رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وثائق وأسرار معركة «المهاجر» (3)| هكذا انتصر يوسف شاهين على الجميع

يوسف شاهين
يوسف شاهين

تظلم «المهاجر» إذا اعتبرته وصنّفته على أنه مجرد فيلم سينمائى، حتى لو خلعت عليه كل أوصاف الروعة والسحر، ذلك لأنه أكبر من ذلك وأخطر، ولا نبالغ عندما نقول إنه تجاوز فكرة العمل السينمائى، وتحول إلى معركة طاحنة اختلطت فيها السينما بالسياسة وبالمقدس الدينى، وأثارت من الصخب ما جعلها تسرق الأضواء والاهتمام حينها من قضايا مصيرية، وتجاوزت أصداؤها الحدود المصرية وراحت العيون فى العالم العربى والغربى تتابعها باهتمام وشغف، وتترقب وتترصد تطوراتها وفصولها وجلسات المحاكمة ومصير الفيلم وصاحبه.. بل مصير وطن كان يخوض معركة حياة مع طيور الظلام.

وفى العام ١٩٩٧ عُرض «المهاجر» لأول مرة تليفزيونيًا، ولم يكن الأمر مجرد عرض تليفزيونى أول لفيلم سينمائى، بل كان نهاية لمعركة شرسة خاضها مخرجه يوسف شاهين، حارب فيها على جبهات عدة، وفى مواجهة خصوم شتى، كلهم تكتلوا لمنع الفيلم ومصادرته، ووصل النزاع إلى ساحات المحاكم، حتى نجح فى الانتصار لفيلمه وظهر للنور. وبعد مرور ربع القرن على نهاية هذه المعركة نتصور أنها تستحق قراءة جديدة ورؤية مختلفة، ونتصور أن «المهاجر»- الفيلم والقضية- لم يبح بعد بكل أسراره، ويحتاج إلى جهد حقيقى فى التنقيب عنها والكشف عما خفى منها، وتقديم صورة كاملة عن الفيلم الذى أقام الدنيا وشغل الناس وتسبب فى تغيير القوانين فى مصر.

 

محامى المخرج العالمى يتكلم ويكشف أسرار المعركة القضائية

... والآن: كيف إذن خاض شاهين معركة فرضت عليه للدفاع عن فيلمه وحلمه؟

إننا ننفرد هنا بتلك الشهادة الوافية المليئة بالتفاصيل والأسرار والوثائق، التى ترد على لسان المحامى الشاب- حينها- الذى اختاره المخرج الكبير وأوكله للدفاع عن «المهاجر» فى المحاكم وساحات القضاء، فلنستمع إلى ما قاله ناصر أمين: 

من بين عشرات من كبار المحامين الذين كانت تزخر بهم مصر يومها اختارنى يوسف شاهين لأكون محاميه، كانت قناعته أنه يتوجه بفيلمه إلى الشباب، ومن ثم فإن على الشباب أن يتولوا مهمة الدفاع عنه.

وأحسست بوطأة المسئولية منذ الجلسة الأولى أمام محكمة القضاء المستعجل، وقدمت دفوعًا شكلية وأخرى موضوعية، وأما الشكلية فكان من حق المحكمة أن تتجاوزها، لكن الدفوع الأخرى المتعلقة بما نسميه قانونيًا بالنظام العام، فقد جرى العرف أن تدرسها المحكمة، وبما أننى قدمت نحو سبعة دفوع معتبرة، فقد تصورت أن المحكمة ستقوم بتأجيل الحكم لدراستها والرد عليها لجلسة تالية، لكننا فوجئنا برئيس المحكمة عقب الجلسة يطلب المحامين إلى غرفة المداولة، وبعد حوار سريع أصدر حكمه بوقف عرض الفيلم ومصادرته النيجاتيف وتنفيذ الحكم بمسودته، وخلال دقائق كان المحامى صاحب الدعوى يحصل على نسخة من الحكم ويتجه بها فورًا إلى مكتب يوسف شاهين لإعلامه رسميًا بالحكم ولإيقاف عرض الفيلم، ولكننا نجحنا فى النهاية بعمل استشكال لوقف تنفيذ الحكم. 

