رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صلاح عيسى يكتب: طه حسين.. أحبك حتى نهاية الحساب

صلاح عيسى
صلاح عيسى

لا يعرف كثير من القراء أن مثقفى اليسار المصرى أساءوا فهم طه حسين أحيانًا.. واعترف بعضهم بالخطأ ولم يعترف البعض الآخر.. ورغم أن الكاتب الكبير صلاح عيسى ظل فى معسكر اليسار الوطنى.. إلا أن موقفه من طه حسين كان مختلفًا منذ البداية.. وأغلب الظن أنه أحب حب موهوب لموهوب آخر كبير.. وحب رجل شريف لرجل آخر شريف.. وحب فلاح مصرى شق طريقه بالعمل لفلاح آخر شق طريقه بالعمل.. وربما كان السبب أن صلاح عيسى كاتب أولًا ويسارى ثانيًا.. موهبته تسبق انتماءه الفكرى.. فهو ليس اختراعًا يساريًا من اختراعات تنظيمات اليسار وأكاذيبها فى الصحافة والأدب.. فصلاح عيسى كان سيكون صلاح عيسى سواء كان يساريًا أو وفديًا أو مستقلًا.. لأنه موهوب كبير.. والموهوبون أصحاب فضل على التيارات التى ينتمون إليها والأفكار التى يؤمنون بها وليس العكس.. وربما لهذا السبب اتسم موقف صلاح عيسى من طه حسين بالاستقلالية منذ وقت مبكر، وأظن أنه كتب عنه مقالين من أروع ما كتب عن طه حسين ضمنهما كتابه «شخصيات لها العجب»، أحدهما حمل اسمًا يليق بصلاح عيسى وهو «تعظيم سلام للوطن الذى أنجبك» وقد نشرناه من قبل على صفحات الدستور.. وثانيهما هو «أحبك حتى نهاية الحساب» وهو أشبه بمرثية ابن لأبيه ومريد لشيخه وتلميذ لأستاذه.. وهو يليق بصلاح عيسى كما يليق بطه حسين.. وقد كتب صلاح عيسى مقاله فى عام ١٩٨٨ واستدعى فيه لحظة الحزن التى شعر بها عند رحيل العميد وعاد فيه للذكريات التى خطها طه حسين بقلمه ولعلاقته بزوجته «سوزان».. ولكتابها «معك» الذى جسدت به علاقتها بالعميد من البداية للنهاية كأروع ما يكون التجسيد.. فإلى المقال الذى كتبه عظيم عن عظيم وموهوب عن موهوب وتلميذ عن أستاذ. 

وائل لطفى

أحزن أحيانًا قبل الحزن، وأحزن أحيانًا بعد الحزن، وأحزن أحيانًا بين الحزن والحزن، فإذا ضحكت قلت كما كانت أمى تقول: «اللهم اجعله خير». لذلك أهرب من المناسبات الحزينة، وأرفض أن أرى الأعزاء الذين يوشكون على الرحيل.

وعندما دخل «أمل دنقل» المستشفى فى رحلة المرض الأخيرة، هربت من كل الشوارع التى تحيط به حتى لا تقودنى قدماى- رغما عنى- إلى حيث أراه، فأجلس معه، وأسمعه، أسامره وأضاحكه، وأحفر فى الأذن كلماته، وفى القلب ضحكاته، ثم يأتى اليوم الذى يغيب وتغيب، فأتحمل وحدى وحشة الفراق وعذاب التذكر.. ومن سوء الحظ أننى فعلتها.. وتلك قصة أخرى.. لا أريد أن أتذكرها الآن!

No description available.

ما يشغفنى الآن أن أبحث وراء اللحظات الأخيرة فى عمر طه حسين، أن أجرى وراء الحزن الذى يسكن القلب منذ رحل فى مثل هذه الليلة منذ خمسة عشر عامًا «٢٧/٢٨ أكتوبر ١٩٧٣». أزيل عنه ما تراكم من ثلوج السنوات ومن غبار الأيام ومن سود الذكريات لأستحضره أمامى، وأراه بوجهه الجميل، بابتسامته تلك الرقيقة الرصينة الحانية الممرورة على نحو ما، بصوته ذاك الموسيقى، الممتلئ ثقة، والمفعم شجوًا، بقامته الطويلة الشامخة التى قاومت ضربات الزمن، ومعاول الخصوم، وتخرصات الشائنين فظلت بلا انحناء، كذلك ظلت جبهته، تشع نورا وتتلألأ ضياء، واحتفظت بجمالها وجلالها، بحيث لم يجترح فيها السن ولا الألم أى غضون، كما ينبغى لرجل لم يكف يومًا عن دفع الثمن الباهظ لكونه إنسانًا حرًا.

