رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

د.لويس عوض يكتب: قصة عملاق اسمه «عباس محمود العقاد»

عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد

ولد العقاد فى ٢٨ يونيو ١٨٨٩، وكان أبوه محمود إبراهيم مصطفى العقاد معاون إدارة بمدينة أسوان، ثم أمين المحفوظات أو مديرها بها. وقد كانت أمه حفيدة رجل من رجال الفرقة الكردية التى وجهها محمد على إلى السودان لتأديب نمر، ملك شندى الذى انقض على الجنود المصريين بالسودان بعد فتحه وأحرق قائدهم إسماعيل بن محمد على نحو عام ١٨٢١، أما ولده محمد أغا الشريف وهو جد العقاد لأمه، فكان يتكلم التركية والكردية ولا يتكلم العربية إلا بصعوبة، ولم أعثر له على صناعة معروفة. ومعروف أن أبا العقاد لم يكن من أسوان وإنما كان موظفًا فى الحكومة بالمحلة الكبرى، ثم نقل إلى أسوان، وهناك تزوج من أم العقاد واستوطن بأسوان حتى مات بها عام ١٩٠٧، وتروى الروايات أنه كان رجلًا أمينًا مستقيمًا. كذلك معروف أن أم العقاد كانت امرأة قوية الشكيمة قوية الشخصية، حتى إنها كانت تلقب فى أسوان «بالمشدة»، أى رئيسة الفعلة، ويبدو أنها كانت من أكبر المؤثرات فى تكوين نفسية العقاد وشخصيته. وإنما كانت تفهمه أكثر مما فهمه باقى أفراد الأسرة، فكانت وحدها تنصره كلما لاموه على اشتغاله بالأدب ومما ينبغى ذكره لها، أنها حين مات عنها زوجها عام ١٩٠٧ كانت يؤمئذ فى الثانية والثلاثين من عمرها أى فى قمة نضوجها، ومع ذلك فقد آثرت أن تبقى عزبة بقية حياتها وأن تتفرغ لتربية أولادها وقد امتد عمرها حتى ماتت فى أسوان عام ١٩٥٦ عن ثمانين سنة أو نحوها.

أما العقاد فقد أتم تعليمه الابتدائى فى مدرسة أسوان الأميرية ومنها حصل على شهادة الدراسة الابتدائية فى ١٩٠٣ فى سن الرابعة عشرة. وكان فى هذه السن يجلس فى بيت الأسرة إلى الشيخ أحمد الجداوى، وهو خريج من الأزهر عرف جمال الدين الأفغانى ولازمه أيام إقامته فى مصر. وسمّع العقاد على الشيخ الجداوى مطارحات الشعر العربى فشغف بالأدب، وكان أول ما قرأ من كتب فى الأدب العربى كتاب «المستطرف من كل شىء مستظرف»، وديوان البهاء زهير، وألف ليلة وليلة ومجلد من دائرة معارف البستانى وأعداد من مجلة «السمير» التى كان يصدرها عبدالله النديم. ولم يتم العقاد تعليمه الثانوى بل دخل عام ١٩٠٧ مدرسة التلغراف وقد ذكر العقاد نفسه فى مقال كتبه عام ١٩٢٢ أنه دخل مدرسة الفنون والصنائع بعد أن أتم دراسته الابتدائية فى أسوان، وفى ١٩٧٠ بدأت صلة العقاد بالكتابة وهو يدرس فى مدرسة التلغراف، فكان يحرر فى جريدة «الدستور» التى أنشأها محمد فريد وجدى وشارك صاحبها فى تحريرها منذ أنشأها حتى موته، وكان يوقع مقالاته فيها بتوقيع ع . م، العقاد على طريقة الإفرنج وكان أول كتاب أصدره هو «خلاصة اليومية»، عام ١٩١٢ وكان يسميه «شهادة الميلاد»، أى شهادة ميلاده شاعرًا وناثرًا.