لم أكن أنا ولا يوسف شاهين أكثر المصدومين من الحكم، بعد أن تكشفت أمامنا التفاصيل التى كانت تشير بوضوح إلى أن الموضوع أخطر مما قدرنا، وأن هناك مؤامرة ما تستهدف الفن المصرى كله.. فقد تسبب الحكم كذلك فى «هزة» داخل الدولة وأجهزتها، ونبهتها إلى حقيقة مفزعة وكاشفة، وهى أن «الإرهاب» قد كسب جولة فى صراعه مع الدولة المدنية، وأن «المهاجر» لم يعد مجرد فيلم، بل معركة وقضية ينبغى ألا تخسرها قوى التنوير.. 

وقتها- فى منتصف التسعينيات- كانت مصر تخوض حربًا ضد الجماعات الإرهابية، وكان تيار الإسلام السياسى يضرب بقوة ويتغلغل بجرأة داخل المجتمع وقطاعاته ومؤسساته، ويحاول أن يفرض أفكاره الرجعية بالقوة، بالسلاح أحيانًا كما فى محاولة اغتيال نجيب محفوظ، أو باستغلال القانون كما حدث فى دعاوى الحسبة التى طالت مفكرين ومبدعين، ولا يمكن أن ننسى ما حدث للدكتور نصر حامد أبوزيد وقضية التفريق بينه وبين زوجته، والدعوى التى أقامها الداعية السلفى الشيخ يوسف البدرى ضد د. جابر عصفور وأحمد عبدالمعطى حجازى وجمال الغيطانى وغيرهم من الكتاب والمفكرين، بل ضد أفيش فيلم «طيور الظلام» بدعوى أن صورة الفنانة يسرا تثير الغرائز وتحرض على الفجور.. وبات كل صاحب فكر حر معرضًا للسجن والغرامة وواقعًا تحت طائلة قانون الحسبة، الذى كان يعطى لكل من هب ودب الحق فى إقامة الدعاوى القضائية ضد من يخالفونهم فى الرأى والتوجه.

وتسبب الحكم فى قضية «المهاجر» فى تنبه الدولة لهذه المادة الكارثية، وأعنى بها المادة الثالثة فى قانون المرافعات المدنية، وإذا لم تخنى الذاكرة فقد كان مجلس الشعب حينها فى إجازة برلمانية، ولأن الأمر لا يحتمل تأخيرًا فقد صدر قرار بقانون بإدخال تعديل على هذه المادة التى استغلها محامو تيار الإسلام السياسى فى إقامة دعاوى الحسبة، يمنع إقامة هذه الدعاوى إلا لمن له مصلحة شخصية ومباشرة فى القضية.

وبإضافة كلمة «مباشرة» إلى القانون، فإن هذه الكلمة المفردة سدت أبواب الجحيم التى كانت مفتوحة على المفكرين والمبدعين المصريين، وهى التى أنقذت يوسف شاهين وفيلمه كما سنتابع من سياق الأحداث وتطورات القضية.

جلسة محاكمة تاريخية انتقلت فيها المحكمة لمشاهدة الفيلم

الاهتمام الإعلامى الهائل الذى حظيت به قضية «المهاجر» بعد الحكم بمنع عرض الفيلم ومصادرته، سرعان ما حولها إلى قضية رأى عام، وتسابق نجوم الفن والإبداع والصحافة والثقافة إلى إعلان تضامنهم مع يوسف شاهين، وأمام ضغوط من دائرة أصدقائه المقربين ونصائح العارفين اضطر إلى أن يرضخ لمطلبهم بأن يوكل الدفاع عنه إلى شيخ المحامين ونقيبهم يومها الأستاذ أحمد الخواجة، وحاول شاهين أن يواسى محاميه الشاب فهمس فى أذنه مشجعًا: «لن أستغنى عنك».. واتخذت القضية أبعادًا جديدة ومسارات مختلفة، لكن المقادير شاءت أن يكون ناصر أمين هو فى النهاية محامى شاهين وصوته فى المحكمة.. 

