رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صفحة يكتبها عظماء الصحافة المصرية

عبدالله العمر يكتب: فؤاد زكريا.. التنويرى الذى حارب الخرافة بالعلم والمنطق

فؤاد زكريا
فؤاد زكريا

- لا خير فى فلسفة تظل حبيسة الأذهان أو الصدور ولا نفع فى عالم لا يكون له أثر فى حياة الناس وتوجهاتهم

- رجل على قدر كبير من الذكاء ويتمتع بتفكير منظم مقرون بسرعة البديهة

 

المشتبك 

حلت أمس الذكرى الثالثة عشرة لرحيل المفكر المصرى فؤاد زكريا «١٩٢٧-٢٠١٠» وهو نموذج لأستاذ الجامعة المشتبك مع قضايا عصره والمقاتل من أجل ما يؤمن به من أفكار وواحد من رموز النهضة الفكرية فى مصر حين كان مفكرونا على اتصال بأحدث إنتاجات الفكر الغربى وعلى اطلاع عليها وإلمام بها.. ويقومون بدورهم فى الكتابة عنها وتبسيطها للناس وإرشادهم إلى ما ينفعهم منها.. وهى أدوار تراجعت كلها الآن لحساب ترجمات غير مفهومة وإلمام ضعيف من أساتذة الجامعات بالإنتاج الفكرى فى العالم، فضلًا عن نزعة للحفظ والتلقين لا للفكر والإبداع تسيطر على معظم أقسام الفلسفة فى جامعاتنا المصرية.. كان د. فؤاد زكريا رئيسًا لقسم الفلسفة فى جامعة عين شمس فى الستينيات ورئيسًا لمجلتى «الفكر المعاصر» و«تراث الإنسانية» وكان الرجل واضحًا فى عدائه للإسلام السياسى ومحاولات توظيف الدين.. ولعلها لم تكن صدفة أنه اختار السفر للكويت بعد حرب أكتوبر مباشرة وفى بداية سياسة إعادة إحياء الجماعة الإرهابية والفصائل المختلفة التابعة لها.. وكأنه أدرك أن المناخ بعد هذا التاريخ لن يكون صالحًا للفكر الحر أو للفكر من الأساس.. وقد ظل الرجل فى الكويت منذ ١٩٧٤وحتى ١٩٩١ عام الغزو العراقى للكويت الذى كان ضربة قاصمة للنظام العربى كنظام وللعروبة كفكرة آمن بها ملايين العرب وللكويت الشقيقة كواحة للثقافة العربية فى الوطن العربى كله.. وبحسب شهادة مَن عاصروه فقد كان الرجل محركًا ثقافيًا كبيرًا.. قام بتنشيط الحركة الثقافية فى الكويت وأضاف لها الكثير، وساهم فى إصدار السلسلة الكويتية الأهم «عالم المعرفة» وبالكتابة فى مجلة العربى وألقى مئات المحاضرات وشارك فى عشرات الفعاليات طوال سنوات وجوده فى الكويت.. وهو دور طالما لعبه كبار مثقفينا فى السبعينيات والثمانينيات وحتى تسعينيات القرن الماضى مساهمة منهم فى تنوير الشعوب العربية عامة والخليجية خاصة.. وكانت الميزة الأساسية فى د. فؤاد زكريا هى شجاعته الأدبية وقدرته على الاشتباك مع أفكار الإسلام السياسى والإرهابى معًا فى سنوات صعودها وفرضها على مصر والعالم العربى.. فكتب مقالة شهيرة بعنوان «العلمانية هى الحل» يرد فيها على شعار رفعته الجماعة الإرهابية تقول فيه إن «الإسلام هو الحل» وشرح المعنى الصحيح للعلمانية، وأنها ليست عداءً للدين ولكن تنزيه له عن أوحال السياسة.. ثم كتب «الصحوة الإسلامية فى ميزان العقل» ١٩٨٧ ليواصل تفنيد حجج تجار الدين، ثم أتبعه بـ«الحقيقة والوهم فى الحركة الإسلامية المعاصرة» ١٩٨٨ وهى كلها كتب لم تتميز فقط بالشجاعة، ولكن بالأسلوب السهل الواضح القادر على إيصال المعنى للقارئ العادى وهى سمة افتقدها الكثير من المشتغلين بالفكر فى الأجيال التى تلت فؤاد زكريا.. على جانب آخر خاض فؤاد زكريا معركة أخرى لتراجع شعبيته فى أوساط الإعلاميين وهى التى رد فيها على الأستاذ محمد حسنين هيكل بعد إصداره كتاب «خريف الغضب» حيث أصدر كتابًا بعنوان «كم عمر الغضب»؟ هاجم فيه هيكل والناصرية عمومًا.. وكانت الفكرة أن الهجوم على هيكل وقتها كان يشارك فيه الإخوان وبعض المرتزقة وبعض المتمولين من أعداء مصر فى الستينيات.. وبالتالى دخل هجوم فؤاد زكريا ضمن هذا التصنيف ولم يتم التعامل معه على أنه وجهة نظر مفكر ليبرالى فيما جرى فى مصر خلال سنوات عاشها.. أيًا كان فنحن إزاء مفكر كبير تصدى لأفكار الإرهابيين فى وقت مبكر وواجهها بشجاعة وقوة، وهو أمر يستحق أن نشكره له ونحييه عليه.. فى السطور القادمة مقال للكاتب الكويتى «عبدالله العمر» حول أثر فؤاد زكريا الضخم على الحياة الثقافية فى الكويت.. رحمه الله وغفر له.