وقد جرب العقاد الوظائف الحكومية فاشتغل موظفًا بالقسم المالى بمديرية الشرقية، ثم اشتغل لمدة عامين من عام ١٩١٢ إلى عام ١٩١٤ بقلم السكرتارية بوزارة الأوقاف، حيث كان يعمل نفر كبير من أدباء مصر المعروفين فى ذلك الزمن من أمثال محمد المويلحى وعبدالعزيز البشرى وأحمد الأزهرى وأحمد الكاشف وكامل كيلانى. وكان العقاد فى فترة ١٩١٢ - ١٩١٤ هذه يكتب فى جريدة «الجريدة» التى أسسها لطفى السيد ويشارك فى تحريرها بالشعر والنثر مع محمود عماد وعلى شوقى والمازنى وعبدالرحمن شكرى وطه حسين ومحمد صبرى وكامل كيلانى وكوكبة من شباب المثقفين فى ذلك الجيل الذين كانت تتراوح أعمارهم يومئذ بين الثالثة والعشرين والخامسة والعشرين. أما المازنى، الذى غدا فما بعد صديقًا حميمًا للعقاد وشريكًا له فى كثير من معارك الأدب رغم اختلافهما فى المعتقدات السياسية، فقد عرف العقاد قارئًا له عام ١٩٠٧، أيام أن كان العقاد يحرر جريدة «الدستور»، مع محمد فريد وجدى. وكان المازنى لم يلتق بالعقاد إلا فى عام ١٩١١ حين اشترك معه فى تحرير مجلة «البيان»، وما تلاها، ثم زامله فيما بعد فى عديد من الأعمال كالتدريس والتأليف على نحو ما شرح العقاد فى «المطالعات»، كما تبادلا الرسائل شعرًا ونثرًا على النحو الذى نعرفه من «الديوان فى النقد والأدب» «١٩٢١». أما ثالث الثلاثة، وهو الشاعر عبدالرحمن شكرى، فلم يتعرف بالعقاد شخصيًا إلا عام ١٩١٤، وكان واسطة تعارفهما هو المازنى، وكان ثلاثتهم أبناء جيل واحد، فهم جميعًا من مواليد ١٨٨٩ وقد قدر للعقاد أن يدفن صديقى عمره، فقد مات المازنى عام ١٩٤٨، ثم مات شكرى عام ١٩٥٨.

ولكن العقاد كان دائمًا يضيق بالوظيفة الحكومية، فما إن فاتحه أحمد حافظ عوض فى الإشراف على صفحة الأدب فى جريدة «المؤيد»، حتى قبل فورًا، ولكنه لم يلبث أن استقال من «المؤيد»، لأسباب تتصل بالكرامة وتفرغ للقراءة والتأليف وكان فى فترة الحرب العالمية الأولى يكثر الانتقال بين القاهرة وأسوان، وهذه هى الفترة التى وضع فيها مؤلفًا باسم «ساعات بين الكتب»، وقد أحرقه العقاد نفسه عام ١٩١٦. وفى أسوان ألف «مجمع الأحياء»، الذى نشر كاملًا عام ١٩١٦، كما نظم شعر الجزء الأول من ديوانه. ومعروف أن العقاد اشتغل فى فترة الحرب العالمية الأولى مدرسًا بمدرسة المواساة بأسوان، فلما نفى الإنجليز ناظر المدرسة إلى مالطة لاشتغاله بمقاومتهم حل العقاد محله من باب التحدى لسلطات الاحتلال.

ووجد العقاد يومئذ عنتًا من مدير المديرية، الذى سلط عليه مفتش الداخلية الإنجليزى فهرب العقاد من أسوان إلى القاهرة متنكرًا، وفى القاهرة لجأ العقاد إلى جعفر والى باشا، وكيل وزارة الداخلية يومئذ، وكان على صلة به، واستعداه على مدير أسوان وعلى مفتش الداخلية الإنجليزى، حتى نجح فى حمله على نقلهما من أسوان. ثم عين العقاد فى وظيفة بمصلحة الإيرادات بقنا وهناك أنشأ جمعية أدبية كانت تعقد اجتماعاتها فى الكنيسة البروتستانتية بالمدينة. ولكنه لم يلبث أن سئم هذه الوظيفة وعاد إلى القاهرة، وفى القاهرة اشتغل العقاد مدرسًا بمدرسة وادى النيل الثانوية مع اقتطاع بعض وقته للصحافة والأدب، فكان يكتب فى مجلة «المقتطف»، عن المعرى وشوبنهاور وغيرهما من الأدباء والفلاسفة. وطلب إليه يعقوب صروف يومئذ أن يسافر إلى خطوط القتال فى سيناء ليكتب عن انتصارات الحلفاء فى هذه الجبهة ولكن العقاد رفض هذه المهمة.

