رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حياة مثل غيرها

هو عنوان الفيلم الفرنسى البلجيكى «التسجيلى الطويل» الذى حصد الجائزة الكبرى لمهرجان الإسماعيلية الدولى للأفلام التسجيلية والقصيرة فى دورته الرابعة والعشرين، والفيلم يتحدث عن الحياة المعتادة التى هى مثل غيرها وتشبه غيرها من الحيوات التى يعيشها غالبية البشر دون أن يدركوا حقيقة الحياة وأنها لا تعنى مجرد البقاء على قيدها دون أن يعيش الفرد ما يريده وتبقى الحال على ما هى عليه حتى انقضاء الأجل، فنحن نحيا فعليًا عندما نفعل ما نحب ونختار ما نريد دون أن تسيّرنا الحياة كما لا نريد.
وقد أدركت مخرجة الفيلم الفرنسية الشابة «فاوستين كروس» التى تشبه أبويها وتختلف عنهما فى ذات الوقت.. فالجينات تفرض صفات مشتركة حتى يقرر الفرد ويختار ما يجعله فريدًا مختلفًا ليس عشقًا للاختلاف فى ذاته بل لتصبح لديه حياته وبصمته الخاصة و«فاوستين» مخرجة العمل لم تحب اسمها الذى لم تختره واختاره لها أبواها اللذان أحبتهما وقررت أن تكون حكمًا عادلًا بينهما فى المباراة الأسرية التى عاشتها مع أسرتها كغالبية الأسر عندما تمر بأزمات مع مرور الوقت.
أما المحرك الفعلى أو اللحظة الفارقة التى دفعت «فاوستين» لتصنع فيلمها الفريد الأول- بعد مشروع تخرجها الذى كان عنوانه «الكاره»- هو إحساسها الذى لم يفارقها منذ عمر السابعة عندما حطمت أمها الأطباق فى مطبخ البيت بسبب مشاغباتها هى وأخيها فى غرفتهما فقالت الطفلة لنفسها آنذاك: «أمى لا تحبنى وأنا من تسببت فى اكتئابها» ورغم أن الأم تركت رسالة مكتوبة لابنتها تقول لها فيها: «أحبك أكثر مما تتصورين» ظلت «فاوستين» تعتقد العكس، وبمرور الوقت وبعد أن كبرت الفتاة وهرمت الأم وشاهدت «فاوستين» شرائط الفيديو التى وثق فيها والد «فاوستين» حياته مع أولاده وزوجته «لافاليرى» قررت «فاوستين» أن تصنع فيلمًا كأبيها المولع بالتصوير الذى يهوى صناعة الأفلام لدرجة جعلته يعتقد أن الكاميرا التى يحملها على كتفه صارت جزءًا منه ومن حياته- بل حياتهم جميعًا- وجزءًا من جسده وذراعه، حيث كانت الكاميرا لا تفارقه ولا تفارق كتفه والتصقت به لتوثق كل لحظة من لحظات حياته وحياة أسرته وورثت الابنة حب التصوير وعشق السينما عنه وعن أمها التى عملت قبل إنجابها بدءب كفنى مكياج حتى احترفت المهنة وتكسبت منها وصار دخلها أكبر من دخل زوجها وأثنى على عملها فى إحدى المرات الرئيس الفرنسى «جاك شيراك».. وكغيرها من غالبية نساء الأرض أنجبت «لافاليرى» طفلين فى عامين متتاليين وبدأت تدريجيًا تفقد وظيفتها ومشوارها العملى ومعهما عشقها للحياة التى كانت تعيشها كما تريد فأصبح لها الآن دور آخر «دور الأم»، أما الزوج فحياته لم تتغير وظل كما هو ولم يمنعه تحوله لأب من ممارسة ما يهوى، فظل يصور ويوثق حياته وحيواتهم حتى وهم نائمون، وكان هذا هو دوره فى حياتهم، أما «الزوجة الأم» فكانت تمارس عدة أدوار.
