رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أنيس منصور يكتب: بقايا كل شىء

أنيس منصور
أنيس منصور

فى السطور المقبلة أنيس منصور آخر غير الذى نعرفه جميعًا.. إنه أنيس منصور آخر.. مختلف عن الكاتب الأكثر مبيعًا صاحب «الذين هبطوا من السماء» و«الذين عادوا إلى السماء» و«أرواح وأشباح».. إنه أنيس منصور نفسه ولكن فى الستينيات.. لذلك ستجده يكتب بقلم أديب من أدباء الستينيات وستجد أن ما يكتبه قصص قصيرة بالغة التميز والعذوبة وكأنه يقول إنه أديب مهم وليس مجرد صحفى كبير.. إنه فى هذه البورتريهات النادرة يحاكى أكبر أدباء الواقعية، ويقدم صورًا لفلاحين ومهمشين وسابحين فى بحر الحياة.. ولذلك هى كتابات نادرة ضمها كتاب نادر.. لم يعد أنيس منصور طباعته فى السبعينيات.. والمعنى أنه موهوب كبير اختار أن يصبح «الأكثر مبيعًا» وأن يقدم ما يلقى إعجاب الناس.. إنه مصرى نابه وموهوب حتى لو لم يعجبه البعض باختياراته وهو من الجيل الذى تعلم فى الأربعينيات واستفاد من التنوع الثقافى فى المجتمع المصرى فأتقن الإنجليزية والألمانية والإيطالية ويقال إنه أتقن العبرية أيضًا.. إنه ابن المنصورة حين كانت إسكندرية أخرى صغيرة على النيل، ولد فى منتصف العشرينيات ومات بعد قليل من يناير ٢٠١١، درس الفلسفة فنبغ فيها ثم أقنعه كامل الشناوى بالتفرغ للصحافة.. كان صحفيًا بثقافة دارس فلسفة وأديبًا ببراعة صحفى كبير.. استغل مهارته فى الكتابة فى تبسيط الفلسفة وشرحها للناس وهى مهمة نافسه فيها موهوب آخر هو مصطفى محمود.. وإن كان كل منهما قد انشغل بالبساطة عن العمق وبالجماهيرية عما سواها.. لمع أنيس منصور فى أخبار اليوم وترأس تحرير مجلتى الجيل وآخر ساعة وكان من نجوم أخبار اليوم وساعد فى لمعان موهبته أن الصحف كانت تملك الإمكانات المادية.. فأرسلته أخبار اليوم فى رحلات متعددة حول العالم جمعها فى كتاب «حول العالم فى ٢٠٠ يوم» وهو واحد من أمتع كتابات أدب الرحلات بغض النظر عن مصداقية ما ورد فيه والتى شكك فيها البعض.. لكنه بكل تأكيد كتاب ممتع.. ظل أنيس منصور فى أخبار اليوم حتى ١٩٧٦ حين تفرغ لتأسيس مجلة أكتوبر ورئاسة تحرير جريدة مايو.. اقترب من الرئيس السادات وصادقه ولعب أدوارًا سياسية فى عهده والتزم الصمت بعد وفاته إلا فى أقل القليل، وأذكر أنه قال لى فى حوار أجريته معه إنه لن يكتب عن الرئيس السادات إلا إذا وافق الرئيس مبارك.. وفيما يبدو فإن مبارك لم يوافق سوى على القليل.. ظل يكتب عموده فى الأهرام حتى رحيله.. ودفع ثمن حماسه لمواقف غير شعبية، وكأن السياسة قد ظلمت الأدب وكأن الرغبة فى الانتشار قد ظلمت القيمة.. فى السطور المقبلة أنيس منصور الآخر وغير المكتشف فاقرأه وتعجب من فعل الزمن بالبشر.. رحم الله أنيس منصور الآخر والأخير أيضًا. 

                                                                                                                            وائل لطفى

هذه الصفحات هى بقايا دموع.. صدى صرخات.. ترددت بعيدًا.. فى نفسى، وفى نفوس الآخرين..