وذات يوم من أكتوبر ١٩٥٢ كتب له صديقه المستشرق «ماسينيون» يقول «فى عالم المبتزين والجبناء، تتألق شجاعتك فتواسى العاجزين عن الاستشهاد من أجل العدل، لذلك أدعو الله أن يباركك لقاء الزكاة الروحية التى تؤديها للشعب الذى أنجبك..».

No description available.

وحين كتب لزوجته- فى عام ١٩٣٤ وخلال سنوات المحنة التى فُصل فيها من عمله فى الجامعة- يقول: «إننا لا نحيا لكى نكون سعداء» أصابها الذهول.. لكنها أدركت فيما بعد مغزى كلماته وعرفت أن نوعه النادر من الرجال يعيش فحسب لأداء ما طلب منه، وذلك هو ما يمنح الآخرين الفرح، ويعلمهم الشجاعة ويعطيهم الأمان.. وهو أيضًا ما يمنحه هو نفسه السعادة، فقبل سنوات كتب لها «إنك تعرفين هذا النوع من الرضا الذى يعقب القيام بالواجب، وذلك الشعور بأن المرء على مستوى الرسالة التى كلف بها رغم المصاعب التى يواجهها».

وحدها- «سوزان طه حسين»- هى التى تعرف عنه ما لم يعرفه أحد آخر، لذلك تمتد يدى إلى كتابها الرائع الآسر «معك» ذلك الجزء الأخير من «رباعية الأيام» التى تشجينى قراءتها أكثر مما يشجينى شىء آخر، فبين صفحاته تومض لحظات نادرة تستحق الوقوف أمامها، ويستحب البكاء بين سطورها.

تلك فصول من قصة صداقة استمرت ٥٨ عامًا متصلة، وحين أصبحت وحدها معه وقد فارقته الروح، وسكن الجسد، ظلت قربه، مرهقة شاردة الذهن وهادئة هدوءًا غريبًا.. وطوال الصباح وحتى عندما أخذوه من المنزل ظلت تقول وتكرر القول «يا صديقى»؛ ذلك أنه «قبل كل شىء وبعد كل شىء. وفوق كل شىء.. كان أفضل صديق لى، وكان بالمعنى الذى أعطيته للكلمة: صديقى الوحيد»!

No description available.

هى وحدها التى عاينت عن قرب كل صفاته الطيبة وعرفت ما الذى يضحكه، وما الذى يبكيه، وهى التى تعرف ذلك الجانب الذى لا يعرفه أحد عنه، وهى تدرك أن هناك من عرفوا حياته العامة عالمًا وكاتبًا، وربما أكثر مما عرفت هى نفسها؛ لذلك تكتب «معك» لأنها تريد فقط أن «تستعيد ذلك الحنان الهائل الذى لا يعوض»، لأنها باتت تدرك «أن السعادة لو كانت توهب لمن يستحقها، لاستحق قلبه الطيب كل سعادة الأرض»!

أما بداية النهاية، فكانت فى عام ١٩٦٠ حين أجريت له عملية جراحية لإزالة فقرتين من العمود الفقرى العنقى، وهو ما هدد نخاعه الشوكى، وكان آنذاك قد جاوز عامه السبعين، ومع أن العملية كانت صعبة، فإنها تمت بنجاح، فحالت دون أن يصاب بالشلل، إلا أنه لم يستطع بعدها أن يستخدم ساقيه استخدامًا عاديًا.. ومع الأيام أصبح يمشى بصعوبة، ثم لم يعد يمشى إلا قليلًا جدًا، ثم لم يعد يستطيع القيام إلا بخطوات مؤلمة مترددة، وهكذا حط التعب على الرجل الذى لم يستسلم فى معركة، ولم يرفع الراية البيضاء أمام العجز، ولم يعد يخرج أبدًا إلا لكى يذهب إلى جلسات المجمع اللغوى.

بدأت الحياة تتسرب من جسد الرجل الذى عرفته هى وحدها أكثر مما عرفه كل الناس، وامتزجت حياتها بحياته، بساعاتها ودقائقها وثوانيها، فأحبتها، كما أحبها الناس، وربما أكثر، فإذا كانوا قد أحبوا فيه استقامة حياته وهى تسرى فى وضح النهار، وعشقوا شجاعته المعنوية والجسدية، فقد كان من حظها وحدها أن تستمتع بصداقة عريضة، وحنان لا يعوض، وفخر لا حدود له رغم تواضعه هو نفسه، وحين فاتحها بحبه لأول مرة قال لها:

No description available.

