هيكل باشا إلى مصر عام ١٩١٢ بعد ثلاث سنوات قضاها فى باريس، درس خلالها القانون فى جامعتها العريقة بعد أن كان قد أنهى دراسة الحقوق فى مصر، هناك لم يتعرف فقط على القانون والاقتصاد السياسى الذى حصل فيه على الدكتوراه، بل تعرف أيضًا على طريقة البحث العلمى الصحيح التى تعتمد التدقيق وإعمال العقل والتفكير وترفض الجمود وتحيزات الهوى، عرف هناك اللغة الفرنسية وتمكن منها، قرأ كثيرًا، وأحزنه كثيرًا ما يقال عن الإسلام والمسلمين ونعتهما بالتراجع والتخلف، عرف الغرب وحضارته ولكنه ظل شديد الحب لوطنه والغيرة على دينه.

بعد عودته عمل بالمحاماة عشر سنوات، ثم انضم لحزب الأحرار الدستوريين وتولى رئاسة تحرير جريدة «السياسة» لسان حال الحزب. 

فى الثلاثينيات من القرن العشرين لم تكن السياسة شاغله الوحيد رغم الكثير من أحداث تلك السنوات، فقد كانت الغيرة على دينه ما زالت تعتصر فؤاده، يتذكر تلك الأيام التى قضاها فى باريس، كيف كانوا هناك يصفون تأخر المسلمين بسبب دينهم، وينسبون إلى دين الله ما ليس فيه، وإلى نبى الإسلام ما لم يكن من أخلاقه، كتابات المستشرقين المتعصبين ضد الإسلام تقلقه، وجمود المسلمين الذى يقولون إن باب الاجتهاد قد أغلق يزعجه، فالقضاء على حرية الرأى وحرية البحث أخطر ما قد تصاب به الأمة.

فكر هيكل أن عليه واجبًا تجاه وطنه وأهله ودينه، ماذا عليه أن يفعل فى مواجهة ذلك؟ 

اتخذ قراره بعد تمعن وتفكير سيدرس سيرة نبى الإسلام دراسة علمية دقيقة، معتمدًا أدوات البحث العلمى الحديث، عاد إلى القرآن أوثق المصادر وأكملها، قرأ كتب الثقات من المؤرخين وكتاب السيرة النبوية، قرأ كتب المستشرقين، المعتدل منهم والمتعصب.

فى عام ١٩٣٢ كان الدكتور هيكل يقضى الشتاء بالأقصر، وهناك قرر أن يبدأ الكتابة بعد أن أحس ببعض التردد، خوفًا من دعاة الجمود والانغلاق الفكرى الذين قد يرفضون كتابه، ولكنه لقى من مشايخ مستنيرين الكثير من العون، فقد أمده أصدقاؤه من المشايخ بالكثير من المراجع المهمة، ليس المشايخ فحسب، بل كان رائده وأستاذه أحمد لطفى السيد يعمل وقتها بدار الكتب فساعده كثيرًا، وأعاره صديقه مكرم عبيد نسخة من كتاب المستشرق السير وليم موير الذى يحمل الاسم نفسه الذى سيختاره لكتابه «حياة محمد»، الشيخ الأكبر الإمام محمد مصطفى المراغى شيخ الأزهر وقتها ساعده فى بحثه وأعانه على فهم ما استغلق عليه، ولما أتم الكتاب عرضه عليه فكتب الإمام تعريفًا للكتاب نُشر فى مقدمته.

صدر الكتاب عام ١٩٣٥ وطبع بمطبعة مصر، كانت طبعته الأولى فى عشرة آلاف نسخة نفدت كلها فى ثلاثة أشهر، فلماذا أقبل القراء على الكتاب بهذا الشكل؟!