لها طعم الملح، ولسع النار، ووخز الإبر، وإلحاح الضمير وبريق الأمل..

إنها خريطة لأعماقى..

وليست أعماقى، ولا كل الأعماق، واضحة..

فأنا دائمًا أحاول، دون ملل، أن أوضح نفسى لنفسى، أن أسلط نفسى على نفسى، أن أقلب نفسى بيدى وأتفرج عليها.. برفق كأننى أحبها، وبقسوة كأننى أكرهها!

وبين كراهيتى لنفسى وحبى لها: تتساقط الدموع، ويتطاير العرق، وتتمزق آهاتى، وتضيع..

وأضيع أنا.. فأنا لست إلا آهاتى!

وتنسحب كل ألوان الطيف ولا يبقى إلا لون دنياى: مرارة الطفولة، وحيرة الشباب، وفزع الرجولة!

ومن ومضة العين الخائفة، ومن رجفة النفس القلقة، ومن موت أصابعى على قلمى، ومن ابتسامة زائرة لها لون الملح ودفء النار، وطعم الضمير، ومن كل هذا، كتبت صفحات هى بقايا نفسى، وشظايا الآخرين.

إنها بقاياى.. إنها شظاياهم!

١ صاحب مصنع

 

رأيت فى قرية أحد الفلاحين يملك مصنعًا أنيقًا.. المصنع أبيض ناعم.. إنه يتحرك وصاحب المصنع يمشى وراءه.

وأحيانًا يتعب صاحب المصنع. فيجلس إلى جوار الحائط.. أى حائط.. ويسند رأسه ويحملق فى الأفق.. وفى يده عصا.. وينام وعيناه مفتحتان.. فإنه متعب لدرجة أن جفنه العلوى لا ينطبق على جفنه السفلى.. إلا بصعوبة.. إن جاذبية الأرض لا تشد جفنه.. وإنما تشد دموعه من حين إلى حين..

وعندما يصحو هذا الفلاح ويتنبه إلى أن مصنعه- مصدر حياته، مصدر ثروته- قد انتقل إلى مكان بعيد فإنه يصحو من نومه أو من يقظته.. ويمد يده إلى الأرض يجمع بعض الوقود لهذا المصنع..

لأن المصنع يعمل كل يوم.. وينتج كل يوم..

ويأتى بالمصنع ويحمله على ذراعيه.. على صدره.. فى حنان.. كأم وجدت طفلها..

ثم إذا هو يربط المصنع الصغير بحبل، ويلف الحبل حول رجله هو ويضع الوقود خلف المصنع أو أمامه.. ويعود إلى الحائط ويسند ظهره.. ويلقى بجسمه على النبوت الذى يحمله فى يده.. ويتطلع إلى سحابة فى السماء.. إنها لحاف طائر، إنها سرير من حرير.. وعلى هذا السرير يتمدد وينام.. ويترك مصنعه الصغير يعمل.. ولا يدهش أبدًا عندما يجد المصنع الأبيض الناعم يتطلع هو الآخر إلى السماء.. إلى السحاب.. ثم يسند المصنع الصغير رأسه إلى القيد.. إلى الحبل وينام.. 

.. هذا الفلاح يملك إوزة!

 

٢ تحت السلم!

«كان وجه جدتى العجوز أبيض ناصعًا.. وكان باسمًا أيضًا كأن جدتى العجوز قد نسيت أنها ماتت!».

صاحب هذه العبارة هو الكاتب النرويجى العظيم كنوت هامزن. وجاءت هذه العبارة فى قصة «الجوع».

