رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أم كلثوم.. كبرياء الفن كما يجب أن يكون

ما إن انتهيت من قراءة كتاب «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربى» حتى هاجمتنى فكرة غير تقليدية، وهى أن يشترى اتحاد النقابات الفنية كل نسخ الكتاب ويلزم أعضاءه بقراءته ومذاكرته ثم أداء الاختبار فيه.. فكرت أيضًا أن يبدأ الاتحاد بالفنانين الذين يطلق عليهم كبار النجوم نسبة لكبر حجم أجور بعضهم وليس لارتفاع قيمتهم.. حيث هناك فارق كبير بين السعر والقيمة أو ربما هى علاقة عكسية.. فالذى له سعر من الصعب أن يكون له قيمة.. فى هذا الكتاب يسجل المؤلف «كريم جمال» سنوات أسميها أنا سنوات الكبرياء فى حياة أم كلثوم.. لقد وقعت النكسة وهذه المطربة العظيمة فى السابعة والستين من عمرها على أكثر تقريب فإذا بها تنتفض مثل فلاحة مصرية عفية لترفع سلاح الفن وتقف فى ظهر وطنها كتفًا بكتف وظهرًا بظهر.. كان بإمكانها أن تركن للراحة فى آخر العمر وتقول إنها أدت ما عليها تجاه الفن منذ العشرينات المبكرة.. وربما كان يمكنها أن تتبرع بمبلغ من المال وهى مستكينة فى منزلها على نيل الزمالك وتكون بهذا قد أدت فريضة الجهاد بالمال.. لكن هذه السيدة العظيمة قررت أن تغنى ردًا على الهزيمة.. أن ترفع صوت بلدها فى العواصم العربية لتثبت للعالم أن العرب متوحدون حول مصر رغم أى خلافات وكان ازدحامهم لحضور حفلاتها هو رمز هذا التوحد حول مصر.. لأنها حملت قضية مصر فى ثنايا صوتها.. نعرف من الكتاب المميز حد العظمة أن هذه السيدة اعتكفت فى منزلها حزنًا عقب النكسة التى ألمت بمصر كلها.. ثم هداها تفكيرها أن سلسلة حفلات تنظمها داخل وخارج مصر هى أفضل رد على الهزيمة.. وأن غناء المصريين والعرب معها فى عواصم العالم هو أكبر إعلان على أن الروح المصرية لم تهزم بعد.. وأن مصر تستعد لجولة قادمة.. وقبل سلسلة الحفلات بدأت الحملة بتحرير شيك قيمته عشرون ألف جنيه إسترلينى لصالح مصر.. ثم أعلنت عن تكوين «هيئة التجمع الوطنى للمرأة المصرية» لتنظم من خلالها جهود سيدات مصر فى دعم المعركة، ونظمت هذه السيدة ذات الكبرياء جهود كل جمعيات المرأة فى مصر وقادتها نحو مساعدة الجرحى وجمع التبرعات ومحاربة الإسراف والشائعات! كما كونت لجنة للاتصال الخارجى وشرح قضية مصر للعالم، وبعد ستة أيام قليلة جدًا من الهزيمة توجهت للجنة تحمل ألفى جنيه ذهبًا كانت قد تلقتها كهدية وتبرعت بها كاملة للمجهود الحربى.. وبعد أيام قليلة أخرى وقفت تغنى فى مدينة دمنهور لتحث أثرياء المدينة على التبرع. وبحسب الكتاب فقد بدأت حفلات المجهود الحربى فى أغسطس ١٩٦٧ واستمرت حتى سبتمبر ١٩٧٢.. أى أن هذه الفلاحة المصرية الأبية نذرت خمس سنوات كاملة من شيخوختها لتغنى لوطنها وترفع صوته فى عواصم العالم لتعود شابة من جديد على حد تعبير محمود عوض، ومن دمنهور إلى الإسكندرية ومن الإسكندرية إلى القاهرة