رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مهرجان روتردام الدولى تعود له الحياة

بعد غياب ٣ سنوات عن انعقاده في الواقع فتحت قاعات السينما في روتردام أبوابها لعشاق الفن السابع والمتخصصين في المجال، وانعقدت أخيرًا فعاليات دورة عام ٢٠٢٣ والتي تحمل رقم "٥٢" لمهرجان عريق حرمته الجائحة العالمية من الاحتفال بخمسين عامًا من البهجة والحلم والسينما، ليعود المهرجان لرواده في الواقع.
هكذا تحدثت مديرة المهرجان المخرجة (فانجا كولودجيرسك) ليلة افتتاحه بحماسة وسعادة غامرة واستشراف لدورة متميزة وعودة الحياة للسينما وقاعاتها في مدينة السينما في هولندا مدينة (روتردام) بعيدًا عن العوالم الافتراضية، وانتهت وللأبد عبارة (online) التي رُفعت طوال عامين من زمن كورونا اللعين، والذي أوقف الحياة وأوقف السينما، والسينما حياة بل حيوات نراها مجسدة أمامنا على شريط هو وثيقة للتاريخ سواء كان العمل دراميًا أو وثائقيًا، فالسينما ذاكرة لا تنمحي وتبقى الأفلام شاهدة على زمانها وصناعها.
وهكذا رأينا سيرة ذاتية مجسدة أمامنا على الشاشة في فيلم افتتاح دورة مهرجان روتردام الدولي لعام ٢٠٢٣، والذي افتتح بفيلم نرويجي عنوانه "munch"، والذي يسرد من منظور مخرجه ومنتجه "هينريك داليسباكين".
حياة الفنان التشكيلي النرويجي الشهير "إدوارد منش"، الذي نبذه الفن ولم ينصفه النقاد ولم تنصفه المؤسسات الفنية في حياته وطوال تاريخه الفني ووصفت إبداعاته بالعادية والساذجة أو البسيطة التي تخلو من العمق أو الفلسفة العميقة، بعبارة أدق كان ينقصه "هوس العمق" الذي يميل إليه غالبية المتحذلقين الذين تعاملوا مع الفنان وإبداعاته باستهتار، وأحيانًا بنوع من التعالي بل والتنمر الذي تسبب له حتمًا ليس فقط بالتعاسة بل حطم طموحه وطاقته الإبداعية.
فالفنان النرويجي العالمي كان مرهف الحس كغالبية الفنانين ممن ولدت لديهم الموهبة من رحم الأحزان وقسوة الحياة والتجارب والظروف الحياتية التي وضعوا فيها، ولنا في "فينسنت فان جوخ" مثال حي وصارخ على تلك المعاناة التي أبدعت لنا فنًا يعيش بيننا للآن ولقد عانها النرويجي "munch" طوال حقب حياته الثلاث، ففي طفولته رحلت أمه ثم شقيقته ففقد رهافة وحنان الأنثى في حياته، وتعامل والده معه بقسوة ثم خذلته حبيبته الأولى وتنكرت له بلا مبرر، فدفعه كل ذلك للإدمان ووضِع في مصحة نفسية بعد تراكمات وإحباطات رغم أنه واحد من أشهر التشكيليين على مستوى العالم، وجاء الفيلم ليعيد الاعتبار للفنان العالمي ويذكرنا به وبإبداعاته، وهو نوع من التكريم له وثقته السينما وعرضت لوحاته في نهاية الفيلم ليبقى كل ذلك في عهدة التاريخ، خاصةً وأنه خاض معركة كبرى مع النازيين لإنقاذ أعماله ولوحاته من أياديهم، ناهينا عن رفض برلين لاستضافة معرض له في بداياته واستقر به الحال في أوسلو ليموت وحيدًا دون زوجة أو أطفال.. وجاء القسم الأول من الفيلم حيويًا عذبًا أخذنا معه بعيدًا لنعيش مع (منش) طزاجة البدايات وتفتق الموهبة والتجارب التي مر بها الفنان حتى وصلنا للحقبة الثانية، حيث بدأت معاناته مع المؤسسات الفنية وجماعات النقد حتى وصلنا للمرحلة الأخيرة من حياته والتي امتازت بالكثير من الرتابة والملل ليس فقط على مستوى الأحداث بل الإيقاع ذاته، وكأن أفول الحالة الإبداعية لدى الفنان وانعزاله أثر على حيوية الصورة وحركة الكاميرا فجاءت رتيبة ومتماشية مع حالته هو، لكن تسرب ذلك أيضًا للمتلقي وانتابه ذات الشعور بالملل والأفول حتى جاءت نهاية الفيلم باهتة لا تتناسب مع بدايته ولم تكن مسك الختام لسيرة فنان كبير أرادت السينما إنصافه خاصةً بعد رحيله.
