رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

انشغلوا بأمر التقدم يا ناس

سؤال: هل هناك مبرر لانشغال بعض المفكرين والكتّاب والباحثين بفكرة البحث عن هوية للمصريين وكأنهم شعب مسكين ضائع ملتاع بات لا لون له ولا طعم أو رائحة وينتظر من النخبة ذات التفكير الفوقي العولمي التنظيري التغريبي التجريبي المتسامي المترفع أن يختار له الهوية، وأن في هذه الهوية التي اختاروها له الحل الأمثل لتجاوز كل أسباب التخلف والقفز إلى دوائر النجاح والتقدم على بساط الريح في لمح البصر؟..
تُعقد الندوات وتتصاعد من الحناجر صرخات الغضب من حضارات وثقافات وافدة أو غازية غيرت من مواصفات أهل بلدي الطيبين ثم تخرج التوصيات العبقرية "لا تقويم ميلادي أو هجري بل مصري قديم"، وبعض آخر يصرخ "لا قومية عربية أو انتماء عروبي سياسي أو اقتصادي.. فالانتماء مصري ومصري فقط، لم نكن يومًا عربًا!!"..

والسؤال الثاني: هل الدخول في منازلات موسمية ساخنة بات لزومية حتمية تدفع في اتجاه إعادة التحاور كل فترة زمنية في القضايا التي يكون قد تم الحوار حولها ولا تدفع ولن تدفع في صناعة تقدم ما، لأن قطبي الحوار بات من المعروف قدر تعصبهما وتشددهما لرأيهما؟ 
ولعلنا في هذا السياق ندرك أهمية اعتبار الحصاد الهائل لمنتج العقل المصري بهذا الخصوص، ويمثل حراكا فكريا حقيقيا في الموضوع محل الحوار، فهل يمكن قبول الشروع في البداية من جديد بشكل موسمي مناسباتي دون مبرر إلا هدر الوقت والجهد؟
ولا شك أن الدراية والخبرة بموضوع الحوار وما استجد من متغيرات المحتوى الفكري للموضوع بوعي وإدراك مستنير لصالح تحقيق نتائج إيجابية بات أمرًا مطلوبًا، فضلًا عن عدم الوصول إلى رؤية علمية لمصلحة سياسية..

في هذا السياق يأتي الحديث عن الهوية الذي بات عنوانًا للحوار بشكل دائم وموسمي مناسباتي، ولعل ضيق الأفق الثقافي والاجتماعي والاقتصادي عند الحوار حول تعريفها على الأقل في البداية ومن ثم صعوبة الوصول إلى منطلقات معقولة لتحقيق نتائج إيجابية..
في زمن نشاط من أطلقوا عليها "الجماعة المحظورة (وما كانت محظورة) في اتجاه دعم الهوية كان رفع قياداتهم شعار "الإسلام هو الحل".. والحل لديهم تمثل في البنك الإسلامي والمدرسة والجامعة الإسلامية والاقتصاد الإسلامي... إلخ..
أيضًا أعلن بعض الأقباط من المتشددين في رحلة البحث عن الهوية عن أنه لا لغة إلا القبطية، وإذا كان يتم الاكتفاء بترديد بعض الصلوات بالقبطية للحفاظ على تلك اللغة العظيمة في تاريخنا في قداسات الأحد حتى لو لم يفهمها بعض المصلين، فإنهم يدعون الناس لأن يتحدثوها في منازلهم وحياتهم اليومية في تصور أنه بدون الالتزام بتلك اللغة باتوا بشرًا بلا هوية!!
ويتقعر المتقعرون فيصرخ أحدهم بتعالٍ: "مصر+ العرب أقل من مصر وحدها، العروبة تشتت جهدنا".. وينبري من يطلق على نفسه " الوطني المنتمي"  مؤكداً أن الهوية المصرية  أحد مصادر التقدم .. ثم يهب واقفاً المصري شديد الهوية كما يصفه أتباعه " الفكر العربي عنتري وكلام إنشائي ولا أفعال " ، ويذكر للحضور ذلك المصري الهوية المسلم المتدين " مصر ذُكرت في القرآن 5 مرات " فينبري القبطي المصري المتدين " لقد جابت العائلة المقدسة مصر من شمالها إلى جنوبها  .. مبارك شعبي مصر " ..
