رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

على المنوفى.. الرجل الحضارتان!

كان الدكتور علي المنوفي، المترجم الكبير الراحل، جسرًا متينًا بين ثقافتين كبريين هما العربية والإسبانية.. هذا ملخص رحلته، وأي ملخص، فندرة بين الأكاديميين وغيرهم من يمكن تلخيصهم هكذا، وهؤلاء يكونون غالبًا مؤسسين تأسيسًا علميًا وأدبيًا فذًا، فمثل هذا التلخيص يجمع في باطنه حضارتين باذختين، ومن ثم فالموصوف به بمثابة هاتين الحضارتين أنفسهما!
ولد الدكتور في طنطا بمحافظة الغربية "1949"، وبعد حصوله على الثانوية الأزهرية التحق بكلية اللغات والترجمة، وحصل على الليسانس بتفوق، وعين معيدًا بالكلية، ذهب بعدها إلى إسبانيا وعاش فيها لمدة تسع سنوات، درس الإسبانية على أيدي كبارها «أخص بالذكر فيكتور جارثيا دي لا كونشا، اللغوي والناقد والكاهن والسياسي، رئيس الأكاديمية الملكية الإسبانية»، وحصل على الدكتوراه في الأدب الإسباني «الشعر الإسباني المعاصر تحديدًا» من جامعة سلامنكا، وهي أقدم جامعة في إسبانيا، وواحدة من أقدم أربع جامعات في أوروبا، لا زالت مفتوحة الأبواب. معيشته الطويلة في إسبانيا جعلته خبيرًا بالمجتمع الإسباني وخفاياه واللغة الإسبانية ودقائقها، هكذا، مع درايته الفياضة بمجتمعه الأصلي ولغته الأم طبعًا.
الحضارة الأندلسية، فيما قيل بالنص والحرف، "ليست مجرد مكان ضاع ولكنها زمان باقٍ في الثقافة العربية والإسبانية.. زمان يجب تعزيزه دائمًا، وليس أفضل من الترجمة من الإسبانية ليكون الحاضر والماضي في متناول الأيدي". عبارة بليغة، تقرب المسافة الشاسعة بين الشرق والغرب بخطوات المترجم وحده، وما أروع أن يكون المنوفي العظيم، المفكر والعالم، جامع اللاتينية بكلياتها!
الرجل، فيما تحققت منه شخصيًا، كان زاهدًا في الأجر الذي يتقاضاه عن الترجمة، وكم ترجم بلا مقابل، محبة في عمله ورسالته، كما كان، من الزاوية الإنسانية الأشمل، طيب السريرة وشهمًا ونبيلًا وكريمًا، صالحًا وصادقًا بالإجمال، كأنه من فصول خضراء لا يشوبها سواد!
ترك الدكتور كتبًا كثيرة بالغة الأهمية، في نطاق تخصصه، بل تعد الأهم مطلقًا، من بينها «في مجالات الفنون والعمارة والآداب والترجمة نفسها»: الفن الأندلسي، إسبانيا في تاريخها، الفن الطليطلي، العمارة المدجنة، الشعر الإسباني خلال القرن العشرين، عمارة المساجد في الأندلس- مدخل عام، الترجمة ونظرياتها، من العالم الجديد إلى العالم القديم.. «ما يربو على 60 كتابا»، 
كذلك ترك ابنًا ناجحًا في المسار الذي اختاره لنفسه، وابنة ذات عقل راجح ورأي مقدر، طبيبة أسنان وتمارس الكتابة، لها صفحتها الذائعة في السوشيال ميديا. 

عمل الدكتور، بجانب أستاذيته الجامعية، مترجمًا برئاسة الجمهورية، ومحاضرًا ومراجعًا بالمركز القومي للترجمة، وحصد وسام الاستحقاق المدني من ملك إسبانيا فيليب السادس، وجائزة الشيخ زايد للكتاب، وجائزة الشيخ حمد للترجمة، ودرع اتحاد كتاب مصر. 

لقي ربه 2018 عن 69 عامًا، لكن بقي الجسر الذي يمثله اسمه، بقي في سيرته النبيلة وترجماته النيرة، بقي بكامل متانته كما كان في حياته!