رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«مهد كيميت» .. كتاب يرصد كيف بنى المصريون حضارتهم قبل الزمان بزمان

انتهيت من قراءة كتاب «مهد كيميت» للكاتب والفنان والممثل والدكتور «محمد خميس» فى أول أعماله الكتابية، الصادر عن دار كتوبيا بعدد صفحات ٢٠٤ صفحات.

من اسم الكتاب وتصميم الغلاف ندرك أن الكتاب يتحدث عن مصر القديمة، فـ«كيميت» هو اسم «مصر» عند قدماء المصريين، وتعنى الأرض السوداء وذلك لشدة خصوبة أرضها وكثرة الطمى، فحضارة مصر القديمة ارتبطت ارتباطًا عميقًا بالزراعة. أما عن محتوى الكتاب فكلمته الدلالية كانت هى «مهد»، فالمهد هو سرير الرضيع الذى يحتويه عند ولادته. هنا فى هذا الكتاب، يغوص الكاتب فى قلب السنين ليبحث ليس عن مهد الحضارة، بل عن مهد كيميت، فمصر كانت هناك من قبل الحضارات.

الأمر اللافت فى هذه الدراسة هو أسلوب كتابتها، فالكاتب هنا مزج ما بين الكتابة الأدبية والعلمية، بمعنى أنه قدم دراسته على لسان راوٍ يحكى حكاية نشأة كيميت وتطورها لحبيبته، وتتخلل ذلك الحكى مقاطعات رومانسية أو ذكريات، فخرج لنا هذا الخليط بكتاب له نكهة خاصة، نكهة مشبعة بروح أسلوب أحمد خالد توفيق. فكانت علاقة الراوى بحبيبته شبيهة بعلاقة رفعت إسماعيل بماجى ماكيلوب فى سلسلة ما وراء الطبيعة. 

ومما دعم فكرة تأثر الكاتب بطريقة كتابة أحمد خالد توفيق، هو اتباعه أسلوب كتابة الهوامش السفلية التوضيحية لبعض المعلومات أو كتابة مصادرها. ولكن إحقاقًا للحق فالكاتب له أسلوبه الخاص فى الكتابة السردية، وضح فيها تمكنه اللغوى من صياغة الألفاظ والتعبيرات بشكل سلس فكان السهل الممتنع.

من هم المصريون؟ ومن أين أتوا؟ وكيف تكونت مصر؟ وهل حقًا مصر بلد ٧ آلاف سنة حضارة؟! وما معنى الحضارة؟ وكيف بدأت؟. قد تكون سألت نفسك يومًا تلك الأسئلة ولم تستطع الوصول لإجابات مقنعة شافية. كل تلك الأسئلة كانت محور الدراسة التى قدمها لنا الكاتب فى «مهد كيميت». ومن أجل الإجابة أخذنا الكاتب فى رحلة من المعلومات الغنية من البداية الأولى، قبل الأسرات، من العصور الحجرية. 

من خلال شرح مبسط ملىء بالمعلومات، قسم الكاتب نتيجة الدراسات والأبحاث الجيولوجية والأنثروبولوجيا، العصر الحجرى إلى ثلاث مراحل، قديم وأوسط وجديد، وكانت البداية التقريبية من ٢٠٠ ألف سنة قبل الميلاد. ومن خلال استعراض مفهوم الحضارة، وهى تلك التى ظهرت بها الزراعة ونظام اجتماعى والكتابة، فنجد أن نشأة الحضارات فى التاريخ تختلف من مكان لآخر، فهناك بعض المناطق ظلت فى مرحلة العصر الحجرى إلى ما بعد الميلاد بسنوات طويلة.