                                                                                                                         وائل لطفى

 

 

إذا كانت الفروق الفردية أمرًا ثابتًا فى طبيعة البشر فإنها أشد ثبوتًا وأكثر وضوحًا بين العلماء والمفكرين. فلا العلماء المبتكرون على شاكلة واحدة مهما اتفقوا على منهج صارم يحدد لهم مسار الطريق فى عملهم العلمى، ولا المفكرون المبدعون متشابهون فى الكشف عن أفكارهم وتصوراتهم. دونك المفكرين الموهوبين مثلًا تجد أن بعضهم يتميز بإلقاء المحاضرات المشوقة، ويتفرد آخرون بكثرة التأليف الأكاديمى الصرف، وتتميز جماعة أخرى منهم بقدرتها على تحليل الأحداث واستشراف آفاق المستقبل. وواضح أن الفرق يظل شاسعًا بين مفكر يكتفى فى إبداعاته بناحية من هذه النواحى وبين آخر يجمع فى مساهماته المبتكرة بين شتى أساليب التعبير والإبداع، التى قلما تتاح مجتمعة لمفكر بعينه. ومن هنا يتفرد فؤاد زكريا عن غيره. ذلك أنه شخصية موهوبة على أكثر من صعيد.

فهو رجل على قدر كبير من الذكاء ويتمتع بتفكير منظم مقرون بسرعة البديهة. وهو إنسان متواضع ومحبوب من أناس كثيرين صادق مع نفسه وصريح فى إبداء الرأى، يستمع إليك جيدًا ويسدى إليك النصح بإخلاص. موضوعى فى نظرته إلى الأمور ولا يخشى فى الحق لومة لائم مخلص ووفى للصديق وعفو متسامح مع المسىء.

