رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تسالى فى نهار رمضان «5-1»

أسطورة أراكنى.. كُن ماهرًا إلا قليلًا

تحكى الأساطير اليونانية عن أراكنى ابنة إيدمون دى كالفون، الذى كان يعمل فى صباغة الصوف بالأرجوانى، والتى كانت مشهورة ببراعتها فى الحياكة والتطريز، حيث كانت تمتلك مشغلًا للحياكة. 

تمتعت أراكنى بموهبة عظيمة فى النسج والحياكة. كانت ماهرة إلى درجة أنها تستطيع أن ترسم أى شىء يخطر على بالها، حتى حبات السمسم، بدقة بالغة جدًا. كانت نساجة أقرب إلى الرسامين الكبار. أثار إتقانها جميع الناس، بل إن الحوريات كُن يتركن حفلات أسرهن، وما أكثرهن فى قلب الغابة أو النهر أو البحر أو الجبل، ويأتين ليتفرجن على شغل أراكنى الجميل.

أفقدها الإطراء الذى كانت تتلقاه على الدوام رشدها، فدفعتها مهارتها وبراعتها فى الخياطة إلى التأكيد بأن قدرتها تفوق الربة أثينا «آلهة الحكمة والحرب والصناعة اليدوية». 

وكانت النتيجة أن غضبت «أثينا» إلا أنها منحت أراكنى فرصة للتراجع وتخليص نفسها، متنكِّرة فى مظهر عجوز حائكة، خطّ الشيب خصلاتها المستعارة المدلاة على صدغها، فتوكأت على عصا ومشت فى خطوات متثاقلة، ثم بادرت أراكنى قائلة: «ليست الشيخوخة هى تلك الأعباء التى نضيق بها، بل هى خبرة طويلة أفدناها على مر السنين، وأنا أهيب بك أن تستمعى إلى نصيحتى: احرصى ما شئت أن يقال لك إنك أكثر البشر مهارة فى غزل الصوف، ولكن احذرى أن تتعدى طورك فتقرنى نفسك فى هذا الصدد بإلهة من الآلهة، بل عليك أن تتولى إليها لتغفر لك تطاولك عليها، ولسوف تصفح عنك حين تطلبين إليها ذلك».. تركت أراكنى النسجية التى كانت فى يدها، ورمت المرأة العجوز بنظرة غاضبة وهى مقطبة الجبين وأجابت ثائرة دون أن تعرف أنها الإلهة: «أراك قد بلغت من العمر أرذله، وهذا ما يعيبك. لقد أوهنتك الشيخوخة وأضعفت مداركك، فإن كانت لك بنات أو زوجات أبناء فادخرى لهن نصائحك لأننى قادرة وحدى على رعاية مصالحى، ولا تخالى أن تحذيراتك سوف يكون لها أثر فى نفسى فإننى ما زلت عند رأیی، لماذا لا تأتينى أثينا نفسها فتطاولنى، ولماذا تتهرب من مباراتى؟» لم تكتف أراكنى بالسخرية، بل اقترحت المنافسة فى الحياكة لتبرهن على براعتها وتفوقها، ومن هنا لم تعد الربة بحاجة إلى التنكر فأظهرت أثينا نفسها لتبدأ المسابقة. 

نسجت أثينا قصة صراعها مع بوسیدون Poseidon على المدينة التى سميت فيما بعد باسمها. قدمت أثينا مشهدًا جميلًا لبوسیدون وينبوعه ذى المياه المالحة، وأثينا مع شجرة الزيتون المحببة لها، التى أهدتها للشعب حتى يسمى المدينة باسمها. وقد دهش المتفرجون لهذا النسيج وتلك الأناقة التى فيه، وللوحة الرائعة التى ظهرت بعد أن أعملت أناملها الساحرة.

كان النسيج الذى غزلته أراكنى رمزًا لاثنى وعشرين مشهدًا مختلفًا للحبائل والخدع والأساليب الماكرة التى استخدمها زيوس فى إغواء البشر، فرسمت ليدا Leda مع البجعة «أى زیوس»، ورسمت أوروبا Europa مع الثور وهو الشكل الذى اتخذه زيوس ليخطف أوروبا، ودانائى Danae مع زخة المطر الذهبى التى دخل بها زیوس إليها وجعلها تحمل منه.

كانت المشاهد حية، حتى إن الثور الذى يخوض سابحًا عباب البحر بدا كأنه ثور حقيقى يحمل على كتفيه فتاة حقيقية. 

وكما صورت الشخصيات بدقة كذلك صورت الأماكن تتفق والأحداث، حيث نرى فويبوس فى ثياب فلاح ثم فى ريش صقر تارة وفى جلد أسد تارة أخرى، وفى هيئة راعٍ يغازل إيسيه ابنة مكاريوس، وقد طرزت أراكنى حواف السجادة بزهور متشابكة مع أغصان لبلاب رخو.

حتى أثينا نفسها كانت معجبة بعمل أراكنى واعترفت بأنه لا عيب فيه. وبالرغم من اعتراف أثينا ببراعة أراكنى، إلا أنها استشاطت غضبًا بشأن اختيارها للموضوع لما فيه من تقليل احترام الآلهة، حينئذ نفد صبرها فقامت بتدمير المفرش الذى حاكته أراكنى بضربة قوية من رمحها، ولم تكتف بذلك، بل وجهت ضربة أخرى لرأس الشابة، عندها أدركت أراكنى ما ارتكبته من حماقة فاعتراها الخزى وهربت وانتحرت بشنق نفسها. 

أشفقت أثينا لحال أراكنى وقالت لها: فلتقومى حية، ولكن معلقة فى الهواء إلى الأبد، ولا تعقدى علىّ أملًا بعد، إذ سيكون هذا مصير أبنائك وأحفادك من بعدك.. ثم أخذت فى الابتعاد بعد أن نشرت عليها عشبًا مقدسًا لهيكات، وما كادت عصارة هذا العشب السام تلمسها حتى تساقط شعرها وضمر أنفها وأذناها ورأسها وبقية أطرافها وبرزت فى جنبيها أصابع دقيقة بدلًا من سيقانها، ولم يبق منها إلا بطنها ينساب منه الخيط. وها هى ذى تصل نسيجها كما كانت تفعل من قبل، وإذا هى تصبح عنكبوتًا سيكون محكومًا عليها ستظل تغزل إلى الأبد، وأن تسحب من جسدها الخيط الذى تنسج منه شبكتها.