ويذكرنى بهذه العبارة، كل صباح وكل مساء رجل عجوز لا يعرف أحد بالضبط متى ولد ولا حتى متى يموت. ولا أحد يعرف من أين جاء. إنه مثل «طرح البحر» ألقت به الحياة إلى تحت السلم.. إنه يشبه جذع نخله.. إنه جاف مجعد.. وكلامه مجعد.. فالكلمة الواحدة تتحول إلى حرف واحد أو حرفين متداخلين. ولا أحد يفهم ما يقول. فاللغة التى هى وسيلة المواصلات بين الناس لم يعد لها معنى عنده، ولم تعد لها ضرورة.. فهذا العجوز يطلق أصواتًا كالحيوانات أو القبائل البدائية..

فهناك من يقول إنه ابن أحد العمد وقد حاول أبوه أن يزوجه إحدى قريباته فرفض. وهرب من أبيه. وجاء إلى القاهرة يكسب قوته بعرق جبينه. ولم يكن صاحب حرفة. 

فهو ابن ذوات. ولذلك وقف فى الشوارع يسأل الناس أن يعطوه ما يستحقه من أموال أبيه. فهو يجمع حقوقه من جيوب الناس..

ويقال إنه جمع مئات الجنيهات.. وهذه المئات مكدسة فى صفائح.. والصفائح موجودة تحت السلم. وقد حدث فى العام الماضى أن ذهب هذا العام «عم سيد» بإحدى الصفائح وأعطاها لرجل غنى.. أمانة، واكتشف الرجل الغنى أن بها مائتى جنيه من الفضة.

ويقال إن عم سيد غضب من هذا الرجل الغنى، ورفض أن يسحب أمواله من عنده!

ويقول أناس آخرون: إن عم سيد هذا يضع الأموال فى جيوبه ويتصدق بها على الفقراء.

ولكن الذى لا أفهمه ولا أدريه أن هذا الرجل يطالب نفسه بمسئوليات ثقيلة. فهو يصر على أن يكنس وأن يمسح وأن يتولى حراسة البيت.. برغم أنه عجوز وعاجز عن السير والحركة. لا أحد يطالبه.. لا أحد يسأله شيئًا.. ولكنه يعمل ليلًا ونهارًا حتى يسقط من الإعياء على السلم..

وأكاد أضع حذائى كل يوم على صدره فيموت.. وأرى وجهه فى النور فأجده هادئًا باسمًا كأنه نسى أنه مات.. أو أنه يجب أن يموت.. 

ولكن ما الموت؟

إن هذا الرجل ليس ميتًا فهو يتنفس وهو يدافع عن حياته بما بقى لديه من قوة.

ولكنه ليس حيًا أيضًا. فالحى هو الذى له مشكلة، وهذه المشكلة هى حياته هو، كيف يحسنها؟ كيف يوسع نطاقها؟ كيف يعادى؟ كيف يصادق الآخرين؟ كيف يواجه غده وبعد غده؟

إنه ليس حيًا، وليس ميتًا.. إنه مستمر.. كأنه قناة ضيقة، بها ماء.. والماء يزحف على الأحجار الصغيرة فى قاعها.. أو كأنه غصن شجرة يتهيأ للجفاف التام.. فيه عصارة حياة، ولكنها تتناقص يومًا بعد يوم..

إن الحياة تقوم فيه بعملية جرد أو تصفية، فهى أطفأت نور عينه وقطعت الحرارة عن قلبه، وحددت إقامته تحت السلم.

وأشعر أمام هذا الرجل بالإشفاق والكراهية والفزع..

إنه مسكين ليس له أحد، وليس لأحد.. وأكره أن ألقى هذا المصير، وأكره أن أموت عضوًا عضوًا هكذا.. أن أموت على دفعات.. أن أموت بالتجزئة..

وأفزع من هذا الاستسلام الباسم..

كأنه نسى أنه مات.. أو يجب أن يموت...

وفى الليل وفى النهار عندما أعود إلى البيت أراه يزحف على السلالم..

لا أدرى كيف.. كأنه قطعة من الخبز القديم تجرها ملايين النمل..

ثم أرى التراب يزحف وراءه ويتعلق به، كأن تراب القبر يطارده..

إن عم سيد هو الحى الذى يلاحقه قبره. وهو باسم الوجه. كأنه لم يمت بعد!

