رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خمسون عامًا على رحيل العميد

نجيب محفوظ يكتب عن طه حسين: الوزير المصلح.. المفكر الثائر.. الأديب المتنوع

نجيب محفوظ وطه حسين
نجيب محفوظ وطه حسين

- ارتبط طه حسين الأديب فى أذهاننا «بالحرية» والبحث العقلى الموضوعى كمفكر كبير ويعتبر طه حسين أحد الرواد مع العقاد والمازنى وحسين هيكل وسلامة موسى الذين قامت عليهم حياتنا الأدبية فى مطلع القرن العشرين

- لقد كان رجلًا عظيمًا مضيئًا فى شخصيته وفى إبداعاته ككاتب متعدد المواهب وفى ترجمته لأدب الإغريق ومؤلفاته الأدبية والعلمية

لا أتذكر بداية محددة لتعرفى على طه حسين، ولكننى أذكر أننى كنت أعرفه طوال عمرى، ولا أدرى متى وكيف وأين سمعت عنه، ولكننى عرفت طه حسين الأديب وطه حسين الأستاذ وطه حسين العميد.

ولا شك أننى قرأت الأيام لطه حسين بمتعة لا مزيد عليها، وأنا لا أزال أتمرن على الكتابة، ولعلنى كنت فى أوائل المرحلة الثانوية، فحاولت تقليدها فى كراسة أو كشكول وأسميتها «الأعوام» على نفس الوزن محاولًا أن أقلد نفس الأسلوب ونفس الطريقة، وأحكى فيها عن نشأتى كما حكى طه حسين عن نشأته. وقد أعطانا طه حسين فى رواياته المعروفة كل نماذج الرواية تقريبًا من رواية السيرة الذاتية فى «الأيام»، إلى الرواية الموضوعية كما فى «دعاء الكروان» إلى رواية الأجيال كما فى «شجرة البؤس» التى هى أول رواية فى اللغة العربية من روايات الأجيال التى لا يخلو منها أدب أمة فى أوروبا، وقد تأثرت تأثرًا كبيرًا بـ«شجرة البؤس» وظل هذا التأثير ينمو حتى كتبت «الثلاثية». 

وقد ارتبط طه حسين الأديب فى أذهاننا «بالحرية» والبحث العقلى الموضوعى كمفكر كبير. ويعتبر طه حسين أحد الرواد مع العقاد والمازنى وحسين هيكل وسلامة موسى الذين قامت عليهم حياتنا الأدبية فى مطلع القرن العشرين.

فالعقاد شخصية لا تتكرر، والمازنى كان أديبًا عظيمًا جدًا لم يأخذ حقه فى حياته ولا فى موته رغم أنه كان من أدق الناس فى الترجمة، وله أسلوب من أجمل الأساليب العربية الأدبية يرشحه لأن يكون الروائى الأول، ولكن كان فى المازنى شىء من الاستهانة، الله هو الأعلم بأسبابها، مما لم يجعله يتخصص فى شىء ويعطيه حياته.

فقد كان طه حسين والعقاد والمازنى ود. محمد حسين هيكل، وسلامة موسى، من الرواد الذين لا يقل تقديرى لأحدهم عن الآخر فى مجال الأدب. أما طه حسين الأستاذ فقد كان عميدًا عندما دخلت كلية الآداب، ولم يكن بالنسبة لى أستاذًا مباشرًا للأسف- ولكن فى بعض الأحيان بعد الظهر، تكون لنا محاضرة، فى الوقت الذى كانت لطه حسين محاضرة قبلها أو بعدها، فأحضرها، وكنت أرى من تلاميذه فى ذلك الوقت سهير القلماوى، وكان طه حسين فى محاضرته يقرأ القصيدة ثم يترك الطلبة يشرحونها، ثم يسألهم فى دقائقها:

لماذا قال الشاعر ما قال، ولماذا لم يقل شيئًا غير ذلك الذى قال؟ أو أسئلة من هذا النوع، فكانت الدراسة على يدى طه حسين متعة وتربوية وفنية وجمالية جمالًا يفوق الوصف.