- اغفرى لى، لا بد أن أقول لك ذلك فأنا أحبك!

وأذهلتها المفاجأة. فصرخت بفظاظة: ولكنى لا أحبك.

فقال بحزن : آه.. إننى أعرف ذلك جيدًا.. وأعرف جيدًا كذلك أنه مستحيل. 

ويمضى زمن، ثم يأتى يوم آخر تقول فيه لأهلها إنها تريد الزواج من هذا الشاب، وتصرخ أمها:

- كيف؟ من أجنبى! وأعمى! وفوق ذلك كله مسلم! لا شك أنك قد جننت تمامًا.. وفيما بعد ظنتها صديقة تقوم برسالة، وقالت أخرى:

- لقد ملأت حياتك إلى أقصى حد.

أما هى فتقول: «كان هناك هذا الشىء الرائع! الفخر واليقين أنه ليس ثمة ما يدعو للخجل، ومن أنه ليس هناك على الإطلاق أية فكرة مريبة أو بشعة أو منحطة يمكن أن تأتى لتحتقر أو لتثلم الكائن الذى أقاسمه حياته»!

وهى وحدها التى حلقت معه بالحوار إلى آفاق النشوات العليا. وهى التى قاسمته المحن التى اختصته بها الحياة، وهى وحدها التى تملك أسرارًا لم تقلها، ولن تقولها، «فهناك الآن.. وستبقى إلى الأبد أشياء لا أستطيع أن أقولها لأى مخلوق فى العالم»، وهى وحدها التى عرفت عن قرب موجات حزنه واكتئابه واعتزاله العالم.. هذا الرجل الممتلئ حبًّا وقوة عزيمة، ورغبة فى أن يجتث منها كل الشرور، وإنه المقاتل الصلب الذى لم ينسحب من معركة، ولم يهرب من حرب، ولم يخف من عدو، ولم يتنازل عن شجاعة قلبه وجسارة عقله. قال لها يومًا فى قلب معركة كان يخوضها: «أريد أن أكتب كتابًا.. سوف أسميه الجهد الضائع»، لكنه سرعان ما كان يستسلم فقط لإرادته التى لا تعرف القنوط، فيواصل الحرب ضد العجز وضد الجبن وضد التخلف.

ويوم يهاجمه المرض ويتكأكأ عليه مع الإرهاق وسفالات الأعداء فيقع فى إحدى نوبات الاكتئاب السوداء المخيفة، ويحبس نفسه وراء صمت شرس مخيف كما لو أنه سقط فى أعماق حفرة لا يستطيع أى شىء على الإطلاق أن ينتزعه منها، بدت لها حياتها، كما لو أنها قد توقفت، وانسحقت بلا أمل فى مواجهة عزلته القاسية التى فرضها على نفسه، فقالت له:

- لماذا تبعد نفسك عنى؟

آنذاك لم يفكر إلا بمواساتها فكتب لها أنا «لست بعيدًا عنك، اطوينى فى جناحك كما كنت تفعلين دومًا، أمنعك أن تكونى حزينة.. وآمرك بالابتسام.. أما الآن فتعالى إلى ذراعى، أحبك حتى نهاية الحساب».

وكان ابنهما «مؤنس»، هو أول من ابتدع هذا التعبير، فحين كان طفلًا ولم يكن يعرف بعد كيف كان يشير إلى أعلى رقم يمكن تخيله يقول لها أو لأبيه:

No description available.

- أحبك.. اثنين.. ثلاثًا.. حتى نهاية الحساب!

ويختفى زحام الأصدقاء، ويفرغان كل للآخر، لا كتابة.. ولا حتى قراءة. فقط.. الاستماع إلى الموسيقى وذكريات الزمن الذى مضى، والذى كان مليئًا بمسرات لا توصف، وكان من بينها تلك الأفراح التى منحتها الطبيعة له «فعلى امتداد ذكرياتى هناك غابات ومروج وبحيرات وجبال وسيول وبحار». وفى السنوات الأخيرة كانا يقفان لحظات طويلة فى العربة التى لم تكن تجرى بسرعة، ليتمكن من تحسس رائحة العشب وسماع تغريد العصافير ونهيق الحمير وصوت الطاحونة وسط الحقول بين بنها وطوخ. 