ولنواصل الاستماع إلى شهادة ناصر أمين التاريخية:

«كان أصدقاء (جو) يرون أنه يغامر ويقامر بفيلمه وقضيته عندما أسندها لمحامٍ شاب مثلى، فى حين أن مكتبه مثلًا لا يبتعد سوى خطوات عن مكتب الأستاذ لبيب معوض، الذى اكتسب شهرة فى وقتها بوصفه محامى نجوم الفن والمشاهير.. وأمام الضغط استجاب ووافق على أن يتولى أستاذنا أحمد الخواجة الدفاع عنه، وقدرت له هذا الظرف، وكنت أظن أن مهمتى انتهت عند هذا الحد، لكنى فوجئت بشاهين يشترط أن أكون معه فى زيارته الأولى لنقيب المحامين وأن أتولى أنا تقديم ملف القضية له وأن أشرح له ملابسات الحكم، وذهبت معه بصحبة مساعده خالد يوسف وشخص آخر لا أذكره، ولم يمانع الأستاذ الخواجة فى طلب شاهين بأن أتابع معه الإجراءات القادمة.. 

ولكن حدث خطأ قانونى غير مقصود، وفات موعد تقديم الاستئناف، ووجدتنى من جديد أتولى مهمة الدفاع عن (المهاجر)، المدهش أن شاهين كان سعيدًا بما حدث وقال لى مداعبًا ومشجعًا: (مش قلت لك إنك اللى ح تترافع عنى).

وتحدد موعد الجلسة الاستئنافية، وخلال الأيام التى سبقتها كنت مع (جو) وفريق مكتبه لا ننام حرفيًا، كنا فى غرفة عمليات على مدار الساعة، نحشد المستندات ونجهز الدفوع، وأذكر أن من بين الأدلة التى جهزتها نسخًا من الأعمال المستوحاة عن قصة يوسف وإخوته، كان بينها مسلسل إذاعى قديم تناول القصة القرآنية لنبى الله بتفاصيلها وشخصياتها كتبه فتحى أبوالفضل.

وكان من بين ما طلبته من هيئة المحكمة هى طلب حضور شيخ الأزهر أو من ينوب عنه لسماع رأى الأزهر الرسمى فى الفيلم، وكنت أظن أن الرأى الرسمى سيختلف عن موقف مجمع البحوث وشيوخه وسيكون أقل حدة.

كما استشرت يوسف شاهين فى طلب آخر من المحكمة، ولكنه كان يحتاج إلى ترتيبات خاصة وتجهيزات مسبقة قبل الجلسة، وهو أن تنتقل المحكمة لمشاهدة الفيلم بنفسها وبكامل هيئتها وتحكم عليه بنفسها بدلًا من سماع تلك الآراء المتضاربة حوله.. 

وكانت جلسة تاريخية بكل معانى الكلمة، ومن الصباح الباكر تدفق مراسلو وكالات الأنباء العالمية والعربية على قاعة محكمة عابدين، حيث ستجرى المحاكمة، وجاء كل نجوم الفن والإبداع يؤازرون يوسف شاهين وقضيته، يقينًا منهم أنها أصبحت قضية عامة تخص الجميع. وكان أول الحاضرين الفنان الكبير فريد شوقى رغم ظروفه الصحية الصعبة، وأذكر كذلك من بين الحاضرين: عزت العلايلى وجميل راتب ويسرا وغيرهم كثير.

كما جاء شيوخ المحاماة تضامنًا ودعمًا، وكان فى القلب منهم (القديس) أستاذنا الجليل نبيل الهلالى.. 

نحن إذن فى يوم مشهود.. ولكن بداية الجلسة كانت غير مطمئنة، ورغم أننى الذى طلبت شهادة من شيخ الأزهر أو من يمثله، فإن شهادة ممثل الأزهر كانت ضد الفيلم ومؤيدة لمنع عرضه.