أما طه حسين العميد فقد راح يربينا تربية جامعية عظيمة، فينبه على الأساتذة ألا يسمحوا لنا بكتابة المحاضرات، ولا يجوز لنا أن نقيد فى أوراقنا إلا اسم مرجع، أو سؤال نريد أن نسأله، أما أن أقيد ما يقوله الأستاذ وأحفظه، فهذا ما كان يرفضه طه حسين، وكان يقول لنا: اكتبوا المحاضرات مما استوعبته عقولكم، ولديكم المراجع فى مكتبة الجامعة، فكانت تربيته الجامعية لنا تربية عالية جدًا. ولذلك اعتبرنا قرار إخراجه من الجامعة كارثة، وقمنا بإضراب فى كلية الآداب شاركتنا فيه بقية الكليات والمدارس العليا.

ولكن طه حسين الذى تظاهرنا من أجله فى الثلاثينيات غضبنا منه فى الستينيات حينما قام بأول هجوم علنى على العقاد بعد وفاته من خلال ندوة تليفزيونية حضرتها، وقال فيها إنه لم يفهم «عبقرية عمر»، ولم نكن نعلم سوى أن العلاقة بين الأديبين الكبيرين هى علاقة مودة وإعجاب متبادل، فالعقاد يقدم لنا «دعاء الكروان» شعرًا، وطه حسين ينقده نقدًا جميلًا فى «الرسالة»، ويهديه «دعاء الكروان» نثرًا بإهداء مطبوع:

إلى صديقى الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد.

سيدى الأستاذ

أنت أقمت للكروان ديوانًا فخمًا فى الشعر العربى الحديث، فهل تأذن لى أن أتخذ له عشًا متواضعًا فى النثر العربى الحديث، وأن أهدى إليك هذه القصة تحية خالصة من صديق مخلص.

وفى مسرح الأزبكية اجتمعنا جميعًا، وجاء طه حسين وتوج العقاد «أميرًا للشعراء»، بعد وفاة شوقى وكتب مقالًا هزنا جميعًا من الأعماق، مقدمًا فيه حيثيات تتويجه للعقاد أميرًا للشعراء لأن العقاد ليس مقلدًا ولا يستطيع أن يقلد ولو حاول التقليد لفسدت شخصيته، وشخصية العقاد «فوق الفساد» كما قال طه حسين، فالعلاقة بين الاثنين كما رأيناها وسمعناها وقرأناها علاقة ممتازة، فماذا حدث حتى يهاجم طه حسين، العقاد بعد وفاته؟ لقد كان العقاد شخصية قوية مهيبة مخيفة فى حياته.

وقد اهتزت صورة طه حسين قليلًا بعد هذا الهجوم، فنحن نحب طه ونحب العقاد وقد هزنا ما قاله طه فى حق العقاد.

وفى الوقت الذى كان فيه العقاد كاتب الوفد الأول، وعلمت أن طه حسين كان عدوًا لسعد زغلول حزنت وغضبت وقلت لنفسی: یعنی یا دكتور طه بشعبيتك وعلـو فكرة الحرية عندك وأنت رجل من صميم الشعب، فأنت مرشح لكى تكون كاتبًا لسعد زغلول، فكيف تكون كاتب الأرستقراطية المصرية؟ هذه لم أفهمها، وربما كان مبعث ذلك علاقته الشخصية والفكرية بحزب الأحرار الدستوريين.

ولكن بعد إخراج طه حسين من الجامعة، تلقفه «الوفد» وبدأ يكتب فى صحفه ومجلاته، فبدأت أقرأ له ككاتب سياسى، رغم أنه كان كاتبًا سياسيًا من قبل، ولكننى لم أكن أقرأ له حينذاك حيث لم نكـن بعـد قـد تعلمنـا قـراءة الصحف، حتى بدأت أقرؤه ككاتب من كتّاب «الوفد» الكبار، ثم تتبعناه حتى صار مديرًا لجامعة الإسكندرية، ثم وزيرًا للمعارف فى وزارة «الوفد» الأخيرة، وكان هو الذى قرر مجانية التعليم فى المرحلتين الابتدائية والثانوية، وقال: إن التعليم ضرورة كالماء والهواء.

لكل هذا أرى أن طه حسين شخصية كبيرة متعددة الجوانب، تجد فيها الوزير المصلح، والمفكر الثائر، والأديب المتنوع الممتع، وله أسلوب خاص به مميز، لم تعرف «العربية» أيامنا أساليب مميزة بمثل هذه القوة سوى أسلوب طه حسين والمنفلوطى.