أما الفنان رقيق المشاعر صاحب الوجدان المصري الأصيل فهو يقدم للحضور مقترحا يراه عبقريًا " علينا أن نسعى لتقديم أسطورة إيزيس وأوزوريس في عرض سينمائي للتأثير في خيال الشباب لحب أمهم مصر " ..
ويقول عالم اللغات واللهجات الخبير في نظم التعليم أنه قد طالب بتدريس اللغة المصرية القديمة .. ثم يأتي دور المتابع لتجارب الشعوب في دنيا الهوية فينصح الحضور بدراسة التجربة الماليزية وشعارها " إسلامية وليست عربية " للتعلم منها أهمية فك الارتباط ما بين الإسلام والعروبة .. 
ثم في مشهد النهاية يقف صاحب الدعوة للحوار، مؤكداً أن قضية تمصير مصر لا تحتمل التأجيل أو التسويف أو المداهنة لأنها تتعلق بهويتنا التي يجب أن نعود إليها ونحافظ عليها .. 
أليس غريباً ومضحكاً أن ينفصل عن عالمنا مجموعة من البشر يديرون صالونات ثقافية وفكرية وندوات ومؤتمرات ويسطرون الآلاف من الأوراق المطبوعة والأخرى على صفحات الإنترنت للمناداة بالهوية المصرية والتي حددوا ملامحها في دوائر ضيقة خانقة عازلة ويتصارعون فيما بينهم، فبينما يؤكد البعض أن في العودة لتعاليم الأديان والتمسك بكل دعواتها النبيلة للبشر تتحدد ملامح الهوية المانعة الفاصلة للمصريين فيرى المتشدد القبطي أنها الهوية القبطية وأخيه المسلم في أنها الهوية الإسلامية، نرى على الجانب الآخر من يرون أن الزج بالأديان في موضوع البحث عن الهوية خطأ تاريخي وتخلف حضاري .. بل يصل الأمر بهم أن يروا في التمسك بتعاليم الأديان تحديدًا لملامح اجتماعية وسياسية تبعدهم عن تشكيل هوية خاصة تميز الشعوب ويسألون كيف يجمع المصري المسيحي في إحدى قرى الصعيد والفرنسي المسيحي في بلاد النور هوية واحدة ؟! أو كيف تكون لمسيحي فلسطيني أو عراقي يعيش زمن الاحتلال والهيمنة الأمريكية والرئيس بوش المسيحي هوية واحدة لمجرد الانتماء لعقيدة واحدة ؟!
وإلى هؤلاء وهؤلاء أود أن أطرح تلك الأسئلة :
• ألا يرون أن الانشغال بالبحث عن هوية حلاً هروبياً بدلاً من مواجهة كل أسباب التخلف بموضوعية في عالم بات يعيش في عصر العلم والتقنيات المتقدم في عودة مريضة للبحث عن الجذور حتى بتنا نتخيلهم يدعوننا للعودة للاحتفال بإله الشمس والجمال والنماء والخير فيعود لساكني الدلتا والصعيد في 2023 أسباب الجمال والنماء والخير بمجرد الاحتفال برأس السنة المصرية والاحتفاء باللغات القديمة وتدريسها ؟!