3 شكة إبرة؟!

كنت أصرخ وأبكى وأقول بصوت مذبوح: والله يا دكتور.. اعفنى من حياتى كلها.. اعفنى من مشاكلى وعذابى.. إننى أحمل الكثير على كتفى.. أرحنى يا دكتور.. هذه فرصة انتظرتها طويلًا.. 

اجعلنى أنام هكذا يومًا أو شهرًا أو سنة.. أو اتركنى أنام إلى الأبد..

وكنت أرفع رأسى والضوء يتدفق ساخنًا كاويًا.. فلا أرى إلا أربعة من الممرضين وإلا منضدة طويلة تلمع بالسكاكين والمشارط والمناشير وكل أدوات القتل والتعذيب.. وكنت أرى وجه الطبيب، إنه صديقى الدكتور ف.. إننى لم أعد أرى فيه وجه الصديق.. إنه وجه جاد قاس لا يعرفنى ولا ينظر إلىّ.. ولا ينطق إلا بعبارة واحدة هى: يا أخى إنها شكة إبرة! شكة إبرة!

وسقط رأسى من كتفى إلى المنضدة التى تمددت عليها وعدت أقول: أعطنى حقنة بنج أخرى. بل أعطنى كل ما عندك من البنج.. أعطنى حقنة فى قلبى.. فى عقلى.. بل أعطنى حقنة فى أسرتى بل فى حياتى كلها.. ماذا تعمل أيها الطبيب؟ أنت تنتزع أحد أظافرى من أحد أصابعى.. ليس هذا هو الظفر الوحيد فى جسمى.. انزع كل أظافرى .. هناك أظافر أخرى فى حياتى.. وكلها توجعنى.. فى عينى وفى يدى وفى رأسى..

وكان الطبيب يضحك والممرضون يضحكون وأسمع أصواتًا تشبه الكلام.. ولكننى غارق فى ألم وعرق وخوف ويأس.

وعدت أقول للطبيب: اعفنى من حياتى كلها يا دكتور.. هل تعرف ماذا أعمل؟.. إننى كعامل التليفون.. إننى أرد على مئات النداءات.. مئات المتاعب.. كلها تتزاحم على رأسى فى آن واحد.. تصور يا دكتور هذا يحدث كل يوم.. اعفنى من هذه المكالمات.. حطم هذه الأجراس التى ترن وتئن.. اقطع الحرارة.. اقطع النور.. اقطع الماء.. اقطع أظافرى وأصابعى وحياتى كلها.

لا أدرى كم من الوقت مضى وأنا أصرخ ولا أدرى ما أقول.. ولا كيف عدت إلى بيتى.. ولكن بعد ساعتين تمامًا دبت الحياة فى أصبعى.. تفجر الدم.. والألم.. والدموع.. وأحسست بالمشارط والسكاكين والطبيب والممرضين كلهم يتزاحمون فى أصبعى ووراءهم وأمامهم ملايين من النمل والنحل..

وظللت أرميهم جميعًا بأقراص مسكنة.. واختفى الطبيب والممرضات وذابت المشارط والسكاكين ولم يبق إلا النمل والنحل.. 

ظللت ساهرًا معها حتى الصباح.

إنها شكة إبرة!!

٤ هذه الليلة لك!

يا أى إنسان هذه الليلة لك!. إن كنت حزينًا اضحك. إن كنت سعيدًا اضحك.

اضحك قبل أن ينصحك الأطباء بالاقتصاد فى تحريك الشفتين والعينين. اضحك فزماننا ملىء بالهموم. إننا غيرنا الدنيا حولنا ولم نتغير.. إننا نقطع المسافة بين القطب الجنوبى والشمالى فى ثوان، ونحتاج إلى سنوات لكى نصل من قلب إلى قلب. إن عقولنا فى العشرين، وقلوبنا فى التسعين. إننا لم نتغير، فما نزال نبكى عندما نولد. ونظل نبكى مدى الحياة.. ويبكى الناس علينا بعد أن نموت. فأنت ترى أننا نقترض دموع الآخرين!.