ومن الملامح الهامة فى حياة العقاد أثناء هذه الفترة أنه اشتغل رقيبًا بناء على رغبة جعفر والى باشا وكيل الداخلية، ولكنه لم يلبث أن اصطدم بالرقيب العام الإنجليزى مستر هور تيلور، فاستقال بعد أسبوع واحد من العمل بالرقابة. واعتكف العقاد، قبيل انتهاء الحرب العالمية الأولى، فى حى الإمام الشافعى بعيدًا عن القاهرة وتكاليفها ولم يكن يتردد على المدينة إلا مرة كل أسبوع.

تم طلب العقاد للتحرير فى جريدة «الأهالى» بالإسكندرية، وكانت تنطق بلسان حال محمد سعيد باشا رئيس الوزراء، فتعاون معها فترة ولكنه لم يلبث أن كف عن الكتابة لهذه الجريدة حين أخذت تنحرف عن التيار الوطنى العام. وانتقل العقاد للعمل فى جريدة «الأهرام»، ويؤثر عنه فى هذه الفترة، وهى أوج المد الثورى فى ثورة ١٩١٩، أن كافة الصحف ترجمت بلاغ ملنر قائلة إن القصد من التحقيق الذى جاءت لجنة ملنر لتجريه باستقصاء أسباب الثورة هو إعطاء مصر استقلالها «تحت أنظمة دستورية»، وكانت هذه هى الترجمة التى أعلنتها الحكومة فى بلاغها الرسمى للأمة فسايرتها فيها عامة الصحف، فشذ العقاد عنها جميعًا فترجم فى «الأهرام» عبارة under self-governing institutions بعبارة «تحت أنظمة حكم ذاتى»، لا «تحت أنظمة دستورية». وقد كانت ترجمة العقاد أقرب إلى الدقة، لأن ذكر الدساتير لم يرد قط فى النص الإنجليزى، وإنما كل ما ورد هو أن أنظمة الدولة ستكون قائمة على أن البلاد ستحكم نفسها بنفسها داخليًا، وهو شىء قريب من وضع «الهوم رول»، أو نظام الحكم الذاتى، وليست له علاقة بالوضع الدستورى فى البلاد من الناحية الفقهية لأن أنظمة الحكم الذاتى قد تنصرف إلى التركيب الإدارى للدولة من دون التركيب الدستورى لها. بل إن هذه الصياغة الملتوية الماكرة التى ربطت بين مبدأ الاستقلال ومبدأ الحكم الذاتى على هذه الطريقة قد ألغت المبدأ الأول بالمبدأ الثانى وأدخلت العملية كلها داخل نطاق «الهوم رول». وقد كان لإظهار العقاد هذا التدليس فى الترجمة دوى شديد، وتعرض للإيذاء ولا سيما فى عهد كانت فيه مصر تحكم حكمًا عرفيًا. وقد ذكر صديق العقاد محمد طاهر الجبلاوى فى مقال كتبه وأثبته فى كتاب «العقاد: سيرة وتحية» وهو الكتاب الذى أصدره بعض تلاميذ العقاد ومريديه بمناسبة بلوغه سن السبعين أن العقاد كان يشترك فى وضع منشورات جماعة اليد السوداء.