ويدرك مَن يعرف فؤاد زكريا حق المعرفة أنه يتمتع بنظرة ثاقبة إلى موضوعات البحث ومجريات الأحداث التى تشد الانتباه، وهو يمتلك قدرة فائقة على التعبير وإيصال الفكرة التى تدور فى ذهنه إلى السامع أو القارئ أو المشاهد الذى لا يملك إلا أن يحترم وجهة النظر المعروضة بمنطق حصيف وأسلوب بديع بغض النظر عن مسألة الاتفاق أو الاختلاف فى الرأى. ولدى فؤاد زكريا قدرة فائقة على التحليل ومعالجة القضايا الأكاديمية الصعبة وتبسيطها توازى قدرته على معالجة المشكلات المهمة التى تطرأ على ساحة الأحداث، وتكون لها صلة بحياة الإنسان. وهو فى هذا وذاك كاتب ملتزم، وناقد فذ، لا يستهين بكرامة البشر أو حريتهم، ولا يهادن فى أمور تتعلق بالمبادئ كقضايا الديمقراطية والعدالة والمساواة، كما أنه لا يتردد فى التعبير عن صوت العقل والضمير متى دعت الحاجة إلى إعلان الرأى. وحسبك أن تعرف أن مقالاته الصحفية الرصينة وتحليلاته المبتكرة لقضايا المجتمع والإنسان، والتى تعد بالمئات، توازى فى رصانتها ودقة أسلوبها وصحة نظرتها روعة مؤلفاته الأكاديمية وترجماته النافعة.

ولعل خير شاهد على تمكن فؤاد زكريا وتبحره لا معرفته ببعض اللغات الأجنبية الواسعة الانتشار، مثل الإنجليزية والفرنسية فحسب، وإنما توليه أيضًا مناصب أكاديمية وثقافية مهمة على امتداد نصف قرن من الزمان بدءًا من تخرجه فى قسم فلسفة بجامعة القاهرة فى عام ١٩٤٩ حتى يومنا هذا. فلقد عيّن معيدًا بكلية الآداب بجامعة عين شمس بعد منحه درجة الليسانس حيث نال درجة الماجستير فى عام ١٩٥٢ ثم حصل على درجة الدكتوراه من الجامعة نفسها فى عام ١٩٥٦. وكان الدكتور فؤاد قد عمل لفترة من الزمن فى المنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم، حيث عاد بعدها إلى القاهرة ليستأنف مهنة التدريس الجامعى. وكان قد تدرج فى مهنة التعليم الجامعى من مرتبة مدرس إلى مرتبة رئيس قسم الفلسفة فى كلية الآداب بجامعة عين شمس «١٩٤٧». وكانت مساهماته الثقافية والتنويرية تسير جنبًا إلى جنب مع نشاطه الأكاديمى الصرف إذا تولى إبان تلك الفترة رئاسة تحرير مجلة «الفكر المعاصر» و «تراث الإنسانية». ولقد عمل فؤاد زكريا أيضًا مستشارًا لشئون الثقافة والعلوم الإنسانية فى اللجنة الوطنية لليونسكو بالقاهرة، كما شارك فى عشرات المؤتمرات والندوات، ومن بينها مؤتمرات أشرفت على إعدادها منظمة اليونسكو.

فى عام ١٩٧٤ حضر فؤاد زكريا إلى الكويت للتدريس بقسم الفلسفة بجامعتها، وكان عطاؤه الثقافى فى الحقبة التى قضاها فى الكويت، والتى امتدت قرابة عقدين من الزمان، متميزًا وغزيرًا. فمن مقابلات إذاعية وتليفزيونية إلى مقالات صحفية ومحاضرات وندوات عامة تدور حول موضوعات شتى. ولقد توجت جهوده التنويرية بإشرافه على إصدار سلسلة «عالم المعرفة»، وهى كتب ثقافية شهرية ينشرها المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب فى الكويت. ويكفى التدليل على جهوده المثمرة فى مجالات التأليف والترجمة والتنوير عمومًا ذكر بعض مؤلفاته التى ظهرت تباعًا على النحو التالى:

١- نيتشه، سلسلة نوابغ الفكر الغربى «١»، القاهرة، دار المعارف، ١٩٥٦.

٢- نظرية المعرفة والموقف الطبيعى للإنسان، القاهرة- مكتبة النهضة المصرية، ١٩٦٢.