ولما جاء دورى فى الدفاع طلبت من المحكمة أن تشاهد الفيلم قبل الحكم عليه، وكان أملى فى استجابتها ضعيفًا أو قل معدومًا، ولكنى فوجئت بترحيبها، وسألنى رئيس المحكمة: أنتم جاهزون؟!.. وأجبت بالإيجاب، فقد كان يوسف شاهين قد وافقنى على جنونى وطلب تجهيز قاعة سينما (كريم) التابعة لشركته (مصر العالمية)، وقررت المحكمة فى سابقة فريدة فى تاريخ القضاء المصرى أن تنتقل إلى قاعة السينما بكامل هيئتها وسكرتاريتها لمشاهدة الفيلم محل النزاع، واعتبرت أن الجلسة فى حالة انعقاد والمشاهدة هى جزء منها، وستعود لاستكمالها فى المحكمة فى اليوم نفسه.

وانتقلنا إلى دار العرض، وقرر يوسف شاهين أن نجلس فى الصف الأخير، حتى لا يكون هناك أى شبهة تأثير على هيئة المحكمة التى جلست فى الصف الأول.. لكن شاهين فى وقت تجهيز الفيلم للعرض قرر أن يقوم بلمسة مدهشة، فأمر مسئول القاعة بتشغيل أغنية أم كلثوم الوطنية الشهيرة (مصر التى فى خاطرى)، وبصوت خفيض وكأنها فى الخلفية، وكأنه قصد بها أن يؤكد بها أننا جميعًا فى هذه القاعة من أجل الدفاع عن هذا البلد والانتصار له.

وطوال مدة عرض الفيلم لم أرفع عينىّ عن هيئة المحكمة، وكنت أتابع صدى الفيلم على ملامح وجوههم.. 

نسيت أن أقول إننى أكدت على يوسف شاهين أن يعرض نسخة الفيلم الكاملة، دون أن يحذف ولو جملة واحدة أو (شوت) واحدًا.. وقلت له بالحرف: إحنا فى معركة، يا نكسبها كلها.. يا نخسرها كلها.. وبشرف!

وانتهى عرض الفيلم، وعدنا إلى قاعة المحكمة، واستُؤنفت الجلسة وأثبت رئيسها فى محضرها الرسمى توقيت انتقالها لمشاهدة الفيلم وعودتها.. 

وأصدرت المحكمة حكمًا تاريخيًا.. وغير مسبوق فى حيثياته وبلاغته.. وكان مفاجأة للجميع.. 

ولكن قبل أن نصل إلى حكم المحكمة تجدر الإشارة إلى عدة ملاحظات:

الأولى: وهى أنه برغم ما كان فيه يوسف شاهين من أزمة عاصفة هددت فيلمه وحياته إلا أنه لم ينس أبدًا أنه مخرج، فقرر أن يوثق تفاصيل الأزمة، وعهد إلى تلميذه المخرج محمد شبل أن يصور بكاميرته يومياتها وتطوراتها بما فى ذلك الجلسات التى كان يعقدها مع محاميه ومساعديه للتشاور فى مكتبه.. 

والثانية: وهى أن عددًا كبيرًا من المبدعين المصريين قرروا التضامن قانونيًا مع يوسف شاهين، فأثبتوا ذلك رسميًا فى أوراق القضية وأمام المحكمة، وهو ما أشارت إليهم المحكمة فى حكمها بوصفهم (الخصوم المنضمين للمستأنفين كخصوم متدخلين) وهم من ملف القضية: 

- الأستاذ محمود حمدى الحسينى أحمد غيث (الفنان حمدى غيث) بصفته نقيب المهن التمثيلية.

- الأستاذ يوسف محمد عثمان بصفته نقيب المهن السينمائية. 

- الممثل القانونى لغرفة صناعة السينما بصفته.

- الأستاذ عزت العلايلى (الممثل).

- الأستاذ كمال الطويل (الملحن).

- الأستاذ محمود أمين العالم (الناقد والمفكر).

- الدكتور حسام عيسى (المحامى). 

- الأستاذ عاطف سالم (المخرج).                                  