ومن المواقف المشهودة للعقاد موقفه الباسل من محاولة الملك فؤاد إجهاض دستور ١٩٢٣، فبعد أن شكلت وزارة عبدالخالق ثروت فى ٣ أبريل عام ١٩٢٢ لجنة الدستور المعروفة بلجنة الثلاثين لوضع دستور للبلاد وفرغت اللجنة من مهمتها فى ٢١ أكتوبر عام ١٩٢٢ رفع ثروت باشا مشروع الدستور إلى الملك فؤاد ليقوم بإعلانه، فأخذ الملك فؤاد يماطل ويسوّف، لأنه رأى أن الدستور يحد من سلطته المطلقة، وكان يرى إسقاط عبارتين من مشروع دستور ١٩٢٣، الأولى أن «الأمة مصدر السلطات»، والثانية أن «الوزارة مسئولة أمام البرلمان». وحاول توسيط عدلى يكن للحد من هذا الاتجاه الديمقراطى، ولكن عدلى أبى أن يتدخل، ولما رأى الملك فؤاد إصرار ثروت على المضى فى إصدار الدستور أخذ يكيد لوزارته ليجد التكئة للإطاحة بها، ونجح فعلًا فى حمل ثروت على الاستقالة فى ٥ ديسمبر ١٩٢٢ وأحل محله توفيق نسيم الذى أعد العدة لمسخ مشروع الدستور بحذف النص على أن الأمة مصدر السلطات ويجعل إعطاء الرتب والنياشين من حق الملك وحده من غير مشاركة الوزارة، ويجعل عدد الشيوخ المعينين مساويًا لعدد الشيوخ المنتخبين مع تخويل الملك حق حل المجلسين، ويجعل تعيين رئيس مجلس الشيوخ من حق الملك وحده دون مشاركة الوزارة، وبإعطاء الملك حق إصدار مراسيم لها قوة القوانين حتى أثناء انعقاد البرلمان، وبإخراج بعض المعاهدات التجارية من رقابة البرلمان، وبوضع حدود لسلطة مجلس النواب فى إقرار ميزانية الدولة، وبعدم جواز إخلال الدستور بولاية الملك على التعليم الدينى من خلال وزارة الأوقاف، وبزيادة الأغلبية الواجبة لتنقيح الدستور والنص على ضرورة تصديق الملك على التعديل فى المرحلة الأولى. وهنا وجد الإنجليز الفرصة سانحة لاقتناص المغنم الأكبر فأرسلوا إنذارًا إلى توفيق نسيم طالبوه فيه بحذف المادة ٢٩ التى تنص على أن لقب الملك هو «ملك مصر والسودان»، والمادة ١٤٥ التى كانت ترتب للسودان نظامًا للحكم خاصًا به. وقبل توفيق نسيم الإنذار البريطانى وحذف من مشروع الدستور المواد الخاصة بالسودان ثم استقال بعد شهرين من الحكم الآثم، ضيع فيهما نصوص السودان فى دستور البلاد، وولى الوزارة بعده يحيى إبراهيم الذى أراد أن ينهج منهجه فى مسخ الدستور لولا اشتعال السخط فى كل مكان وتجدد حوادث الاعتداء. وفى هذه المعركة الكبرى من أجل الدستور برز العقاد وكشف القناع عن الدسائس التى كان الملك يحيكها خفية للدستور، وكتب فى جريدة «البلاغ»، قائلًا: «إن الدستور كما كتب يعلن وإذا كانت به أخطاء فإن البرلمان يناقشها». وحين افتضح أمر الملك لم يجد مناصًا من التراجع، فأصدر الدستور كما وضعته اللجنة فى ١٩ أبريل ١٩٢٣ عامًا فيما خلا من النصوص المتعلقة بالسودان.