دور الزوجة بكل متطلباته من طهى وترتيب وتنظيف وشراء لوازم البيت ودور الأم، وتوقفت عن أداء أى دور آخر حتى أصبحت حياتها روتينية مملة ولم تستطع السجائر التى كانت تدخنها «لافاليرى» بشراهة منذ سن الـ14 أن تخفف من حدة اكتئابها.. وبالطبع بعكس عشقها للتدخين وهى فى سن صغيرة أشياء كثيرة عن طبيعة شخصيتها التى تميل للحرية والجموح وحب التغيير والحركة والمغامرة والسفر وغير المألوف والحياة البوهيمية الصاخبة البعيدة كل البُعد عن الرتابة والروتين لذلك التحمت بكواليس السينما وتنقلت مع صنّاعها وصاحبت الممثلين وشاهدت أدوارهم التى ساعدتهم على أدائها ببراعة بفضل إجادتها فن المكياج، وجابت معهم المدن والتحمت بصخب باريس بعيدًا عن القرية النائية التى كانت تعيش فيها مع أسرتها فى بلجيكا.. ولم يساعدها على كسر الملل سوى مضادات الاكتئاب، وفجأة وفى يوم كان فارقًا فى حياة تلك الأسرة وبعد عودة «لافاليرى» من المتجر للبيت ومعها كل احتياجاتهم من الأكل والشراب كانت الكاميرا ملتصقةً بكتف زوجها كالمعتاد وأجرى معها حوارًا مسجلًا كعادته ظنًا منه أنه يمسك هكذا باللحظة كى لا تفلت منه وكأنه بهذه الطريقة يتشبث بالحياة ويبعد الموت عن نفسه وكانت الزوجة دومًا مفعولًا به وفيه وعليها الامتثال والاستجابة والتطبيع مع ما يحدث حولها ودومًا ما كانت تمثل دور الراضى القانع المتسق مع ما يحدث لها وكأنها راضية عن نفسها وعن حياتها، حتى جاءت لحظة المكاشفة والمصارحة «لحظة الانفجار» التى عبّرت فيها «لافاليرى» المرأة عن غضبها وعندما سألها الزوج عن سبب غضبها كان ردها «كل شىء» «المجتمع كله» «المجتمع الذكورى البطريركى» الذى دومًا ما يتسلط ويكذب وأنها تحتقر ذاك وأنها غاضبة ومكتئبة ولم يعد بوسعها التطبيع مع كل ما يحدث.
وهنا حدث ما يشبه الإفاقة للزوج الذى توقف منذ تلك اللحظة عن تصوير زوجته بعد انهيارها.. وبعد أن كبرت الابنة وشاهدت كل مشاهد وتفاصيل حياة أسرتها واستمعت بإمعان للحوارات المسجلة ولمست معاناة أمها كامرأة خصوصًا بعد أن نضجت الفتاة واقتربت من عوالم الإناث وعايشت ما يعايشنه فى المجتمع وأصبح باستطاعتها فهم مشاعر الأنثى واقتربت من أداءات الذكور ومنهم والدها التى أجرت معه حوارًا حول السبب فى تعاسة أمها.. والسبب فى توثيقه حيواتهم فراوغ وأنكر بشكل غير مباشر أنه كان أحد أسباب تلك التعاسة وأن له ضلعًا فيها، وبرر شغفه واستمراره فى توثيق حيواتهم- دون أن يلتفت وهو يمارس ما يحب لتعاسة شريكته «لافاليرى »- بأنه أراد أن يريها الجانب الجميل المشرق فى حياتهم، لأنها كانت لا ترى سوى الوجه القاتم.. ورد على ابنته بالإنجليزية فسألته عن سبب تحدثه معها بالإنجليزية فراوغ مرة أخرى، ففى حقيقة الأمر الأب، كغيره من الذكور، كان يتيه بنفسه وبأسفاره التى مارسها بمفرده تاركًا شريكته لتهتم وحدها بشئون البيت والأبناء فى غيابه فسافر لدول عدة ولم يصطحبها معه سوى مرة واحدة فى رحلة لبريطانيا التى لم تحبها وكان حلمها السفر لبلاد كثيرة بل العيش فى كهوف جبال الهملايا وأن يتعلم الأبناء فى البيت فرفض وأيدته الأم فى أن المدرسة مهمة اجتماعيًا للاولاد.. فصوت العقل كان يغلب دومًا على «لافاليرى» التى ترضخ دومًا لمصلحة أبنائها وبيتها رغم أن ذلك كان يتعارض دومًا مع رغباتها وما تحبه هى! بل أحيانا كانت تجلد «لافاليرى» ذاتها وتصف نفسها بالشاردة الجامحة كقطاع الطرق وأنها مريضة بمرض اسمه «الحرية»! فى حين أن البيئة التى حولها «المجتمع البطريركى» تجعلها تمتثل لكل ما لا تحب.. فحياتها كحيوات غيرها فلماذا تريد هى شيئًا متفردًا أو مغايرًا أو مختلفًا؟! ولماذا تحتج وتكتئب؟ فهنالك الآلاف من النساء حولها تزوجن وأنجبن وتغيرت حيواتهن وقدمن تضحيات ورضين بأدوارهن، وهذا هو السائد ولم يعتريهن ما اعتراها من تعاسة واكتئاب.
