رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

واشنطن تلاحق قوات فاجنر الروسية فى أوكرانيا وخارجها

جاء إعلان «جون كيربى»، المتحدث باسم مجلس الأمن القومى بالبيت الأبيض، بتصنيف مجموعة «فاجنر الروسية» باعتبارها منظمة إجرامية عابرة للدول، ليعيد تسليط الضوء على تلك المجموعة القتالية المسلحة، المثيرة للجدل منذ سنوات. لكنها تستعيد اليوم زخم الملاحقة بعد فصل أخير من الحرب الروسية الأوكرانية، برزت فيه تلك المجموعة لتحتل واجهة الأحداث، ولتفتح العديد من التساؤلات التى خلفت حالة من الجدل، امتدت إلى الداخل الروسى المتابع لوقائع ما يدور على الجبهة الأوكرانية.

يترتب على إعلان فاجنر منظمة إجرامية تجميد أى أصول تمتلكها المجموعة فى الولايات المتحدة ومنع الأمريكيين من تقديم أى أموال أو بضائع أو خدمات لها. فى حين تتواتر الأنباء والتقارير الإعلامية التى تنقل وقائع الاشتباكات على الساحة الأوكرانية، أن هناك تناميًا ملحوظًا لوجود قوات فاجنر على صعيد الأحداث والجبهات خلال الأشهر الأخيرة، وحسب كيربى أيضًا فإن الرئيس الروسى فلاديمير بوتين بات يتحول بشكل متزايد إلى الاعتماد على تلك القوات، مراهنًا على قدرتها على إحداث فارق ملموس فى مجريات المعارك. وهذا ما دفع إلى نقل ما يقارب «٥٠ ألفًا» من عناصرها إلى الداخل الأوكرانى، وهو رقم كبير بالطبع يفسر هذا التحرك الأمريكى الأخير بهدف محاصرته بالكشف والإلحاح الإعلامى واستخدام بحقه سلاح العقوبات. لكن فى المقابل يبدو «يفجينى بريغوجين»، رئيس المجموعة الروسية، غير مكترث لمثل هذا التصعيد والملاحقة الأمريكية، فهو بالفعل حريص على إبراز دور قواته الخاصة بل وإثبات وجودها فى الخطوط الأمامية، عبر زيارات دورية للجبهات حملت رغبة واضحة للترويج لها، فضلًا عن استخدام عديد من الصور والتصريحات التى خرجت من تلك المناطق عبر جهازه الإعلامى تؤكد وتعزز هذا الدور، مثلما جرى ربط معركة السيطرة على مدينة «باخموت» الدائرة الآن، بإفساح المجال أمام انخراط أكبر لقوات فاجنر فى سير القتال.

من خلال الاشتباك الدعائى بين الطرفين الأمريكى والروسى، لم يمرر بريغوجين إعلان المتحدث باسم الأمن القومى فى البيت الأبيض دون رد من جانبه، بل سارع فى نشر رسالة باللغة الإنجليزية على قناته بـ«تليجرام» متسائلًا باستنكار مقصود «عزيزى السيد كيربى، هل يمكنك توضيح الجريمة التى ارتكبتها فاجنر؟». رغم أن إعلان كيربى بجانب التصنيف والعقوبات شمل أيضًا قائمة من الجرائم التى تساءل عنها بريغوجين. أبرزها بطبيعة الحال حجم قوات فاجنر المنخرطة فى القتال على عهدة التقديرات الأمريكية، ولم ينفها أى طرف روسى رسمى أو من فاجنر نفسها. الأخطر والذى يبدو هو السبب الرئيسى فى حالة التصعيد الأمريكى الأخير، قيام «فاجنر» بعقد صفقات تسلح مع كوريا الشمالية باعتبارها «شركة عسكرية» خاصة، تملك من المرونة والقدرة على التخفى واختراق حظر التعاون مع بيونج يانج ما لا تملكه موسكو بالطبع. جدير بالذكر أنه فى عام ٢٠١٧ فرضت واشنطن أول حزمة قيود تجارية بحق فاجنر، وتبعها الاتحاد الأوروبى ديسمبر ٢٠٢١ ببعض من عقوباته الخاصة، لتعود الولايات المتحدة لتعزز ذلك فى ديسمبر العام الماضى بحزمة إضافية فى محاولة لتقييد وصول قوات فاجنر للأسلحة. فى حين يكشف يفجينى بريغوجين بنفسه عن «النشاط التعاقدى» لقواته فى كل من سوريا وليبيا والسودان ومالى وموزمبيق وإفريقيا الوسطى، واصفًا فاجنر بأنها «قوة مستقلة» تمامًا، تمتلك طائراتها وصواريخها ومدرعاتها ومدفعيتها الخاصة!

