رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرجل والحصان.. ووجع الفقد

في يوم ما أصعبه وبمشهد محزن أظنه لن يمحى من مخيلتي كانت بداية نهار لا أعاده الله فيما تبقى لي من أيام على الأرض، فبينما كنت أمارس رياضة المشي الصباحية اليومية قبل حرماني من ممارستها لتصاعد أعراض الكهولة.. لمحت على مدد الشوف وبصعوبة رؤية نظرًا لتغطية شبورة كثيفة المشهد العام عربة قادمة تقترب يجرها حصان بصعوبة وبخطى بطيئة متثاقلة وهي محملة بكمية هائلة من أقفاص الخضروات والفواكه، وعلى عكس ما تعودنا من سلوكيات أصحاب تلك العربات من مشاهد الضرب والتعنيف عندما لا يسرع الحصان السير، كان الرجل يلاطف ويحاور حصانه بعطف وود، حتى لاحظت توقف الحصان عن السير ثم وقوعه فجأة ومعه العربة على جانبه الأيسر ليملأ الطريق بمعظم محتويات الحمولة من الخضروات والفواكه المبعثرة على الأرض.. وبينما تنشق الأرض لتخرج رجالًا ونساءً يجمعون بسرعة وشهامة الثمرات الصالحة من محتويات تلك الحمولة ووضعها في أقفاصها، كان صاحب العربة غير مشغول بأمر تلك الخسارة المادية بقدر محاولاته أن يبذل كل جهده لإيقاظ حصانه باكيًا قبل أن يكتشف أمر وفاته المفاجئة مُنهارًا مُنكبًا على رقبة الحصان معانقًا.. وإن كان هناك أمر طيب بالإضافة لتعاون الناس الداعم للرجل فقد كان في خلو المشهد من حاملي موبايلات التصوير الرذيلة التي اعتدنا مشاهدتها في مثل تلك الأحداث.. وكانت المفاجأة الثانية لي خروج زوجته من شارع جانبي حاملة على رأسها كمية من الأقفاص الصغيرة الفارغة التي يبدو أنها باعت محتوياتها لتفاجأ بالعربة المقلوبة والزوج الباكي الذي يهز الحصان منهارًا ، فتطلق صرخاتها الباكية لتكمل ملامح مشهد دراماتيكي حزين لأسرة غيب الموت أحدهم على حين غرة..
ذكرني ذلك المشهد المفجع دراما "الرجل والحصان" أروع أعمال العملاق "محمود مرسي" الدرامية، وأعتقد أن المشاهد من جيلنا والجيل اللاحق لا يزال يحفظ كلمات المقدمة الغنائية للمسلسل للشاعر الغنائي "عبدالرحيم منصور"، ولحن الموسيقار "عبدالعظيم عويضة"، وغناء الكينج "محمد منير" في بداياته الإبداعية والمسلسل أحد أهم إبداعات الكاتب والسيناريست الرائع "محمد جلال عبدالقوي".. تذكرت كلمات تلك الأغنية التي جسدت العلاقة الإنسانية بين الرجل والحصان بتفاعل درامي يوثق لحظات العشق الإنساني النبيل بين الرجل والحصان.. يرصد التيتر ملامح العلاقة بشعر "عبدالرحيم منصور".. فتنساب كلماته عذوبة ورقة.. يقول..
مين كان يقول؟ آخر محطة عمرنا، العمر نفسه يصدنا، والرحلة بعد العشرة تبقى ضدنا، والخطوة تتقل ع الطريق وتطول، مين فينا هو مين صاحب الآلم الحزين؟ هو طُلبة المسكين، وعنتر يبقي مين؟ حصانه لكن ضناه، وعشرة السنين طلبة هو الحصان، هو أنا وانت كلنا هو الإنسان".. 
وأذكر الحوار التالي بين الشاويش "طلبة" (محمود مرسي بطل العمل والممثل العظيم الراحل) ورئيسه..
- الحصان فين يا طلبة؟
-  مات
- يعني مات؟
- مات وهو بيجري على آخر جهده
-  يعنى تبقى حافظ القانون صم بند بند، وف آخر أيامك تنساه
- لا يا فندم .. عمرى ما نسيته
-  آمال عايز تغيره؟
- عارف يا بيه اإنه مابيتغيرش
- آمال عايز إيه؟
- استعمال الرأفة في آخر بند يا بيه.. هو كل اللى يعجز ينضرب بالنار.. طب ليه؟؟.. ده حتى مايرضيش ربنا.
والحكاية تقول عزيزي القارئ إن "عنتر" الحصان و"طلبة" شاويش بالبوليس وقد نشأت بينهما علاقة نادرة، لدرجة أن "عنتر" لا يأكل إلا من يد "طلبة"، ونتيجة لكبر سن الحصان لم يعد قادرًا على أداء عمله على الوجه الأكمل، فتقرر الشرطة إعدامه بالرصاص .. وهنا يطلب "طلبة" شراء الحصان من الحكومة، ولأنه لا يملك الثمن المقدر يقرر الشاويش بيع أرضه فيرفض أبناؤه وعائلته ويتهمونه بالجنون ، فيهرب بالحصان .. وتكون النتيجة صدور قرار بفصله من الخدمة لهروبه وتطارده الشرطة من أجل معاقبته وتقديمه لمحاكمة عسكرية دون مراعاة للمشاعر الوجدانية التى جمعت بين الرجل والحصان، الذى يموت فى نهاية العمل بين يدى "طلبة"..
بعد أن رأيت دموع وانهيارصاحب عربة الخضار وحصانه العجوز تأكد لي كم كان تجسيد العبقري "مرسى" لدور "دون كيشوت" المحارب لطواحين الهواء رائعًا حتى لا يعيش لحظة ضياع صاحب حصان العربة، وبحثًا عن قيم تراجع وجودها مجتمعيًا وحتى دراميًا، فكيف يتفهم أهل "طلبة" أبعاد تلك العلاقة الإنسانية التي تربطه بحصان عجوز لا فائدة منه، بينما الحقيقة أن "طلبة" يرى في "عنتر" أحلامه وعمره الذى يضيع أمام عينيه، بل يخشى من المصير ذاته، أن يكبر فى السن فيتم إعدامه كخيل الحكومة، والإعدام هنا سيكون معنويًا من خلال إهماله وتركه بمفرده، وهو الإعدام الذي كان قد بدأ بالفعل من الأبناء..
العمل قدم فيه محمود مرسى وببراعة أداء إبداعي معتاد للعلاقة بين الرجل والحيوان، وهي علاقة لم تنجح السينما أو الدراما المصرية عمومًا فى تجسيدها سوى فى مرات قليلة، لعل أبرزها علاقة عبدالمنعم مدبولى بحصانه "شنكل" فى فيلم "مولد يا دنيا"..
وبمناسبة الدراما التليفزيونية، ننتظرهذا العام دراما رمضانية متنوعة الأهداف والمحتوى والتراكيب الإبداعية المبهرة التي تستحق أن تسكن الوجدان المصري وتعيش كما عاشت دراما "الرجل والحصان" أكثر من ربع قرن من الزمان.