وضمن فعاليات المهرجان شاهدت فيلمًا مغربيًا لمخرجته "ليلى الكيلاني" التي عاشت وعملت في مصر لسنوات، وشاركت عام ٢٠١٢م في فعاليات مهرجان روتردام الدولي بفيلمها "الحافة" وها هي تشارك هذا العام بفيلمها الجديد في عرضه العالمي الأول في مهرجان روتردام الدولي وهو فيلم (أرض الطير)، والذي يمزج المعاصرة بالتراث، فنرى الفتاة الصغيرة في الفيلم وقد أدمنت كغالبية جيلها التعاطي مع السوشيال ميديا ركضًا وراء الترند والشهرة والتواصل عن بعد مع أغراب لا تعرفهم فيصبحون جزءًا من حياتها بل عائلتها الصغيرة ويضطلعون على تفاصيل وخصوصيات تلك العائلة، والتي جعلتها الفتاة مشاعًا على السوشيال ميديا كنوع من الهوس بها وباللايف الذي يصنع حيوات موازية ويجعل حيواتنا مشاعًا للآخرين ممن لا يهمهم أمرنا ولم يرونا في الواقع ولن يرونا ورغم ذلك يشتبكون مع أدق تفاصيلنا الحياتية! وتعاون الفتاة في ذلك خادمة المنزل والتي شكلت مع الطفلة الصغيرة عقلًا شريرًا مدبرًا للمكائد والشر والحرائق التي ورطت فيها أسرتها وجدتها المسنة.
ومن خلال ذلك اللايف والترند قطعت الروابط التي تربط العائلة ببعضها البعض ودب الخلاف بينهم وتعرى الجميع أمام الأغراب بعد أن صاروا مشاعًا لمن لا يعرفونهم ولم يروهم ومن ثم صار لهؤلاء الحق في التدخل في شئون العائلة وإبداء الرأي، وهكذا هو الحال دومًا مع كل ما يحدث ونراه على السوشيال ميديا، واستدعت مخرجة العمل التراث بكثرة في فيلمها وعادت بنا ليس فقط لطقوس وأغاني الأعراس بشكل جاء موظفًا في الفيلم، بل عادت لتيمات كانت قد انتهت منذ زمن ولم تعد مطروحة في السينما المغربية الجديدة التي تخلصت نهائيًا من تابوهات التراث والخرافة والسحر ولم نعد نسمع عن خرافة "عيشة قنديشة" و"الراجد" وغيرهما من الأمور التي الصقت عمدًا بالثقافة المغاربية ولم يعد لها وجود في السينما المغربية المعاصرة، التي قطعت شوطًا هائلًا في السنوات الأخيرة وانفتحت على آفاق أكثر جدية وواقعية ونضج بفضل دعم الأسرة الحاكمة للسينما بشكل مباشر، ومن خلال كيان يعمل بجدية كبيرة تحترم وهو المركز السينمائي المغربي.