٣- اسبينوزا، القاهرة، دار النهضة العربية، ١٩٦٣.

٤- الجوانب الفكرية فى مختلف النظم الاجتماعية، القاهرة، عين شمس، ١٩٧٢.

٥- آراء نقدية فى مشكلات الفكر والثقافة، القاهرة، الهيئة العامة للكتاب، ١٩٧٥.

٦- التفكير العلمى، سلسلة عالم المعرفة «٣»، الكويت، المجلس الوطنى، ١٩٧٨.

٧- خطاب إلى العقل العربى، كتاب العربى «١٧»، الكويت ١٩٧٨.

٨- الجذور الفلسفية للبنائية، حوليات كلية الآداب «١»، جامعة الكويت ١٩٨٠.

٩- الصحوة الإسلامية فى ميزان العقل، بيروت، دار التنوير، ١٩٨٥.

١٠- الحقيقة والوهم فى الحركة الإسلامية المعاصرة، القاهرة، دار الفكر، ١٩٨٦.

١١- آفاق الفلسفة، بيروت، دار التنوير ١٩٨٨.

١٢- الثقافة العربية وأزمة الخليج، القاهرة، مطابع الأهرام، ١٩٩١.

ولعل الإشارة إلى المؤلفات التالية تكفى شاهدًا على صدق الجهود التى بذلها فؤاد زكريا فى مجال الترجمة:

١. ب موى، المنطق وفلسفة العلوم، «جزآن»، القاهرة، دار نهضة مصر ١٩٦١.

٢. ر . متس، الفلسفة الإنجليزية فى مائة عام، القاهرة، دارة النهضة العربية ١٩٦٣ /٦٧.

٣ . هـ. ريشنباخ، نشأة الفلسفة العلمية، القاهرة، دار الكتاب العربى، ١٩٦٨.

٤ . أفلوطين التساعية الرابعة فى النفس، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٧٠.

٥. ج . ساتولينتز، النقد الفنى، القاهرة، مطبعة جامعة عين شمس ١٩٧٤.

٦. أفلاطون، الجمهورية، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٧٤.

٧ . هـ. ميد، الفلسفة: أنواعها ومشكلاتها، القاهرة دار نهضة مصر، ١٩٧٥.

٨ . ب . رسل، حكمة الغرب، «جزآن»، عالم المعرفة «٦٢، ٧٢»، الكويت، ١٩٨٣.

وللدكتور فؤاد زكريا بصمات فكرية وتنويرية واضحة تمثلت فى عشرات المقالات والبحوث التى زخرت بها صحافة الكويت ودورياتها، مثل عالم الفكر، ومجلة العربى وجريدتى الوطن والقبس.

كان أول عهدى بالدكتور فؤاد زكريا فى عام ١٩٧٤، وذلك عندما كنت على وشك مناقشة رسالة الماجستير التى أعددتها تحت إشراف الدكتور زكى نجيب محمود. وعلى الرغم من قصر المدة التى جمعتنى به آنذاك، حيث كنت أتأهب للسفر إلى الولايات المتحدة لمواصلة الدراسات العليا هناك، فإننى أدركت فيه علمًا غزيرًا ولمست فيه خصالات حميدة كثيرة.

ولقد تأكد لى، بعد سفرى إلى أمريكا فى فترة البعثة الدراسية التى استغرقت نحو ست سنوات، مدى ما يتمتع به فؤاد زكريا من حصيلة علمية غنية، ووفرة ما أسهم به فى ميدانى الثقافة والتنوير. ذلك أن الصلة بينى وبينه لم تنقطع آنذاك. فعلى الرغم من بعد المسافة الجغرافية التى تفصل بين الكويت وأمريكا فإننى كنت أتحدث إليه عبر الهاتف أحيانًا، وأبعث إليه بالخطابات أحيانًا أخرى، وكثيرًا ما كنت أرسل إليه بعض البحوث التى أكتبها كيما يتفضل بإبداء الرأى فيها، ومن ثم العمل معًا على اتخاذ صيغة مناسبة بشأنها. ولقد وجدت فيه استعدادًا لتقديم العون قدر المستطاع وإخلاصًا فى إسداء النصح، ما جعلنى أخصه بمرتبة رفيعة فى نفسى.