وقد أصبح العقاد الكاتب الرسمى للوفد منذ ١٩٢٢ بعد أن ظهر استبساله فى الدفاع عن القضية الوطنية وعن الدستور فى جريدة «الأهالى»، أيام أن كان يرأس تحريرها عبدالقادر حمزة ثم فى جريدة «البلاغ»، فاصطفاه سعد زغلول وكرمه، وكان يصفه بأنه «كاتب جبار المنطق». أما ولاء العقاد لسعد زغلول شخصًا ومبدأ، فقد كان أشبه شىء بعبادة الأبطال، ومع ذلك فإن هذا الولاء لم يجعل من العقاد مجرد تابع مجرد من الإرادة يتخذ من زعيمه صنمًا، بل كان لا يتردد فى مجاهرة سعد زغلول بمعارضته كلما وجد موطنًا للاختلاف معه. ومن المواقف التى تذكر فى هذا الصدد وتلقى ضوءًا كاشفًا على شخصية العقاد أنه حين ألقى سعد زغلول فى عام ١٩٢٤ خطبة العرش الأولى فى البرلمان الأول بعد إعمال دستور ١٩٢٣ بوصفه رئيسًا للوزراء، كان من المنتظر أن يكتب العقاد تعليقًا على خطبة العرش فى البلاغ، بوصفها جريدة الوفد الرسمية آنذاك، ولكن «البلاغ» صدرت بغير التعليق المنتظر. ولما عاتب سعد العقاد فى هذا أجابه العقاد بأنه لم يكتب لأنه غير مقتنع بأن عبارة «الأمانى القومية فى السودان» الواردة فى خطبة العرش عبارة تعبر بوضوح عن حقوق مصر، واشتبك العقاد مع سعد فى لجاج طويل حول هذه النقطة، فلما نفد صبر سعد، يذكر أنه قال: «لو حاسبنى كل فرد فى الأمة حسابك لعجزت عن أعباء وكالتى عن الأمة»، فأجابه العقاد بقوله: «ولكن ليس كل فرد فى الأمة عباس العقاد». فابتسم سعد وقال: «صدقت. ليس كل فرد فى الأمة عباس العقاد». كذلك يذكر أن أدباء البلاد العربية حين أقاموا فى ١٩٢٤ مهرجانًا فى القاهرة ليبايعوا فيه شوقى بإمارة الشعر، ورأس هذا المهرجان سعد زغلول، وكان يومئذ رئيسًا للوزارة ومن المعجبين بشعر شوقى، لم يمنع هذا العقاد من مهاجمة المهرجان فى جريدة سعد زغلول، فقد كان للعقاد رأى بالغ السوء فى شعر شوقى بسطه فى كتابه «الديوان فى النقد والأدب» قبل ذلك بعامين وبعد ذلك فى جملة مؤلفات. وكان سعد أيضًا من المعجبين بأدب المنفلوطى فلما مات سعد سعدًا قائلا إن المنفلوطى ليس إلا «منشئًا»، فعجب المنفلوطى جادل العقاد لهذا الاعتراض باعتبار أن المنشئ أديب خالق، فأجابه العقاد أنه يقصد أن المنفلوطى إنما يكتب مواضيع إنشاء على غرار ما يكتب فى المدارس.

هذه لمحات سريعة عن حياة العقاد لم أقصد بها أن تكون سيرة تترجم له، وإنما قصدت بها أن تكون مجرد لمسات سريعة تخرج منها صورته الشخصية العامة قبل تناول أدبه بالتحليل. وكل من عرف العقاد أو قرأ له أو تتبع جهاده الأدبى أو السياسى يخرج بأن أهم ما كان يتميز به العقاد ليس غزارة علمه كما يذهب البعض، ولقد كان حقًا من أغزر الناس علمًا وإحاطة بالمعارف، فهذه صفة قد يكون فيها أشباه عديدون، ولكن أولًا وقبل كل شىء صلابة فريدة كأنه قُد من جرانيت أسوان التى خرج منها وبقيت ماثلة فى وجدانه طوال حياته حتى طوته المنية. وما ارتاح رأسه حتى دفن بين صخورها الصلدة، وفيما بين مولده ومماته كانت له بين أسوان والقاهرة رحلات منتظمة كأنها رحلة الشتاء والصيف. ومع هذه الصلابة الفريدة كان العقاد يتميز بالاستقلال فى الرأى وازدراء روح القطيع ولو أركبه هذا الاستقلال فى الرأى مركبًا صعبًا. ومع هذه الصلابة الفريدة وهذه النزعة الاستقلالية تفرد العقاد أيضًا بشيمة قلما نجدها فى أنداده من رجال القلم وهى الشموخ والتعاظم والحساسية التى توشك أن تكون مرضية للكرامة الشخصية ولكرامة الكاتب والأديب والمفكر.