وهو الكيان المنوط به دعم إنتاج السينما في المغرب وتسخير كل الإمكانيات من أجل ذلك ونرى اسمه واللوجو الخاص به على كل فيلم تنتجه المغرب حرفيًا، فالسينما المغربية ترعاها الدولة بشكل مباشر وكبير، ولذلك تقدمت وتطورت ووصلت إنتاجاتها للعديد من المهرجانات العالمية، وبالتالي أتيحت الفرص للصناع والمبدعين لنسج أعمالهم بدعم ورعاية كبيرة.
لذلك لم أكن أتمنى أن تعود بنا المخرجة لخرافة وتيمة "عيشة قنديشة" التي مللناها وتجرعناها ووصمت بها السينما المغربية طوال سنين، وهي تيمة كان يفضلها الإنتاج المشترك الذي يميل فيه الغرب دومًا لرؤية الشرق من منظوره الخاص ويختزله في الخرافة والسحر والتراث، وكأنه لا يوجد لبلدان الشرق سوا تلك التيمات! بل وكأن حيوات الناس في الشرق والمغرب بالتحديد ليست كحيوات غيرهم من البشر وكأنهم لا يعانون في واقعهم، مما يعاني منه الإنسان في أي مكان على سطح هذا الكوكب الذي صار بفعل وسائل التواصل المتعددة التي تحاصرنا ليس فقط كالقرية الصغيرة بل وكأننا نعيش جميعًا في بيت واحد يقل بداخله جميع سكان الكوكب!.
ثم عرض في مسابقة المهرجان العمل الأول للمخرج الألماني الشاب "لوكاس ناثراث"، والذي تخرج فى مدرسة السينما في ألمانيا هو ورفاقه فأقدموا على مغامرة لم تكن محسوبة لكن النتيجة جاءت مرضية وللغاية، وشاهدنا فيلمًا جيد الصنع محدود التكلفة صور في منزل واحد في زمن الكورونا بمشاركة مجموعة من الزملاء والأصدقاء الذين تعاونوا سويًا وتحمس لهم منتج شاب، وها هي النتيجة فيلمًا متكاملًا يشارك بعرضه العالمي الأول في مسابقة مهرجان روتردام الدولي العريق تحت عنوان "letzter abend" وتيمته قريبة الشبه من فيلم "perfect strangers"، إذ يتعرض لمجموعة أصدقاء ينضم لهم أغراب ويجتمعون سويًا في زمن الكورونا على مائدة واحدة، فتتكشف العلاقات ودواخل كل منهم أكثر وأكثر، فيقترب البعض من بعضهم البعض ويحدث أيضًا العكس، إذ تنتهي العلاقات الهشة التي لم تبنى على أساس قوي أو متين، وكأن الكورونا قربت البعض بحكم ذلك الظرف الطارئ دون أن تكون هنالك حقًا مشتركات بين من جمعتهم كورونا تدفعهم بشكل حقيقي لاستكمال الحياة سويًا.
وهو فيلم إنساني بسيط الحوار فيه جاء تلقائيًا يعتمد على ارتجالات الممثلين ويخلو تمامًا من أي تكلف أو ادعاء، بعبارة أدق صنع بحب ويعتبر من أوائل الأعمال التي أشارت لتأثيرات جائحة كورونا على حيوات الناس وعلى الحياة عمومًا.