على أن الأكثر لفتًا للانتباه خلال فترة العمل الخصبة التى قضاها فؤاد زكريا فى الكويت هو نشاطه الثقافى وجهده التنويرى الدءوب. إذ لا يكاد يمر أسبوع إلا وتجد له مناسبة يتحدث فيها إلى الإذاعة أو يظهر فيها على شاشة التلفاز أو يكتب فيها مقالًا صحفيًا مهمًا أو يحاضر فى جماعة من المثقفين أو يشترك فى محاورة أمام حشد من الطلبة أو يسهم فى مناظرة عامة. ومن هنا يظهر الفرق واضحًا بين فؤاد زكريا وبين كثير من الشخصيات الأكاديمية التى جاءت إلى الكويت على امتداد العقود الثلاثة الماضية. فلم يكن فؤاد زكريا يكتفى بإلقاء المحاضرات على الطلبة فى الجامعة أو يقنع بالتأليف الأكاديمى المحض، بل كرس جهدًا كبيرًا جدًا من نشاطه العلمى الثقافى ميدان التنوير بشكل عام. فلا عجب أن ألتف حوله الطلبة والمثقفون وكثير من عامة الناس الذين استهوتهم موضوعات ندواته وشدهم إليه وضوح التفكير وسلاسة اللغة وقوة الحجة.

من المؤكد أن فؤاد زكريا وجد فى الكويت مجتمعًا واعدًا لا من حيث إنه يزخر بإمكانات مادية وقدرات اقتصادية كبيرة، بل من حيث إنه ينعم بنظام ديمقراطى متميز وحرية معقولة فى التعبير وكوادر فاعلة وأفراد يتعطشون للتزود بالثقافة والعلم على أوسع نطاق. ومن هنا كانت صدمة فؤاد زكريا بالغزو العراقى الغادر للكويت موازية لصدمة أهل الكويت نفسها وكيف لا ينبرى فؤاد زكريا للدفاع عن الكويت بكل وسيلة ممكنة والتنديد بجريمة الغزو العراقى، وهو المثقف الملتزم الذى جنّد فكره وقلمه للدفاع عن حياة الإنسان وحريته وكرامته؟ فإذا كان فؤاد زكريا لا يرضى لإنسان أن يظلم أخاه الإنسان ويستهجن استباحة حرية البشر وهدر كرامتهم من جهة المبدأ فكيف يقبل بظلم عربى لأخيه العربى أو قتل النفس البريئة أو ارتكاب جريمة غزو وحشى لمجتمع واعد ينعم بالديمقراطية والحرية؟ ويكفى شاهدًا على نفاذ بصيرته وصحة توقعاته أنه خالف كثيرًا من الكتاب رأيهم ودخل فى خصومات حادة مع مثقفين وقفوا إلى جانب العراق فى حرية مع إيران إبان الثمانينيات. فلقد أدرك بثاقب نظره وسلامة تحليله أن المجرم يظل مجرمًا ويستحق العقاب مهما هوّن الناس من أمره، وأن الديكتاتور يظل طاغية ومستبدًا مهما سعيت إلى إصلاحه واضطرتك الظروف إلى مهادنته أو الوقوف إلى جانبه أملًا فى عودته إلى جادة الصواب. «والحق أن كثيرًا من المقيمين فى الكويت، من غير مواطنيها، قد مروا طوال ما يقرب من سنوات عشر بتجربة ذات دلالة بالغة، ظلت تتكرر إلى ما قبل العدوان الأخير على الكويت» بأيام قلائل. فطوال أيام الحرب العراقية الإيرانية كان من يجرؤ منهم على التشكيك فى جدوى تلك الحرب العقيم، ومن يتزحزح قيد أنملة عن التأييد الكامل للعراق، يلقى من رفاقه الكويتيين هجومًا حادًا ونقدًا مريرًا. فلم يكن الانحياز إلى العراق فى نظرهم موضوعًا للنقاش. وسواء أكان مستندًا إلى مفهوم العروبة، أو إلى صلة الجوار، أو إلى الرابطة القومية، فقد كان فى كل الأحوال انحيازًا مطلقًا يكفى أى تشكيك فيه لزرع بذور الخصومة بين أصدق الأصدقاء.