كان الكتاب فى ذلك الوقت أول محاولة لكتابة السيرة النبوية بشكل عصرى، وبأسلوب علمى، تخضع الأحداث للتمحيص والتدقيق، ولا تقبل ما نسب إلى النبى مما لا يقبله العقل، كان هيكل يعتقد أن هناك الكثير من الإسرائيليات قد دُست فى كتب التراث، وأن تلك الكتابات يجب أن تخضع للمراجعة وإعمال العقل، الكثير من المستشرقين وأعداء الإسلام يستغلون تلك المرويات للافتراء على النبى، كتاب الله هو أصدق المصادر عن سيرة نبيه وغير ذلك، فكل شىء قابل للمراجعة والنقد.

بأسلوب عذب أدبى شيق قسَّم كتابه إلى فصول متتابعه، يبدأ «هيكل» كتابه قبل ميلاد النبى الكريم بأكثر من قرن من الزمان، يصف حال الجزيرة العربية وقتها، وقوعها بين إمبراطوريتين متحاربتين «الفرس والروم»، يصف حال مكه وأهلها منذ الجد الخامس للنبى الكريم «قصى بن كلاب» واصفًا شكل العلاقات الاجتماعية والدينية فى ذلك الوقت وخصوصية مكانة مكة، يتتبع المؤلف حياة النبى منذ ميلاده، ثم صباه وشبابه فيدرس الجوانب المهة فى سيرة النبى، كيف كانت قريش شديدة التقدير له قبل البعثة، لقبوه بالأمين ووثقوا برأيه دائمًا، كيف كان دائم التأمل والانقطاع بغار حراء، حين نزول الوحى وعهد النبوة، وما كان من إيذاء قريش له ولأصحابه ثم هجرته إلى يثرب وتتابع الغزوات التى يصفها الكاتب بتفصيل دقيق، شارحًا كيف كان النبى الكريم فى السلم والحرب، كيف عقد المعاهدات السياسية ببراعة فائقة، لم يكن داعية حرب كما حاولوا أن يصفوه، بل إنه قضى حياته، محاولًا نشر الدين والتسامح والإخاء، يصف كيف عامل أهله وأصحابه بل وأعداءه أيضًا. يتصدى لأكثر القصص الشائكة التى ألصقت بالسيرة النبوية التى استعملها المستشرقون للنيل من النبى الكريم، بالبحث وإعمال العقل يفند تلك القصص، يجادل بالتى هى أحسن ويبطل مزاعم هؤلاء، تحدث عن قصة الغرانيق التى اتهموا فيها النبى ظلمًا أنه يبدل الوحى ويقول للناس ما لم يقله جبريل عليه السلام، فيثبت بالأدلة العملية والتاريخية كذب تلك القصة، يتحدث عن مسأله أزواج النبى التى قيل فيها الكثير أيضًا عن النبى وكثرة زواجه فيشرح ويوضح كيف كان تقدير النبى الكريم للمرأة وكيف عاش إلى جوار السيدة خديجة ثمانية وعشرين عامًا متصلة لم يتزوج بغيرها، ثم يفند أسباب زواج النبى بعد ذلك مدافعًا عن النبى ذلك الافتراء.

تمضى فصول الكتاب تحكى «حياة محمد» من ميلاده إلى وفاته، ثم يختتم الكتاب بمبحثين منفصلين يتحدث فى إحدهما عن الحضارة الإسلامية كما صورها القرآن والكثير من المعانى السامية التى أقرها الدين الحنيف وفى الآخر يرد على المستشرقين وما نسبوا إلى الحضارة الإسلامية.

لا يملك القارئ إلا الانبهار بهذا الكتاب، ليس عن هوى وحب للنبى الكريم فحسب، ولكن لذلك الأسلوب العلمى الدقيق الذى يثرى العقل ويحث على التفكير وحرية الرأى.

منذ صدور الكتاب عام ١٩٣٥ وحتى الآن تتوالى طبعات الكتاب وما زالت، ويعتبر الكتاب واحدًا من أهم المصادر التى كتبت السيرة النبوية فى القرن العشرين.