حدثنى صديقى العالم السيكولوجى الدكتور صبرى جرجس، وقد كان مثلى فى حداثته من دراويش العقاد، أن العقاد حين أصدر كتابه العظيم عن سعد زغلول عام ١٩٦٣، انبهر صديقى بعظمة هذا الكتاب حتى أقبل على ترجمته إلى الإنجليزية متطوعًا، وراجعه له مدرس إنجليزى من محبى مصر يدعى مستر ستيفن كان يعمل فى بنى سويف الثانوية. وبعد أن أتم الشابان العمل حمل ستيفن الكتاب إلى ناشر فى لندن فرضى الناشر أن ينشره، ولكنه طلب إجراء بعض الاختصار من الوقائع التى لا تهم القارئ الإنجليزى، فلما فاتحا العقاد فى هذا الأمر أجابهما بنبرته الجهورية العميقة التى لا يمكن أن ينساها من عرف العقاد: «وهل يجسر ناشر على أن يطلب من إميل لودفيج أن يختصر كتابًا من كتبه؟» ورفض الاقتراح وقد ضاعت الآن مسودات هذه الترجمة منذ أن لقى الأستاذ ستيفن حتفه فى الحرب العالمية الثانية. ولقد كان هذا الإفراط فى حساسية الكبرياء والتعالى وهذا النزوع إلى الاستقلال من أهم العوامل التى جعلت العقاد يتمرد على الوظيفة الحكومية فى أى شكل من أشكالها. وقد عرض عليه سعد زغلول فيما جاء أن يكون مديرًا لدار الكتب فرفض أن يكبل بأعباء الوظيفة، كذلك يذكر الذاكرون أن محمد محمود عرض عليه فى وزارته عام ١٩٣٨ أن يكون عميدًا لكلية الآداب بجامعة القاهرة فلم يقبل، وقد كان هذا الاستقلال فى الرأى وهذا الشموخ وهذه الصلابة فى العقيدة من أهم العوامل التى جعلت العقاد يتمرد فى المواقف الحاسمة على النظام الحديدى الذى تفرضه الحزبية على الحزبيين ساسة وكتابًا.

وقد نشر الجهال من عشاق العقاد عن العقاد الأساطير نظرًا لسعة علمه ودأبه على القراءة والعمل، فقالوا إنه يشترى كل شهر كتبًا بخمسين أو مائة جنيه بانتظام، وقالوا إن مكتبته تحوى خمسين ألف مجلد وهم بالطبع حينما ينشرون هذه الأقوال عن العقاد إنما يبغون التنويه بسعة علمه وهم لا يفهمون أن فى هذه الأقوال إساءة للعقاد لا ثناء عليه. فخمسون جنيهًا أو مائة جنيه شهريًا ميزانية للكتب معناها بين ثلاثين وستين كتابًا جديدًا فى المتوسط أى ما معدله كتاب أو كتابان يوميًا. وما من أحد يستطيع أن يقرأ كتابًا جادًا أو كتابين جادين يوميًا بمختلف اللغات إلا إذا كانت قراءته مجرد تصفح وتعرف عام. فهذا القول إذن يظهر العقاد لا فى صورة العالم العلامة ولكن يظهره فى صورة قارئ الفهارس والعناوين. كذلك لا أحسبه إطراء لأديب أو عالم أن تقول إن فى مكتبته الخاصة خمسين ألف مجلد، فمثل هذا العدد من الكتب لا يحسن أن يوجد إلا فى دكان وراق أو فى مكتبة من المكتبات العامة. فإن وجد فى مكتبة خاصة فمعناه أن صاحبها يكدس المراجع فى داره عشرات السنين دون أن يقرأها. وقياس الثقافة بالأحجام أو وزنها على القبان يضر أكثر مما ينفع. ويكفى أن يكون فى مكتبة عالم أو أديب خُمس هذا العدد من المراجع المنتقاة أو حتى عُشره لنقول إنه زاد وأوفى.