تصدر قوات فاجنر لواجهة الأحداث، ليس على خلفية الإعلان الأمريكى الأخير بل لما تمكنت فاجنر من إنفاذه على صعيد الجهد القتالى الروسى. فبعد ثلاثة أشهر من تعيين قائد جديد «سيرجى سوروفيكين»، عادت لتعلن دفعها برئيس الأركان العامة الروسية «فاليرى غيراسيموف»، ليصبح قائدًا جديدًا للعملية العسكرية فى أوكرانيا، فيما جاء بمثابة اعتراف بعدم ملاءمة استراتيجية سوروفيكين الدفاعية لمتطلبات موسكو، فى الإسراع بتحقيق خطوة حاسمة على جبهة إقليم الدونباس التى تشهد قتالًا شرسًا منذ شهور. لكن ظل أهمها بالنسبة للروس محور سوليدار- باخموت، الذى سيمثل فى حال قدرة الروس على السيطرة عليه ضربة مؤثرة لخطوط الإمداد الأوكرانية الناجحة التى تمكنت من إطالة أمد القتال وتمسكها بالأرض فى الجبهة الشرقية بكاملها. من أجل تحقيق هذا الهدف فى أسرع وقت ممكن جاء إفساح المجال أمام قوات فاجنر كى تدفع بأعداد هائلة نشيطة تدخل المعارك للمرة الأولى منذ بدء الحرب، وتركزت مهامها على هذا المحور، حيث تمكنت من إحداث فارق وانقلاب مؤثر فى الأوضاع العملياتية.

على مضض، اضطرت وزارة الدفاع الروسية على ما يبدو للاعتراف بأهمية وإنجاز قوات فاجنر بقدرتها على هزيمة القوات الأوكرانية فى مواجهة مباشرة، ودفعها إلى الإعلان عن انسحابها من هذا المحور ذى الأهمية الاستثنائية، وهناك فى كييف من يتحدث عن انصياع لتوصية أمريكية وإلحاح استخباراتى بريطانى بضرورة الإسراع فى الإفلات من كماشة كانت ستودى بالقوات الأوكرانية للوقوع فى براثن مذبحة تخطط لها فاجنر عبر شهور فى تلك المنطقة. واشنطن كان لديها علم مسبق باختلال موازين القوة على تلك الجبهة لصالح الجانب الروسى، وحددت السبب بقدرة الرئيس الروسى على فرض قوات فاجنر للمشاركة المتقدمة فى العمليات، بعد أن ظل دورها لسنوات مقتصرًا على ما يسند لها من الجيش الروسى، ببعض مهام الحراسة والتأمين داخل مناطق الصراع المنخفض الحدة فى إقليمى دونيتسك ولوجانسك وشبه جزيرة القرم. أعطت واشنطن للقوات الأوكرانية المساحة الزمنية التى قد تمكنها من الصمود أو إحداث اختراق ما، لكن هذا لم ينجح، وظهر أن الانكشاف التسليحى للقوات الأوكرانية قد يضع عناصرها فى مأزق كبير، لهذا سارعت بتقديم نصيحة وجوب التراجع فى أسرع وقت.

الاستخبارات الأمريكية تدرك أن قوات فاجنر تمثل سلاحًا متقدمًا بيد الرئيس الروسى، يعوض بها إخفاقات وتباطؤ وحدات الجيش التقليدى لتحقيق أهداف خاطفة ومؤثرة. لا يقتصر الأمر على أوكرانيا وحدها؛ فالشركة العسكرية الروسية التى تأسست عام ٢٠١٤ بمعرفة يفجينى بريغوجين أبرز المقربين للرئيس بوتين، صارت اليوم تسعى للسيطرة على الموارد الطبيعية فى إفريقيا، فضلًا عن الانخراط والتأثير فى الشئون السياسية والصراعات ببلدان مثل ليبيا والسودان ومالى وإفريقيا الوسطى. تلك الارتكازات تتماس مع عديد من المصالح الأمريكية والأوروبية، مما ينذر بفصل جديد من الملاحقات، لن يقتصر بالداخل الأوكرانى على أهميته، فالمؤكد أن كثيرًا من هذه المناطق والملفات ستشهد سعيًا أمريكيًا عاجلًا لتقويض هذا النمط من النفوذ الروسى، وستستخدم واشنطن فى ذلك كل أدوات قدراتها ونفوذها ويقينًا لن تدخر فيه جهدًا.