لتقابل نائب رئيس الجمهورية وتسلمه مئة ألف جنيه تبرعات أهل الإسكندرية و٧٦ ألف جنيه تبرعات أهل البحيرة «الألف تساوى مليونًا الآن على أقل تقدير».. بعدها تنتقل هذه الفنانة الأسطورية لتغنى على مسرح الأوليمبيا فى باريس مستغلة عرضًا كان قد حمله لها وزير الثقافة ثروت عكاشة قبل النكسة بشهر.. وفى الحفلين اللذين أقامتهما يسمع العالم صوت مصر من خلالها وهى تغنى أعطنى حريتى أطلق يدى ويسجل الكتاب كيف سارع الملوك والأمراء للجلوس أمام أم كلثوم والاستماع إليها رغم صعوبة حجز التذاكر.. فمن الأردن سافر الملك حسين وبصحبته ولى عهده الأمير الحسن خصيصًا لحضور الحفل ومن تونس جاءت السيدة نائلة بن عمار شقيقة زوجة الرئيس التونسى ومن المملكة العربية السعودية جاء عديد من الأمراء والأميرات وحضر الحفل ثلاثة عشر سفيرًا عربيًا فى فرنسا على رأسهم السفير المصرى.. وفى كل بلد عربى زارته أم كلثوم كان الملوك والأمراء أول من يسعى للجلوس أمامها مدركين قيمتها وما تمثله كرمز للفن المصرى ولكبرياء مصر أيضًا.. فما إن ذهبت للمغرب العربى حتى تدافع الأمراء والوزراء لسماعها وأقام لها الملك الحسن الثانى حفلًا خاصًا جلس فيه يستمع لها من مقاعد الجمهور.. وهو الأمر نفسه الذى تكرر فى الكويت حيث حضر حفلتها مجلس الوزراء الكويتى بالكامل تقريبًا ومعظم أعضاء مجلس الأمة على حد وصف الصحافة وأقامت لها سيدات البيت الحاكم حفلات التكريم وكان التدافع على حضور حفلاتها أكبر من أن يوصف.. وكانت عبقرية أم كلثوم أنها تمزج فى رحلاتها بين الدول المؤيدة لمصر من قبل الهزيمة مثل الكويت والدول التى كانت بين حكامها وبين مصر جفوة مثل المغرب وتونس التى قيل إن رحلتها إليها كانت سببًا فى رأب الصدع بين البلدين.. حيث غنت فى تونس بدعوة من السيدة الأولى وسيلة بن عمار زوجة الحبيب بورقيبة بعد أن كانت كوكب الشرق قد امتنعت عن تلبية دعوات الغناء فى تونس فى سنوات توتر العلاقات.. وقد حدث أن وقع متعهد فنى عقدًا مع كوكب الشرق للغناء هناك.. لكن السيدة الأولى فى تونس اعترضت عليه بعد أن قرأته وقالت إنه لا يليق بمكانة أم كلثوم وقررت أن تكون كوكب الشرق ضيفة رسمية للدولة التونسية وفتح لها قصر الضيافة الرسمى واستقبلها الرئيس وقرينته فى قصر الحكم فى حفل رسمى.. وما حدث فى كل هذه العواصم تكرر فى كل عاصمة عربية زارتها هذه السيدة ذات الكبرياء ولا يسعنى إلا أن أدعو بعض فنانينا لقراءة هذا الكتاب ومذاكرته كى يتعلموا منه معنى الوطنية والكبرياء ولا يسعنى أيضًا إلا أن أوجه التحية للفنان ياسر جلال الذى هو بمثابة حفيد لهذه الفنانة العظيمة حاول أن يحتذى حذوها ويسير على دربها ولعل التاريخ- يومًا ما- سيذكره بالتحية والإكبار كما نذكرها اليوم ونحييها ونبكى على حال بعض المنتسبين للفن ممن لا يعرفون معنى أن يكون الفنان مصريًا ولعلهم فى حاجة لمن يعلمهم هذا وتاريخ أم كلثوم خير معلم.