رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى انتظار جولة جديدة من معركة الوعى

أسابيع قليلة، ويهل علينا شهر رمضان الكريم، وتبدأ معه معركة الدراما الوطنية، الزاد الذي بات المصريون ينتظرونه منذ ثلاثة أعوام، بعدما قررت الدولة المصرية، مُمثلة في الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية التصدي للزيف الذي مارسه الإخوان عبر قنواتهم ومواقعهم على شبكات التواصل الاجتماعي، من خلال مسلسلات تقوم على تصحيح الواقع، وإعادة الوعي المفقود، بالقيم الوطنية الأصلية.
إذ إن الضربة الكبرى في الدراما الرمضانية تكمن، كما يقول الباحث السياسي إيهاب عمر، «في المناقشة والرد على مرجعيات المظلومية الإخوانية أو المظلومية الشعبية التي صنعها الإخوان، سواء عبر جماعتهم أو باقي تنظيمات الإسلام السياسي التي تعمل تحت عباءة مكتب الإرشاد، وحتى عبر الظهير المدني للإخوان في التيارات اليسارية والليبرالية والحقوقية، في اشتباك حاد لم يعتده حتى أولئك الذين امتلكوا ناصية تشكيل الوعي الجمعي المصري، طوال أربعين عامًا من غياب دور الدولة في تنظيم وضبط إيقاع قطاعات الصحافة والإعلام والتليفزيون والسينما والفكر والثقافة والوسط الأكاديمي، حتى نجحت المؤامرة في مصادرة القوى المصرية الناعمة، وأصبحت قوى ناعمة في أرصدة المؤامرة وخنجرًا في ظهر الشعب المصري في أحلك الأوقات».
أستاذ علم الاجتماع السياسي، سعيد صادق، يؤكد أن «قوة الدراما تكمن في الرسائل القوية المُقنعة السهلة التي تؤثر في الرأي العام، والتي هي أسرع وأعمق من أي مقالة أو كتاب».. وبناءً على ذلك، يمكن فهم تأثير مسلسل «الاختيار» ـ مثلًا ـ في كسب دعم الرأي العام، وكذلك تسببه في هذا الكم المذهل من انتقاد الإعلام الإخواني المكرر والسريع لمثل تلك المسلسلات القوية، وهذا يثبت أهمية الدراما.. ويعتبر الباحث إيهاب عمر أن «الدراما الوطنية» كسرت حلقة الهيمنة الإخوانية المفرغة لقدرة السرد وقوته، فهي «تأتي بعد سنوات من الحق الحصري للإخوان وظهيرهم المدني، في سرد التاريخ وروايات الواقع وتوزيع صكوك الوطنية والخيانة والثورة والدين، على الرئاسة والجيش والشرطة والنيابة ورجالات الدولة، وحتى المواطن الرافض للانخراط في دروب الإخوان وظهيرهم المدني».
المؤشرات الأولى لضلوع الدولة عبر «الدراما الوطنية» في رمضان أكدت أن المساحة الفارغة في معركة الوعي، وإخفاق أو مقاومة أو حاجة المؤسسات الرسمية الأخرى لمزيد من الوقت، لتتمكن من إحراز أهداف في مباراة الوعي، ستملؤها الدراما الوطنية، بشكل أو بآخر.. الكاتب الصحفي أحمد رفعت، يلفت الانتباه إلى دور الدراما «المُكّتَشف» حديثًا لاستعادة ما فقده المصريون من وعي وثقافة وهوية، بقوله إن «الدراما لديها القدرة على فعل الكثير في معركة الوعي، وأن العمل الفني يؤدى فعل عشرات، بل مئات الكتب والمقالات والندوات والمحاضرات، وهو التأثير نفسه الذى يدركه إعلام الشر «الإخوان»، ولذلك فدائمًا ما يبدأ هجومه المبكر، في محاولة لتشويه هذه الأعمال وإشاحة الأنظار عنها».. وفي المقابل، هناك من يرى أن مهمة الدراما تختلف عما يتم تقديمه في الدراما الوطنية.
وتبقى «الضوابط» مثار اختلاف في وجهات النظر حينًا، ونقطة تَصّيُد يستغلها أنصار جماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة الإخوان، ومهمة تقتصر على التعليم والثقافة وليس السياسة أو الدراما، وتبقى كذلك معركة الوعي مثار شد وجذب بين توجهات عدة في المجتمع المصري، حيث الإصرار على خلط الدين بمفاهيمه المختلفة، بين جماعات إسلام سياسي ومؤسسات دينية رسمية بالسياسة حينًا، وتخليص الاشتباك حينًا وتطويل أمد الاشتباك أحيانًا، إذ تعثر تطوير التعليم ومقاومة التجديد وتربص المتربصين.
تضرب الدراما الوطنبة عدة عصافير بحجر درامي واحد، فمن عوار في مفهوم الوطنية وتحوله إلى معنى منافس للدين، إلى خلل ضرب قيمة الانتماء للثقافة المصرية، إلى تمكن للتطرف والتشدد الديني من مفاصل التفسير وسطوة لرجال الدين ومنافسة لرجال الدولة، تدق دراما رمضان المُؤَرِخة لأحداث العقد الماضي على وتر معركة الوعي، بعد تعثرها المتكرر، بقصد أو من دون قصد.
