رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر والهند.. نحو خيال سياسى جديد

جاءت زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسى للهند ضمن خطوات متتالية ومتسارعة يبذلها فى سبيل حل المشكلة المصرية والوصول بمصر لأول طريق الانطلاق الاقتصادى والسياسى.. تبدو الزيارة وكأنها استلهام للماضى وعبور نحو المستقبل فى خطوة واحدة.. فبين مصر والهند علاقات تاريخية بالفعل لا بالكلام وكلتاهما كانت مستعمرة بريطانية تسعى للاستقلال والنهوض.. وقد أعجب الهنود بثورة ١٩١٩ التى كانت أكثر عنفًا ضد المستعمر من نمط النضال الهندى لأسباب ثقافية ودينية أيضًا.. وبعد الاستقلال نشأت روابط وثيقة للغاية بين مصر والهند عبرت عن نفسها فى حركة عدم الانحياز وفى علاقة الصداقة الوثيقة التى ربطت الرئيس جمال عبدالناصر وزعيم الهند التاريخى جواهر لال نهرو.. رغم فارق السن الكبير بينهما لصالح الزعيم الهندى.. كان العداء للاستعمار القديم والرغبة فى النهوض والتنمية والإرث الحضارى العميق هى ما يجمع البلدين.. وجرت فى النهر مياه كثيرة بعد نكسة يونيو ١٩٦٧.. وفكر الرئيس السادات أن السير فى الاتجاه المعاكس قد يقيل البلد من عثرتها.. وأعلن أن ٩٩٪ من أوراق اللعبة فى يد أمريكا وكانت المشكلة أن مصر ظلت ثلاثين عامًا بعد رحيله تسير على نفس «الكتالوج» الذى وضعه.. رغم أنه لو ظل حيًا لغير بعض سياساته كرجل براجماتى من طراز رفيع.. كان انتهاء الحرب الباردة نقطة انطلاق كبيرة للهند.. بينما بقيت مصر تواصل السير فى المكان.. وباستثناء فتح السوق المصرية لمليارات الأطنان من البضائع الصينية لم يبد أننا غيرنا خيالنا السياسى ولو بمقدار نصف درجة.. منذ ٢٠١٤ تحاول مصر تغيير الخيال السياسى الذى حكم الدولة المصرية لأربعين عامًا وتسعى لفهم تغيرات العالم ورصد إشارات مخاض النظام العالمى الجديد.. مع السعى لعلاقات متوازنة مع الأقطاب المختلفة.. فالغرب لم يعد سيد العالم بالورقة والقلم كما يقول المثل الشهير.. وهذا العام فقط حلت الهند محل بريطانيا كخامس أكبر اقتصاد فى العالم وكأنها ترد على سنوات الاحتلال بطريقتها.. ولتصبح ثالث دولة آسيوية فى قائمة الست الكبار اقتصاديًا «أمريكا- الصين- ألمانيا- اليابان- الهند- بريطانيا».. أى أن نصف قوة العالم الاقتصادية تتركز فى آسيا.. مع الأخذ فى الاعتبار أن المستقبل لصالح هذه القوى بمعنى أنها ستحرز مزيدًا من التقدم فى قادم السنوات وهو ما يعنى أن النظام العالمى فى طريقه للتغير إن عاجلًا أو آجلًا.. ولعل الأزمة التى يعانيها العالم هى أحد أعراض هذا المخاض الطويل لشكل العالم الجديد.. هذه التغيرات يقرأها جيدًا بلا شك الرئيس السيسى الذى سعى جادًا لتوطيد العلاقات الإنتاجية مع الصين ومع كوريا الجنوبية- النمر الذى يتحول إلى أسد- ومع الهند التى زارها مرتين من قبل ولبى دعوتها لكى يكون ضيف الشرف فى الاحتفال بيوم الجمهورية فيها هذا العام.. لقد أدى النمو الاقتصادى الهندى الكبير لأن تتحول الهند من دولة جاذبة للاستثمار فقط إلى دولة مصدرة للاستثمارات أيضًا.. وهو ما دعا الرئيس السيسى لتوجيه الدعوة لرجال الأعمال الهنود للاستثمار فى محور قناة السويس بحثًا عن رأسمال نظيف لا يأتمر بأوامر مجموعات المصالح التى تحكم العالم القديم.. حيث تتميز الحضارات الآسيوية بالحكمة والرقى وعدم التدخل فى شئون الآخرين وعدم إلزامهم بالصوابية السياسية كما تراها هى أو بمعنى آخر لا تفرض عليهم ما تراه صوابًا فى حين لا يراه الآخرون كذلك.. كل هذه مميزات تتميز بها رءوس الأموال الآسيوية.. فى حين تتميز الهند بطفرة عملاقة فى مجالات البرمجة وعلوم الكمبيوتر تجعلها تمتلك المستقبل من خلال طبقة وسطى متعلمة تتحدث لغة العصر ويطغى عليها المكون الشبابى، حيث يساند التعليم الجيد الثقافة الهندية التقليدية التى تحترم العمل وتقدس التسامح والالتزام.. ولا شك أن الاتفاقات التى تم توقيعها بين البلدين فى هذه الزيارة تكشف عن دراسة عميقة من البلدين أحدهما للآخر.. فهى تهدف للإفادة من مميزات كل بلد حيث استهدفت مصر الاستفادة من التعليم الهندى الذى كان سببًا مباشرًا فى هذه الطفرة العملاقة ومن تكنولوجيا المعلومات التى تحتل فيها الهند المركز الأول ومن خبرات العمل الشبابى فى الهند التى صدرت شبابها للغرب كخبراء فى صناعة البرمجة من الصعب مجاراتهم.. فضلًا عن مجال الطاقة المتجددة والتى تعتزم مصر توطينها فى إقليم قناة السويس ودعت المستثمرين الهنود للاستثمار فيها.. إن هذه الزيارة المهمة تأتى فى وقت تحتاج فيه مصر لتحرير الخيال السياسى القديم والعقيم والارتجال لأقصى درجة والخروج على كل قواعد اللعب خارجيًا وداخليًا أيضًا.. فعلينا أن ننفتح ثقافيًا على ثقافات العالم المختلفة بعد أن تم تأميم العقل المصرى لحساب الثقافة الأمريكية.. وبهذه المناسبة أدعو وزارة الثقافة لأن تنظم أسبوعًا للثقافة الهندية فى القاهرة، حيث لا يعرف المصريون عن الهند سوى معلومات سطحية ومغلوطة منها أنها- البلد الذى يعبد البقر-! وهى رؤية جاهلة وسطحية لفلسفات الشرق القديم، ساهم فيها التطرف الذى احتل العقل المصرى وأصاب مصر كلها بالشلل.. إن علينا أن ننفتح على العالم سياسيًا وثقافيًا ومعرفيًا وصناعيًا واقتصاديًا إذا أردنا أن نبارح المكان الذى نسير فيه للأسف منذ نصف قرن أو يزيد بعد أن تعثرت تجربتنا للنهضة فى الستينيات فرحنا نتطوح هنا وهناك، ونحاول القيام فنقع مرة أخرى بينما العالم كله يعدو نحو المستقبل.. لا بد من خيال جديد خارج كل التوقعات.. والرئيس السيسى يعى ذلك ويسعى لتنفيذه رغم المعوقات.. وهى للأسف كثيرة.