• ألا يرى دعاة البحث عن هوية هذه الهوية الأصيلة لشعبنا الذي مرت به حضارات وثقافات تباينت ملامحها وزمن وجودها وفاعلية تأثيرها فتفاعل معها وأخذ من بعضها وأمد الأخرى بفيض معارفه وذهبت عنه تلك الحضارات لكن صار لكل منها ملامح صبغت تركيبة المصري بهوية ثرية التكوين فسيفسائية التشكيل والنماذج النبيلة الجميلة ؟
• لماذا تكرار محاولات تحجيم الشخصية المصرية التاريخية والعودة بها إلى عصر ما أو عقيدة ما أو مساحة فكرية لحضارة ما هي محاولات معظمها محكوم عليها بالفشل لأن القرون والحقب التي حفرت في الوجدان المصري هذا التنوع التراثي الفريد الحميد كان ينبغي في عصر العولمة أن نبحث لهذا الشعب عن المزيد من الوسائل للتفاعل مع كل الدوائر المحيطة عربية أفريقية وشعوب إسلامية ومسيحية وحتى من لا دين ولا عقيدة لهم لأننا لا نملك تجاهل وجود أي منهم الفكري والحضاري وأن تداخل الحضارات والثقافات بات أمراً حتمياً يستحيل معه أن نجلس على مقاعد وثيرة في صالونات للفكر تباعدنا عن واقعنا ونطلق أحكاماً تتهم أصحاب الفكر القومي العروبي بالتخلف لأنهم ينسوننا هويتنا المصرية وكأن الهوية باتت لا يصنعها التاريخ والتراكمات الثقافية عبر أجيال وأجيال .. إنما يحددها أهل الصالونات عبر توصيات ومحددات يرسمونها للشعب المسكين بدعوى إحياء الهوية .. عن أي هوية يبحثون لشعب عبقري شكل ملاحم من النضال حتى لا تطمس هويته بعد أن آمن أن الهوية ليست في ملامح لباس معين يرتديه يميزه عن شعوب الأرض ، وليست في لغة لا يتحدثها سواه ، أو تراث محدود ينفرد به في عصر من العصور .. وإنما في انتماء قطري عبقري يتجلى في الملمات والشدائد وكان ينبغي أن يظل موجوداً لولا وجود حكومات بليدة لم تستثمر هذا القدر من التركيبة الفريدة للإنسان المصري ؟!
إن الشعب الذي خرج بكامله (نخبة وبسطاء) إلى الشارع يرفض تنحي الرئيس جمال عبدالناصر بعد هزيمة يونيو 67 وهو القائد المهزوم هو شعب لا ينتظر من يصيغ له هوية فقد قرأ ملامح الانتصار في زمن الهزيمة بفطرته وثقافته الوطنية الثرية ..
إنه الشعب العظيم الذي صنع نصر أكتوبر عبر أسطورة ملحمية لشعب له هوية جعلته يرفض الاحتلال ويؤمن بمصريته وعروبته وإسلامه ومسيحيته في احتشاد إنساني عبقري رفض فيه حتى الخارجين عن القانون ارتكاب الجرائم لدرجة خلت فيها دفاتر أحوال أقسام الشرطة من تسجيل لحالات سرقة أو فساد في زمن الحرب لاسترداد الأرض والكرامة المصرية ..
إنه الشعب العظيم الذي تحدى طغاة العالم عندما قرر بناء السد العالي مهما كان الثمن ومهما كانت التضحيات فكان السد المعجزة على أرض مصر الطيبة في إصرار يتسم بملامح عبقرية لم ينتظر فيها الناس في بلادي من يردهم إلى هوية بصياغة ما ..
إنه الشعب الذي قهر الإرهاب وزبانيته الجبناء وأسقط دولة المرشد واستدعى قواته المسلحة وقائدها البطل عبدالفتاح السيسي بخروج الملايين في 30 يونيو لبناء جمهورية جديدة بهوية حضارية هي حصاد مكتسبات شعب عظيم عبر التاريخ ..
ألم يقرأ هؤلاء وأولئك كتاب "الأعمدة السبعة " للمفكر العظيم الراحل د. ميلاد حنا وفعل الشرائح الحضارية التي شكلت في مجموعها هوية مواطننا المصري الرائع والمختلف؟!
وأخيراً يا من تبحثون عن الهوية لشعبنا.. الهوية تصنعها سواعد قوية مبدعة منتجة عرف أصحابها قدر مصر العظيمة وعبقرية شعبها الأصيل القادر على صناعة التقدم ..