من مر على مصر أو قرأ أخبارها وتابع أحداثها، يعلم أن معركة شد وجذب حامية الوطيس تدور رحاها بشكل واضح، لكنه غير مباشر، وبأسلوب حاسم يصل أحيانًا إلى درجة التجاذب العنيف.. فمنذ تَفجُّر أحداث يناير 2011، وما تبعها من أحداث وحوادث جِسام، كشفت عن حجم توغل وتغول جماعات الإسلام السياسي، ومعها المد الديني المتطرف، الذي وصل إلى العديد من أجهزة الدولة ومفاصلها، وجهود تُبذل على استحياء لاستعادة الوعي المصري، واستمالة عقول وقلوب الملايين، التي تُرِكت نهبًا لقيل تفسيرات دينية متشددة، وقال ثقافات تكفيرية متطرفة.. شد وجذب مكتومان تدور رحاهما في المجتمع المصري منذ تقلد الرئيس عبد الفتاح السيسي مقاليد السلطة.. فالسلطة السياسية، متشابكة ومتداخلة على مر العصور، مع السلطة الدينية التي كانت «رسمية» فقط، حتى تاريخ تأسيس جماعة الإخوان عام 1928، حين بدأت السلطة الدينية الرسمية نفسها في التداخل والتشابك مع السطوة الدينية المتغلغلة في أرجاء المجتمع المصري.. وقبل سنوات، طالب الرئيس السيسي بتجديد الخطاب الديني، وتطهيره مما علق به من شوائب التطرف والتشدد والجمود والأفكار المغلوطة، التي تؤدي حتمًا إلى إرهاب باسم الدين، وانبهر البعض بمطالبة الرئيس للأزهر ومؤسسات الدولة الدينية الإسلامية الرسمية القيام بالمهمة، إذ «لا يعقل أن مفردات وآليات كان يتم التعامل بها من ألف سنة، تكون صالحة في عصرنا»، ما استُشِف معه مقاومة شديدة واستمساكًا رهيبًا بالغمامة الثقافية الدينية التي ظللت البلاد على مدى نصف قرن.
إن جهود تعديل المسار واستعادة الهوية المصرية، حيث الوسطية في التدين والعقلانية في الاختيار والمطالبة بتجديد الخطاب الديني، جزء من معركة الوعي التي تحوي تطويرًا في التعليم، وتحديثًا في الثقافة واهتمامًا بالرياضة، ورفعًا من شأن الأوضاع الاقتصادية للجميع، وكل منها مُعضلة تحتاج سنوات لحلها، لا سيما في ظل هيمنة رُهاب التغيير ومقاومة التحديث.. وعلى الرغم من التغيرات الجذرية والتحولات الجوهرية التي طرأت على الشخصية المصرية، بفعل تقلبات الوعي الحادة، إلا أن القاعدة العريضة من المصريين ظلت عاشقة للدراما متيمة بالسينما والمسلسلات.
الباحث السياسي إيهاب عمر، يؤكد، في دراسة نشرها المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، تحت عنوان «الدراما الوطنية تُطارد فلول الوعي الزائف»، إن الدولة المصرية منذ الثلاثين من يونيو 2013، عزمت على تصفية خطاب المؤامرة وروافده وفلوله، وأنها بحثت عن قنوات الاتصال اللازمة للتواصل مع الشعب المصري عبر سنوات، بين تحديث صفحات الدولة المصرية وتدشين نشرات أخبار وبرامج «توك شو»، تقدم التوعية الوطنية جنبًا إلى جنب مع فقرات الترفيه، حتى لا يكون المحتوى أشبه بنص حكومي صارم، «إن مصر، بعد سنوات من العمل عبر منصات التواصل الاجتماعي والصحافة والإعلام، وجدت ضالتها في الدراما الوطنية».
وإذا كانت دعوات تجديد الخطاب الديني وتنقيح المحتوى الثقافي، واعتناق أفكار ومفردات تناسب القرن الحادي والعشرين، قُوبلت بمقاومة عنيفة كامنة ورفض رهيب ساكن، لا سيما أن جانبًا منه ينبع من مؤسسات رسمية، فقد تحول شهر رمضان إلى منصة مساهمة في معركة الوعي وتجديد الخطاب، عبر عدد من الأعمال الدرامية التي مزجت بين تجديد الخطاب الديني، وتسليط الضوء على الفرق بين التدين والتطرف والالتزام والتشدد وقبول الاختلاف ورفض الآخر، إضافة إلى فضح تاريخ وأجندات ونيات جماعات الإسلام السياسي، مع جرعة تأريخ سياسي معتبرة، اشتملت على توثيق عدد من الهجمات الإرهابية التي شهدتها مصر، في أعقاب ثورة الإرادة الشعبية على حكم جماعة الإخوان عام 2013، واستهدفت قوات من الجيش والشرطة والمدنيين الأبرياء.. وتصدت لتلك المهمة مسلسلات من نوعية «هجمة مرتدة»، «القاهرة ـ كابول»، «العائدون»، و«الاختيار» بأجزائه الثلاثة، وغيرها.. وحققت هذه الأعمال نسب مشاهدة غير مسبوقة، وأقبل الجميع باختلاف الأطياف والتوجهات والانتماءات على المتابعة وإن اختلفت الأسباب والنِيّات.. هذا النجاح المُعضد بقناعة باتت راسخة لدى صُناع القرار، بأنه لا مفر من ضلوع الدولة في معركة تجديد الخطاب الجامد، وعلاج جروح الانتماء وتضميد قيم الوطنية المهدورة، أدى إلى قناعة الدولة المصرية، بأن بداية الطريق تدل على سلامة نهايته.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.