على أن الذى آلم الدكتور فؤاد زكريا هو موقف اللا مبالاة أو التأييد الذى أظهره بعض الكتاب والمثقفين لجريمة غزو العراق الكويت، وترويع أهلها أو قتلهم وتشريدهم. فهل يرى أن مأساة الغزو لم تكن عدوانًا وحشيًا فحسب، بل كان أيضًا مناسبة أليمة كشفت عن مرض خطير فى بنية الثقافة وبعض المثقفين العرب. فإذا كانت آمال كثيرة بالوحدة العربية الشاملة قد تهاوت جراء الغزو العراقى للكويت، وتضاءلت طموحات عظيمة أيضًا بتحقيق الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان فى شتى أقطار العالم العربى، أقول إنه إذا كان الغزو العراقى قد بدد كل تلك الأمور والطموحات فإنه كشف أيضًا عن رداء عضال يكمن فى أذهان بعض المثقفين العرب الذين آزروا العدوان وسعوا إلى تبريره أو التستر عليه. إذ ربما التمس المرء العذر لبعض المثقفين المخدوعين فى مؤازرتهم العراق إبان حربه مع إيران ظنًا منهم بأن العراق كان يدافع آنذاك عن البوابة الشرقية للوطن العربى، ولكن ما عذرهم فى التأييد الذى أظهروه لاجتياح العراق أرض الكويت واحتلالها وتشريد أهلها؟ وما المبرر الذى يمكن التماسه لبعض المثقفين الذين هللوا أو سعوا إلى التستر على القتل والتعذيب والتشريد الذى ارتكبه النظام العراقى فى حق الكويتيين؟ «كنت أتصور أن المثقفين بالذات، وبغض النظر عن حسابات الأنظمة الحاكمة ومصالحها، سيتخذون موقفًا إجماعيًا ضد الطغيان، وكنت أتوقع حتى ممن انخدعوا من قبل النظام الباغى فى العراق وشاركوا فى المهرجانات اللاهية الزائفة طوال الثمانينيات، أن يفيقوا من غفوتهم (وهى فى رأيى غفوة غير مغفورة)، وأن ينتبهوا إلى الطبيعة اللا إنسانية للنظام الذى كانوا يصفقون له، ولكن المفاجأة المذهلة، فى هذا الحدث- (أى غزو العراق الكويت) الذى ظننت أن أى اثنين، ممن يحتكمان إلى عقلهما، لن يختلفا عليه- كانت تساقط المثقفين فى مشارق العالم العربى، ومغاربه، وفى بلادهم أو فى المهجر. فقد أخذت بعض الأسماء اللامعة، التى أعرف من أصحابها الكثيرين، وأقرأ لهم، وأقدر جهودهم فى سبيل نشر النور فى عالمنا الذى يكتنفه الظلام من كل جانب- أخذت هذه الأسماء اللامعة تتهاوى ملطخة بأوحال التنظير الزائف، والتبرير المتهافت، والمنطق الأعوج .. وتكشفت لى حقيقة ما كنت أتمنى أن أهتدى إليه فى يوم من الأيام، وهى أن قدرًا لا يستهان به من رفاق طريق الفكر عاجزون عن رؤية أبسط الحقائق الواضحة، ولا يقيمون وزنًا كبيرًا لقيم الحرية والكرامة الإنسانية التى طالما تحدثوا عنها وكتبوا، ولا يتميزون عن الجماهير غير الواعية تميزًا واضحًا حين يتعلق الأمر باختبار حقيقى لصلابة الإنسان الأخلاقية والفكرية».