وقبل عامين من وفاته، كان إرهاقه كبيرًا، كان يريد أن يظل ممددًا على الدوام، وكان ذلك مخالفًا لأوامر الطبيب، وكانت تجلس فى الشرفة كل مساء تتأمل الليل.. أما هو فكان يخشى أن يؤذيها البرد عندما تطيل البقاء، فكان يلح:

- عودى، قلت لك عودى! 

كان ذلك يحدث فى مصر، وكان يحدث أيضًا فى إيطاليا حين سافرا إليها آخر مرة قبل وفاته بأسابيع، أما حين كانا يقضيان الليل فى «برجهام» وهما فى الطريق إلى «جنوة»، وكان «إليندى» قد قتل، فقد كان وقتها يستريح فى سريره، وكانت هى تتأمل فى الليل موكبًا رائعًا شبه صامت، إلا من كلمات:

- أليندى.. أليندى.. شيلى حرة. 

وعندما عادا من الرحلة الأخيرة، وجدا البيت فارغًا تمامًا من الخدم والمعاونين، كانوا قد هاجروا إلى بلاد غنية، ولم يكن قد بقى لهما لكى يعيشا معًا سوى أربعة أسابيع، وفى ذلك اليوم- السبت ٢٧ أكتوبر ١٩٧٣- لم يكن يبدو عليه المرض إطلاقًا، ومع ذلك ففى الثالثة من بعد الظهر، شعر بالضيق، وتعثرت الكلمات على لسانه، وعجز عن نطقها، وعندما وصل الطبيب كانت النوبة قد زالت وكان قد عاد إلى حالته الطبيعية، وفى تلك اللحظة وصلت برقية الأمم المتحدة التى تعلن فوزه بجائزة حقوق الإنسان، فقرأها له الطبيب وهنأه بحرارة، لكنه لم يجب إلا بإشارة سريعة، كأنها تقول: وأية أهمية لذلك..؟ وفى الثامنة والنصف كانا قد أصبحا معًا وحيدين، وكان يريد منها أن تجعله يستلقى على ظهره، وكان ذلك مستحيلًا بسبب ظهره المسلخ.. وظلت تصغى إلى صوته يتوسل إليها کصوت طفل صغير قائلاً:

- إنهم يريدون بى شرا.. هناك أناس أشرار!

- من الذى يريد بك الشر يا صغيرى.. من هو الشرير!

- كل الناس!

- حتى أنا يا «طه»!

- لا، ليس أنت!

ثم يقول بسخرية مريرة:

- أية حماقة.. هل يمكن أن نجعل من الأعمى قائد سفينة!

بعد لحظة يهدأ. يخفت تذكار الذين هزأوا به وقاوموه وألقوا عليه الحجارة، فيعود إلى طبيعته، ينهزم الأشرار، يقول لها: «أعطينى يدك». ويقبلها!

وتأتى الليلة الأخيرة.. ناداها عدة مرات، ولأنه كان يفعل ذلك- بلا ضرورة أو مبرر- منذ زمن طويل فقد غلبها الإرهاق فنامت.. وفى السادسة من الصباح، شرب قليلًا من الحليب، ونزلت هى لتعود بالفطور، وحين دلفت إليه كان قد رحل!

وتقدمت صديقتهما المشتركة لتنزع من إصبعه خاتم الزواج، فإذا بيده التى بقيت لينة تنغلق على يديها كأنما تقول: إلى اللقاء!

أما هى فحين كانت تنتظر مع ابنتهما أمينة، فى السيارة، انطلاق الجنازة، وبعد الصلاة على جثمانه، وجدت صفًا من الأطفال والراشدين وقالت لنفسها: إنه من أجلهم ما بذله طه حسين من جهود.

وكانت تود لو تحدثت إليهم، فمدت يدها إلى أقربهم، وأذهلته حركتها فى البداية لكنه مد إليها يده بابتسامة جميلة، وسرعان ما امتدت إليها الأيادى.. عشرون.. خمسون.. حين انطلقت السيارة خلف جثمانه، تراكضوا على مقربة من بابها، وهى تنطلق وكانت يدها لا تزال خارجها.. أما يوم ذهبت تزور قبره لأول مرة فقد وجدت فى قلب منطقة المقابر مدرسة! فدمعت عيناها لكنها ابتسمت؛ إذ أدركت أن ذلك لا بد أنه يشعره فى قبره بالفرح!

فى المفصل ما بين ليل ٢٧ أكتوبر ونهار ٢٨ أكتوبر.. سأكون ساهرًا.. وسأقول له: أحبك حتى نهاية الحساب!

من كتاب «شخصيات لها العجب»