ولتتخلص الابنة «المرأة» بعد أن نضحت من كل الأحاسيس السلبية كإحساسها بأنها السبب فى تعاسة أمها التى لم تكن مستعدة أو تريد لنفسها القيام بدور الأم الذى لا يناسبها وأن هذا حقها وأن لها الحق فى اختيار حياتها ورفض ذلك الدور وكل الأدوار التى فرضت عليها، ومن ثم تشعر أمها بأنها تحبها وتستعيد علاقتها الجيدة بها ولتصحح الابنة ما تبقى من حياة أمها وتشعرها بأن تضحياتها لم تذهب سدى وأنها تشعر بتلك التضحيات وتثمنها بل تريد أن تعيد لها الاعتبار.. وليشعر أيضًا الزوج بزوجته ويتوقف عن الإنكار والمراوغة كان هذا الفيلم الذى ربت على كتف الأم التى هاجمها الاكتئاب بشراسة وأدمنت مضاداته.. وترك التدخين الشره أيضًا آثاره على وجهها الجميل فصنعت الابنة ذلك الفيلم الذى شاهدنا فيه الأم تستعيد علاقتها بالمكياج الذى كانت تضعه على وجوه غيرها ولم تضعه أبدًا على وجهها هى فبدأت تضع المساحيق على وجهها لتشعر بأنها جميلة وأن الزينة تليق بها وأنها ليست عجوزًا مريضة بل امرأة عليها أن تفرح وتمرح، واختتمت الابنة فيلمها الساحر الفريد والعذب بمشهد يجمعها بأمها بعد أن رد لها الفيلم اعتبارها وأصبحت فيه ومن خلاله «فاعلةً لا مفعولًا بها»، فالابنة استأذنت وشاورت أمها فى أمر تصويرها وإجراء فيلم لها ومعها وعنها على العكس من الأب الذى كان لا يرى سوى شغفه ولم يشاور زوجته فيما تريد أو لا تريد وحكت «فاوستين»، التى تمردت ليس فقط على اسمها بل على المجتمع البطريركى تمامًا كأمها، عن معارضة أمها لتصوير الفيلم وأنها اعتقدت فى البداية أنها ستفعل معها وفيها ما فعله معها أبيها وبعد معارضة عنيفة أقنعت «فاوستين»، المخرجة، أمها بأن الفيلم هذه المرة سيكون لها وأنه سيعبر عنها وأن الابنة ستصنعه من منظورها هى وأن الطرح فيه سيصب لصالح الأم وتضحياتها وحقها فى تقرير مصيرها وبالتالى إعادة الاعتبار لها وكأن الفيلم اعتذار وجائزة مهداة من الابنة «المرأة» لامها «المرأة» وبالفعل تحوّل الفيلم لجائزة لـ«فاوستين» وأمها.. جائزة أتتهما من مهرجان الإسماعيلية السينمائى الدولى.. وإذا كانت ولادة «فاوستين» قد عرقلت حياة أمها العملية فتضحياتها عادت لها على هيئة فيلم مهدى لها وكانت هى بطلته وجعلت الابنة المبدعة أمها فى الفيلم هى القائد.. ففى المشهد الختامى للفيلم الأم والزوجة مدام «لافاليرى».
هى مَن صرخت معلنةً نهاية الفيلم عندما قالت وبالإنجليزية «finish -cut»، وكأنها ليست فقط القائد بل «المخرج» بلغة السينما.. وإن لم يكن باستطاعة «لافاليرى» إخراج حياتها كما تريد فها هى تخرج الفيلم وتصير بطلته وتقرر لحظة انتهائه بعد أن استعادت ما تبقى لها من مكانة.. فما لم تستطع إدراكه كله من قبل لم تتركه كله الآن بل أدركت الكثير منه خصوصًا بعد حصول الفيلم على جائزة المهرجان الكبرى وقبل أن تعلن «لافاليرى» النهاية اختارت مبدعة العمل مشهدًا ختاميًا بديعًا جمعت فيه أفراد أسرتها.. وكان الأربعة معًا فى مشهد ختامى واحد طغت عليه البهجة.
وبدأته «فاوستين» بمشهد للأب وهو يجهز الأرض ويعدها للامرأتين «فاوستين» و«لافاليرى» كى يمارسن عليها الرقص والمرح.. وبعد أن اكتفين سمحا لاحقًا بانضمام الذكرين «الاب» و«الشقيق» للمشهد حتى أصبح الأربعة معًا، فالنساء أولًا وبعد ذلك يأتى وينضم الذكور، وهكذا يكون الفيلم قد قام بلم شمل الأسرة وإصلاح ما فسد والحفاظ على ما تبقى وفى ذاته هو تتويج لـ «لافاليرى» المرأة أولًا ثم لأسرتها.
عاش الفن والعلاج بالفن والذى ينتصر دومًا للحياة.. وعاشت السينما أداةً للبهجة وللبوح وللمكاشفة وللمصارحة وللتغيير والحراك التراكمى للمجتمع بل أداة ووسيلة لتحقيق العدل وضبط الإيقاع إن انحرف المسار بفعل الزمن وضغوط الحياة، وبوركت «فاوستين» تلك المبدعة التى انتصرت للسينما وانتصرت لأمها وانتصرت للمرأة وانتصرت للحياة ولحب الحياة.. فالسينما حياة تنقل لنا الحيوات بمختلف أنواعها.. فليس كل حياة مثل غيرها ولا يجب أن تكون الحيوات جميعها متطابقة أو نسخًا مكررة ومتكررة من بعضها البعض، وعلى الكل اختيار حياته وما يريد كى لا تصبح كل حياة مثل غيرها.