ورغم أننى أحببت طه حسين فإن طبيعتی کرجل منزوٍ، تجعلنى أحب من بعيد، يعنى مثلًا أنا أحب العقاد حبًا يفوق كل وصف وكنت أذهب إلى مكتبة «الأنجلو» لشراء الكتب وكنت أجده جالسًا يقلب فى الكتب، ولكننى لم أجرؤ أبـدًا على الاقتراب منه والتسليم عليه، مقدرًا انهماكه فيما هو فيه، فلم أضع يدى فى يده طوال عمره رغم إكبارى العظيم له واعتبار نفسى واحدًا من تلامذته. كذلك كان طه حسين، ولكن بعد الثورة وإنشاء «نادى القصة» دعاه المرحوم يوسف السباعى بعد أن اختاره رئيس شرف للنادى، وقدمنا جميعًا له، فسلمت على «طه» وبدأت معرفتی به، ولم يكن قد قرأ لى شيئًا أبدًا، ولكن المرحوم «أنور المعداوى» الناقد المعروف قال له: أنت كتبت عن يوسف السباعى وأمين يوسف غراب، وغيرهما ممن قرأت لهم، فاقرأ لنجيب محفوظ أيضًا، فقبلها طه حسين كنوع من الإحراج، فالرجل لديه قراءاته ومسئولياته، وقد كنت أهديه رواياتى كما أهديها لكبار أساتذتى ممن تتلمذت عليهم وأحببتهم وتأثرت بهم، وربما يكون طه حسين لم يهتم برواياتى فى البداية، ربما لأنه لم يكن يعرفنى، ومن غير المعقول أن يقرأ طه حسين كل رواية جديدة تأتى إليه، فلما تعرفت عليه فى «نادى القصة» وقدمنى له «المعداوى» ورجاه أن يقرأ لى، كان من حسن حظى أنه كان راضيًا عما كتبت، فقد قرأ لى أول ما قرأ «زقاق المدق» وكتب عنها مقالًا رائعًا، ثم كتب مقالًا آخر لا يُنسى عن «بين القصرين»، فقد عرض للرواية الأولى وقام بتحليلها وقال: إنها رواية تصل لمستوى الأدب العالمى، وكتب عن الرواية الثانية مشيدًا بما هو أكثر من ذلك.

لقد رفع طه حسين روحى المعنوية لدرجة لم أكن أتصورها، خاصة أن ذلك قد جاء بعد حرمان طويل من النقد منذ أن تناول أعمالى «سيد قطب» و«أنور المعداوى»، فمرت سنوات طويلة حتى كتب عنى طه حسين.

ثم حدث اتصال بيننا، ودعانى لمقابلته فى بيته فكنت أتردد عليه، أحيانًا أذهب إليه وحدى، وأحيانًا أذهب بصحبة ثروت أباظة، وفى هذه اللقاءات كان يدور حديث فى الأدب وفى السياسة، وكان يتبسط معنا، ولكن شخصيته كانت تفرض الأستاذية التى ربما لم يكن يحب أن يظهرها كى لا يضايق الناس بها، ولكنه رغم تبسطه معنا فإننا كنا نشعر بأستاذيته وهو يتحدث إلينا.

لقد كان رجلًا عظيمًا مضيئًا فى شخصيته، وفى إبداعاته ككاتب متعدد المواهب وفى ترجمته لأدب الإغريق ومؤلفاته الأدبية والعلمية، فمن ذا الذى يستطيع أن يجمع بين الفن والعلم ويجيد فيهما كما فعل طه حسين إلا أن يكون رجلًا عظيمًا.

وهذا الكتاب لإبراهيم عبدالعزيز الذى يضع فيه بين أيدينا وثائق وأوراق ومراسلات طه حسين مع نجوم عصره فى الأدب والفن والسياسة والقانون وغيرها من مجالات الحياة، هو كتاب يسهم بشكل كبير فى إضاءة شخصية طه حسين وتقريبها إلينا فى جميع صورها الإنسانية والنفسية، ويجعلنا نعيش مع رجل ملأ عصره ولا يزال يثير الجدل بعد رحيله، فنراه فى حالات القوة وحالات الضعف ونشاهده فى حالات التوافق وحالات التناقض، وكل ذلك وغيره مما تكشفه رسائله ورسائل الآخرين إليه، مما يجعلنا نحبه أحيانًا، ونغضب منه أحيانًا أخرى، نقترب منه بعض الوقت، ونبتعد عنه بعض الوقت، ولكننا فى كل الأحوال نعجب بطه حسين ونعجب، له ونحبه ونقدره باعتباره رمزًا من أبرز رموز النهضة الأدبية والفكرية فى القرن العشرين.

- مقدمة كتاب «رسائل طه حسين»تأليف إبراهيم عبدالعزيز