يستعرض الكاتب نظام الحياة فى العصور الحجرية المختلفة، والتى وصلت لنا من قبل التأريخ، أى من قبل معرفة الكتابة، وذلك عن طريق الرسومات والمنحوتات التى تركها لنا رجل الكهف فى كهوفه. فهناك العديد من الكهوف فى مصر وفى العالم التى نقش فيها رجل الكهف أفكاره ورموزًا من حياته، جعلت علماء العصر الحديث يضعون العديد من التخمينات عن حياة رجل الكهف، وكذلك تطور الوعى للإنسان، وكيفية إدراكه لنفسه وقدراته، مقارنة بقدرات الكائنات الأخرى من الحيوانات، وكيفية ترويضها ثم استئناسها، ومن هنا كان التطور تجاه خلق المجتمعات والتجمعات الاجتماعية ومن ثم الزراعة، والتى كانت اللبنة الأولى نحو المدنية. ومن خلال الأنثروبولوجى أيضًا، وهو علم دراسة الإنسان، نكتشف أن كل البشر من كل قارات العالم أصلهم إفريقى، ثم نزحوا إلى بقاع الأرض المختلفة. فقد كانت البداية من القارة السوداء.

وعلى مبدأ أرسطو فى التحليل المنطقى، بما إن الحضارة تعنى زراعة ونظامًا اجتماعيًا وكتابة، فهناك فى مدينة قنا حاليًا نشأ نظام اجتماعى وزراعة وبداية الكتابة فى مدينة نقادة ويرجع تاريخها إلى ٤ آلاف سنة قبل الميلاد، إذًا فشمس الحضارة سطعت فى مصر منذ ذلك التاريخ. 

ومن بزوغ الحضارة بالتأريخ الرسمى عن طريق ظهور الرموز الكتابية لمصر القديمة والتى كانت أصلها من الرموز الفينيقية، التى تعتبر أصل رموز كل لغات العالم القديم، تطورت الحضارة عبر السنين وكذلك لغة الكتابة. وهنا أفرد الكاتب فصلًا كاملًا يتحدث بالتفصيل عن تحليل لغوى لقراءة رموز الهيروغليفية بشكل يدل عن مدى ثقافة الكاتب وحبه للتبحر فى التفاصيل. الحقيقة أن الكتاب منظم تنظيمًا جميلًا لعرض فكرته، فكل فصل عبارة عن تمهيد وتوضيح للفكرة للفصل الذى يليه. وكأنها متوالية سهلة التدرج للفهم. وكما ظهرت الحضارة ببداية التأريخ والكتابة، كان لا بد تكرار ظهور تلك الحضارة العظيمة فى العصر الحديث باكتشاف وفهم الرموز الهيروغليفية. 

نأتى لفصل آخر فى غاية الأهمية، هل كنت تعلم أن العرب أول من ترجموا الهيروغليفية؟! كلنا نعرف أن الكشف عن الهيروغليفية كان عن طريق شامبليون أثناء الحملة الفرنسية على مصر عندما اكتشف حجر رشيد. لكن هناك محاولات سبقت شامبليون، من علماء عرب مسلمين أمثال «ابن وحشية» و«ذو النون المصرى»، وقد وصلوا فيها لنتائج جيدة ولكنها لم تكن تامة. فأتى «شامبليون» واجتهد اجتهادًا شديدًا يكاد يكون إعجازيًا لفك رموز الهيروغليفية، لتتحدث مصر القديمة عن نفسها وتُظهر أسرارها للعالم الحديث.

فى مرة من المرات سألنى أحدهم كيف نأخذ إنجازات ملوك مصر القديمة على أنها حقيقة حدثت بالفعل من جداريات صممها لنفسه، أليس هناك شك بأنه يمجد ذاته واختلق الأكاذيب؟. فجاء الرد الشافى من خلال قراءتى لذلك الكتاب. يوضح الكاتب أنه كان هناك مؤرخون لمصر القديمة، تحدثوا بما رأوا وسمعوا من العامة بعيدًا عن الملوك وقصور الحكم، مثل «هيرودوت» و «مانيتون السمنودى» وغيرهما، ونقل آخرون عن مخطوطاتهم فى مناظرات أو دراسات. كما هناك جداريات وآثار للحضارة المصرية فى البلدان التى تحدثت عنها جدارياتنا لتثبت حقيقة الأحداث العظيمة التى تمت ما بين البلدين. 

الحقيقة الكتاب دسم جدًا بالمعلومات القيمة، أكثر بكثير مما ورد فى هذا المقال، والتى توضح مدى اجتهاد الكاتب فى المطالعة والمعرفة، ليظهر لنا هذا الكتاب الشائق، وينجح الكاتب فى توصيله بشكل سلس وبسيط ومحبب للقراءة.