الملاحظة الثالثة: وهى أن يوسف شاهين أصر على حضور جلسات المحكمة بنفسه رغم وجود فريقه من المحامين، وكان يجلس بالصف الأول حينما أصدرت محكمة جنوب القاهرة الابتدائية (الدائرة الثانية - مستأنف مستعجل القاهرة) بجلستها الاستئنافية المستعجلة المنعقدة علنًا بسراى المحكمة فى يوم الأربعاء ٢٩/٣/١٩٩٥ حكمها فى القضية رقم ١٠٢ لسنة ١٩٩٥ برئاسة المستشار سيف الله كسيبة، وعضوية المستشارين محمد السيد عبدالخالق وناصر كامل».

حكم قضائى ينتصر لـ«المهاجر» ويعيده للحياة 

وبعد أن استعرضت المحكمة تفاصيل وملابسات القضية من بدايتها قالت: «وحيث إنه بجلسة ٢٩/١٢/١٩٩٤ قضت محكمة أول درجة فى مادة مستعجلة بوقف ومنع عرض الفيلم العربى (المهاجر) مع الحكم بالتحفظ على جميع أشرطة ونسخ الفيلم مع منع تصديره إلى خارج البلاد وألزمت المدعى عليهم الثلاثة الأول بالمصاريف ومبلغ عشرة جنيهات مقابل أتعاب المحاماة وأمرت بتنفيذ الحكم بالمسودة الأصلية، وحيث إن هذا القضاء لم يلق قبولًا لدى المدعى عليهما الأول والثانى المستأنفين (يوسف شاهين وجابى خورى بوصفه منتجًا) فطعنا عليه بالاستئناف الماثل بصحيفة أودعت قلم كُتاب هذه المحكمة بتاريخ ٩/١/١٩٩٥ وأعلنت قانونًا للمستأنف ضدهم طلبًا فى ختامها الحكم:

أولًا: بقبول الاستئناف شكلًا. 

ثانيًا: وبصفة مستعجلة بإيقاف تنفيذ الحكم المستأنف لحين الفصل فيه. 

ثالثًا: وفى الموضوع بإلغاء الحكم المستأنف وما يترتب عليه من آثار.. وذلك لأسباب حاصلها:

• عدم اختصاص محكمة القاهرة للأمور المستعجلة ولائيًا بنظر الدعوى، إذ إن الفيلم موضوع الدعوى مرخص بعرضه عرضًا عامًا بمقتضى الترخيص رقم ٧٤ لسنة ١٩٩٤ بتاريخ ٣/٩/١٩٩٤ والصادر من مدير عام الرقابة على الأفلام العربية التابعة للإدارة العامة للرقابة على المصنفات السينمائية التابعة للمجلس الأعلى للثقافة، وأن هذا الترخيص قد صدر طبقًا لأحكام القانون رقم ٤٢٠ لسنة ١٩٥٥ فى شأن تنظيم الرقابة على الأشرطة السينمائية، وإنه عملًا بقانون السلطة القضائية وبنص المادة ١٧ منه فإن المحاكم العادية لا تختص بإلغاء القرار الإدارى أو تأويله أو وقف تنفيذه أو ما يمسه فى هذا الشأن.. ولو كان هذا القرار مخالفًا للقوانين واللوائح فإنه ليس للقضاء المستعجل أن يتعرض للقرار الإدارى ولو بطريق غير مباشر، وإن القرار الصادر بالترخيص بعرض الفيلم السينمائى (المهاجر) صدر من السلطة المختصة بإصداره.. ومن ثم فلا ولاية للقضاء المستعجل فى وقف تنفيذ ذلك القرار.. وقد نشأ للمستأنف بموجب هذا القرار مركز قانونى بالنسبة لأحقية الشركة التى يمثلها (مصر العالمية) فى عرض الفيلم.. وإن ما قضت به محكمة أول درجة يعد تعرضًا للقرار الإدارى وهو أمر يخرج عن نطاق اختصاص محكمة الأمور المستعجلة.