ولعل أهم وجه فى سيرة العقاد الإنسان أنه أول نموذج عرفته مصر لما يمكن أن نسميه الأديب المتفرغ. فحين نستعرض تاريخ البلاد الفكرى والأدبى من رفاعة الطهطاوى إلى طه حسين لا نكاد نجد اسم علم واحد من الأعلام كان يكسب قوته من فكره وأدبه إلا إذا كان من تلك الطبقة المترفة التى أغناها مالها عن العمل فى أى نوع كان. وعامة من نعرف من أعلام الفكر والأدب كانت لهم صفة أساسية أخرى كالأستاذية فى الجامعات أو التدريس فى المدارس والمعاهد أو المحاماة أو الطب أو العسكرية أو العمل فى وظائف الدولة البيروقراطية أو الفنية أو الإدارية،

وكان الأدب والفكر فى حياتهم شيئًا هامشيًا مهما أصابوا فيه من مجد أو مكانة. العقاد وحده هو نموذج الكاتب العصامى الذى شق طريقه فى الحياة بقلمه، وأبى أن تكون له صناعة أخرى غير صناعة القلم يعتمد عليها فى رزقه، ولا شك أن تاريخ الأدب العربى القديم حافل بأسماء أعلام الشعراء المتفرغين الذين كانوا يكسبون قوتهم بشعرهم، ولكن عامتهم كانوا يكسبون قوتهم بالمدح والهجاء ويوالون القبائل وأهل السطوة ليتفرغوا إلى نظم الشعر فى فنونه الأخرى. ولكن العقاد بحكم تكوينه النفسى والعقلى وبحكم شموخه وتعاليه وعناده وصلابته واستقلاله فى الرأى لم يكن يوالى الأحزاب السياسية لمجرد الارتزاق حتى يتفرغ للفكر والأدب، وإنما كان يواليها على أساس عقائدى صائب أو خاطئ، ولكنه عنده الأساس فى كل ولاء. وقد استطاع العقاد أن يثبت للعالم العربى كله أن «الكتابة»، مهنة ووظيفة فى المجتمع لا تقل شرفًا عن المحاماة أو الطب أو الهندسة أو الأستاذية أو أية مهنة أخرى. وقد كان الناس ينظرون فى أيامه إلى الأديب على أنه «أدباتى»، ويلحقونه بطائفة المداحين والهجائين التى تعيش طفولية على غيرها من الطوائف، وهذا هو السر فى أن أدباء الجيل الماضى والأجيال السابقة عليه بمن فيهم الفحول كانوا يجزعون أمام زراية المجتمع بالأدباتى ويجزعون أمام مصير الأدباتى، فكانوا لا يمارسون الأدب كوظيفة فى الحياة بل يمارسونه كنشاط مكمل. حتى جاء العقاد وشق بقلمه هذا الطريق الجديد الوعر الذى سبق لأدباء أوروبا وأمريكا أن شقوه من قبل بأقلامهم فضرب المثل لكتاب الأجيال الجديدة بإخلاصه لذات الأدب وبشجاعته وصبره على المكاره، حتى أصبحت الصحافة والأدب والفن بل الفكر أيضًا وظائف معترفًا بها فى مجتمعنا المتطور. ولم يكن العقاد بفضل موهبته وتوافره على العمل وشموخه وتعاليه ليرضى بمكان للأديب أو للمفكر دون الرأس والقمة العالية فى المجتمع. ومن هنا كانت جهوده وصراعاته وصداماته مع الأشخاص أو الأحزاب أو أجهزة الدولة لا تخرج عن أن تكون محاولات للبحث عن مكان «المفكر» أو «الكاتب» فى كل هذه التنظيمات والحركات الاجتماعية ومحاولات لإثبات أن المفكر أو الكاتب الذى يقود الناس بقوة الفكر والعلم لا يقل مكانة وخطرًا عن السياسى الذى يقود الناس بقوة الفعل والتطبيق. ولقد نجح العقاد فيما سعى إليه.