أما الفيلم الروسي "سكاسكا" أو "fairytale" والذي يمكن اعتباره فيلم "animation" لمخرجه "Alexander sokurov" رغم أنه غير ذلك تمامًا فهو فيلم فانتازي جعل ليشاهده الكبار لا الصغار، وهو إنتاج فرنسي إيطالي ياباني شاركت فيه أيضًا هونج كونج، وهو من إنتاجات عام ٢٠٢٢ وكان عرضه العالمي الأول في مهرجان لوكارنو، ويبدأ الفيلم بمشهد لستالين وهو يرقد في قبره ويتحدث قائلًا إنه يشعر بالبرد والجوع ويشتم رائحة كرائحة النبيذ المعتق ويتعجب من أن وزنه قد زاد رغم أنه لا يأكل، وعندما يقوم من قبره يجد بجانبه المسيح وهو يتألم وينتظر أباه وحيدًا ولا ينضم لبقية المجموعة التي تظهر تباعًا.. ففجأة يظهر هتلر في المشهد وهو ينادي على ستالين ويصفه بعنصرية مقيتة فيردد طوال الفيلم عبارة "اليهودي القوقازي"، ثم يظهر في المشهد كذلك موسيليني وهو يسأل ستالين عما قاله لينين بشأن إبادة الألمان فيرد عليه ستالين بسخرية قائلًا له (لينين تحدث عن أشياء عديدة) وهكذا يجتمع خمسة من الساسة ممن أسسوا للديكتاتورية والحكم الشمولي ووصموا السياسة بكل ما هو سيئ وقبيح وشرير، أما المسيح فوحده من كان يتألم ولم يحرك ساكنًا ولم يشتبك أو يشترك مع هؤلاء في أي شيء بل كان في انتظار أبيه ولم ينضم لهؤلاء الأشرار القتلة.
وفي مشهد من مشاهد الفيلم نرى نابليون يسأل ستالين إن كان قد قرأ لفولتير؟ فيجاوبه ستالين وهل قرأت أنت لـ"لينين" رغم أن ستالين لم ينصت لحديث وخطاب لينين وحاد عن مساره وخطابه الإنساني الأممي الإصلاحي في بيانه الشيوعي السوفيتي الشهير الذي رسخ لنظرية مثالية طبقت عمليًا بشكل خاطئ أساء للفكرة ومن ثم قضى عليها نهائيًا.
أما الرأسماليون من أمثال تشرشل فلم يكن أقل شرًا بل يمكن اعتباره وبمنتهى الأريحية أصل الشرور والتبجح والتعالي، وبدا تعلقه الأبدي بملكته التي يراها لا تغيب كما أرضها الاستعمارية التي لا تغيب عنها الشمس.. فنراه في مشهد في الفيلم يحاول إقناع بقية الديكتاتوريين ليتحدثوا مع الملكة للتنسيق معها ومع أصدقائهم الأمريكان لحرق روما! ودومًا ما كان يتلقى اتصالاتها "أوامرها" فهي من تتحكم في الكوكب من منظورها الخاص، حتى أنه تحدث للإله منفردًا قائلًا له سأجعل الملكة (وكأن لها صفات ألوهية) بل وكأنها ند للإله كي تتحدث معه وتتصل به وربما تعتقد أنها تستطيع أن تدير معه صفقة أو اتفاق لحكم الكوكب أو بعبارة أدق تخريبه! فيجاوب الإله تشرشل بسخرية قائلًا له نعم دعها تتصل بي! فالآلهة دومًا على اتصال ببعضهم البعض، وهكذا كان يرى تشرشل ملكته ومملكته!
وبالتالي فالفيلم يسخر ويدين هؤلاء الساسة الخمس ويسخر من الساسة في العموم ويجعل من قصتهم قصة خيالية تصلح لأن تُروى للأطفال، فهم مجموعة من الحمقى جاءوا ليخربوا الأرض وينشرون الشر في العالم، أما المسيح فوحده من كان يتحمل كل هذه الآثام والآلام في انتظار أبيه إلهنا الواحد الذي يؤمن به المؤمنون، وهو وحده دون غيره من يستحق أن نقول له "آمين".. وفي ختام تلك التغطية أود زف خبر مشاركة الفيلم المصري "كيرة والجن" في مسابقة المهرجان الدولي العريق، ولعل ذلك يفصح أو يدلل على شيء ما في هذا الفيلم.
لم تستطع لجنة اختيار وترشيح فيلم مصري لمسابقة الأوسكار أن تراه! فحجبت ترشيحها لفيلم مصري يمثل مصر في الأوسكار! وهذا ما قد يمنحنا جميعًا درسًا في طريقة التعامل مع إنتاجاتنا من الأفلام لاحقًا.. خصوصًا الأفلام التي تتعرض للغبن ولا يمنحها النقاد صك القبول.