• عدم اختصاص القضاء المستعجل بالفصل فى الدعوى لمساس الحكم فيها بالموضوع، إذ إن المستأنف ضده قد انصبت دعواه على أن الفيلم محل التداعى انطوى على تجسيد لشخصية نبى الله يوسف عليه السلام، وأنه ملىء بالعبارات الهابطة ويتضمن تحقيرًا للمجتمع المصرى وقيمه وتقاليده، وأن طلب المستأنف ضده سحب الترخيص بُنى على أسباب موضوعية تتعلق بمشاهد الفيلم وحواره وتجسيد بعض أشخاصه للشخصيات الدينية التى لا تسمح التقاليد الدينية بتجسيدها لا ينطوى ذلك على تعريض بسمعة الأنبياء، وهو ما يكون التعرض به هو خوضًا فى موضوع القرار الإدارى الصادر بترخيص عرض الفيلم عرضًا عامًا، وأن قضاء محكمة أول درجة قد استند إلى أسباب موضوعية ينحسر عنها القضاء المستعجل.

• الفساد فى الاستدلال والقصور فى التسبيب، إذ إن الحكم المستأنف استند فى قضائه على مذكرة السيد فضيلة شيخ الأزهر بصفته فى خلال شهر فبراير ١٩٩٤، وأن تصويب مشاهد الفيلم والحوار قد تم وصدر الأمر بعد ذلك بالترخيص بعرضه عرضًا عامًا فى ٣/٩/١٩٩٤ بعد إجراء التعديلات، وبعد أن تأكدت السلطة الإدارية المختصة من حذفها، وأن محكمة أول درجة قد توقفت عند الاعتراض الصادر من الأزهر الشريف دون أن تفطن إلى أن الاعتراض معلق على شرط حذف بعض المشاهد بالفيلم وأجزاء من حواره، الأمر الذى يشوب الحكم بالفساد فى الاستدلال والقصور فى التسبيب.

• قصور آخر فى التسبيب وإخلال بحق الدفاع، إذ إن دفاع المستأنف أمام محكمة أول درجة قام أساسًا على أنه لم ينشر قصة سيدنا يوسف عليه السلام كما وردت بالقرآن الكريم، وإنما دارت قصة فيلم (المهاجر) على نحو مشابه لها متخذًا من شخصية النبى المقصود مثلًا يحتذى به الشباب وهو أمر يتعين نشره على البشر بشتى وسائل الإعلام ومنها السينما، وليس هناك ما يحول من الناحية الدينية من أن تتخذ المعانى السامية والمواقف التى واجهت أحد الأنبياء الصالحين رمزًا لصمود النفس ضد إغراءات الدنيا ومفاتنها الزائلة، وأن قصة فيلم المهاجر امتلأت بالمثل الدينية القويمة العالية، وهى وإن كانت مستهداة من السيرة العطرة لنبى الله يوسف عليه السلام، إلا أنها تختلف فى جوهرها عن القصة الأصلية. 

ولكل هذه الأسباب التى سردتها حكمت المحكمة:

أولًا: بقبول الاستئناف شكلًا.

ثانيًا: بقبول تدخل الخصوم المنضمين للمستأنفين والمستأنف ضده الأول. 

ثالثًا: وفى موضوع الدعوى وموضوع التدخل بإلغاء الحكم المستأنف والقضاء مجددًا بعدم قبول الدعوى لرفعها من غير ذى صفة، وألزمت المستأنف ضده الأول بالمصروفات ومبلغ عشرين جنيهًا مقابل أتعاب المحاماة». 

ورغم هذا الحكم فإن الستار لم يُسدل على القضية، إذ كان مقيم الدعوى محمود أبوالفيض قد تقدم بصورة الحكم الأول بمنع الفيلم من العرض إلى التليفزيون المصرى مطالبًا بوقف عرض الإعلانات التجارية الخاصة بالفيلم وبمنع عرضه على شاشة التليفزيون المصرى. 

وخاف المسئولون فى التليفزيون وقتها من مخالفة الحكم، وظل قرار المنع ساريًا رغم أن محامى يوسف شاهين أرسل إليهم صورة من حكم المحكمة الجديد.. ولكن الوضع اختلف مع ظهور القنوات الفضائية العربية فى العام ١٩٩٧، فمع ميلاد (art) و(روتانا) أصبح عرض الفيلم متاحًا ومباحًا، وشاهد الجمهور العربى (المهاجر) لأول مرة على تلك الشاشات الجديدة، فتشجع التليفزيون المصرى وعرض الفيلم (الممنوع)!