كان هذا هو العنوان الذى لخص فيه فؤاد زكريا جهوده الفكرية والتنويرية. فقد قال إنه يسعى إلى الإطاحة بالحاجز الذى يفصل بين العقل النظرى والعملى من أن يتفاعل المفكر مع تيار الحياة وتكون للفلسفة صلتها بعالم الواقع، فلا خير فى فلسفة تظل حبيسة الأذهان أو الصدور ولا نفع فى عالم لا يكون له أثر فى حياة الناس وتوجهاتهم. على أن الجهد الذى يبذل فى هذا السبيل يحتم المواجهة والدخول فى معارك فكرية، لا سيما إذا كان المرء جادًا وملتزمًا. وبقدر ما كان فؤاد زكريا مدركًا ضرورة إيجاد حل للمشكلات الإنسانية والآفات الاجتماعية، كان إحساسه بأن هذه هى المهمة التى ولد من أجلها. «إننى مقتنع بأنه لا مفر للإنسان (الملتزم) من معارك فى مجتمعاتنا، وخاصة إذا لم يكن منافقًا أو مداهنًا لذلك المجتمع. لقد أحسست فى فترة مبكرة من حياتى أن هذا هو قدرى.. رضيت به.. بل ورحبت وما زلت». ويعترف فؤاد زكريا بأن المسألة لم تكن سهلة على الإطلاق، بدليل أن كثيرًا من أصدقائه ورفاق دربه ابتعدوا عن ملازمته، وتخلوا عن مواصلة السير فى طريق النضال والتنوير بعدما سقطوا فريسة الوهم أو اليأس. وغنى عن البيان أن مواصلة السير فى طريق التنوير تتطلب السباحة ضد التيار فى معظم الأحيان وتوجب على المفكر أن يدفع الرأى بالرأى وأن يقارع الحجة بالحجة وأن يكون سلاحه الفعال هو وضوح الرؤية وسلامة التفكير.

كانت أولى المعارك التى خاضها فؤاد زكريا مع المثقفين المصريين على وجه الخصوص هى معركته مع نظام حكم عبدالناصر، ولا سيما عند منتصف السبعينيات. فلقد دخل آنذاك فى مواجهات حادة مع بعض المفكرين اليساريين.

وكانت معركته الثانية تدور حول بعض الآراء التى سعت إلى تحميل الدين ما لا يحتمل إثر النصر الذى تحقق للعرب فى حربهم مع إسرائيل فى عام ٧٣.

أما معركته الأخيرة مع المثقفين فإنها تتعلق بموقفه من جريمة الغزو العراقى للكويت على نحو ما أسلفنا. إذ من المعلوم أن بعض المثقفين المخدوعين أو المكابرين قد وقفوا إلى جانب النظام الحاكم فى العراق حين أقدم على احتلال الكويت. فبعضهم كان منساقًا وراء أوهام باطلة منها تصورهم أن صدام محق فى عدوانه وافتراءاته، وأن النظام العراقى قادر على مواجهة الولايات المتحدة والدول الغربية التى رفضت العدوان وأصرت على تحرير الكويت. ومن المثقفين الذين وقفوا إلى جانب العراق طائفة مكابرة لم تتراجع عن موقفها بعد الهزيمة التى ألحقتها دول التحالف بطاغية العراق بل أصرت- وما زالت- على الإشادة بالنظام المهزوم، وبالغت فى تأييد الباطل وتمجيده حتى بعد أن أنجلت الأمور واتضحت أبعاد الجرائم التى ارتكبها الطاغية فى حق الشعب العراقى نفسه.