هذه الليلة لك. لا تسأل عن المناسبة ولا تسأل من صاحب المولد؟. إنه أنت وكل الناس. وفى استطاعتك أن تولد الليلة دون بكاء.

اخرج من البيت، إلى أى مكان وفى أى وقت. ستجد الناس كلهم هناك فى انتظارك فى أجمل ملابسهم وأجمل نسائهم. هناك الموسيقى والطعام والشراب. املأ حياتك بهم. انظر إلى وجوه أخرى غير وجهك، واستمع إلى أصوات أخرى غير صوتك. اخرج من ملابسك من جلدك الحقيقى وجلدك الزائف.

هل تعرف الجلد الزائف الذى نصنعه جميعًا؟ إننى لا أريد أن أضيع وقتك وأن أشغلك عن الخروج إلى الشارع أو إلى أى مكان.. لن أستغرق إلا دقيقة واحدة.. أنت تعرف أن الحداد له يد غليظة وأن الفلاح له قدم غليظة، وأن بائع العرقسوس ينحنى إلى الوراء، وأن السقا ينحنى إلى الأمام.. إنهم جميعًا يتأثرون بالعمل الذى يعملونه.

إن هذا العمل يترك أثره فى أجسامهم وفى نفوسهم، وكل إنسان كذلك. فالعمل يضغط علينا. انظر إلى الخاتم فى أصبعك، انظر إلى «جلدة» الساعة فى يدك.. إنها تركت أثرًا يبقى بعد نزعها من يدك.. فتصور أنت أن هناك مليونًا مثل «جلدة» الساعة قد غطت أيدينا وأرجلنا وقلوبنا وعقولنا، ليلًا ونهارًا..

وهذه الليلة يجب أن نُلقى بها بعيدًا، أن ننساها. يجب أن تأخذ إجازة من نفسك من جلدك الزائف.. أن تكون اليوم إنسانًا لا موظفًا ولا عاملًا. فأنت نسيت أنك إنسان ولم تعد تذكر الاسم المكتوب فى بطاقتك النقابية وبطاقتك المصلحية.. أنت شىء آخر ويجب أن تتذكر هذه الليلة أنك كائن آخر.

أنت الآن بين الناس. أنت الآن نقطة فى بحر حى. ليس هذا هو المهم. ليس المهم أن يكون الناس معك.

ولكن المهم أن تكون أنت مع الناس. فمن الممكن أن أتطلع إلى الناس ولا أراهم لأننى سرحان أو لأننى أعمى. ومن الممكن أن أحضر حفلة موسيقية فلا أسمعها لأننى أطرش أو لأن همومًا داخلية تملأ أذنى بالقطن.

فالمهم أن أشعر بالناس، أن أفتح لهم نفسى ليدخلوا ويضحكوا ويملأوها ويملأونى. إن الطيور تسبح فى الماء ولكنها لا تبتل لأن ريشها مغطى بالزيت.. والذين يسبحون يغطون أجسامهم بالشحم حتى لا تبتل أجسامهم.. إنهم فى الماء لا يشعرون به.. وأنت فى الناس ولن تشعر بهم إلا إذا نزعت هذا الشحم بل هذا الريش كله.. وإلا فأنت الأطرش فى الزفة.. وإلا فأنت السقا الذى لم ينس قربته يوم زفافه فحملها على صدره وراح يوزع الماء على المدعوين ونسى عروسه.. فإذا هربت منه العروس فهى على حق، وإذا ضحك منه المدعوون فهم على حق أيضًا.

الليلة لك.. فانس قربتك. وتذكر عروسك. والناس حولك. ولا تفكر أبدًا فى المناسبة التى من أجلها يفرح الناس هذه الليلة.. اضحك. اشرب. ارقص.. فإن الموت قريب. والناس يموتون فجأة فلماذا لا تعيش فجأة؟ لماذا لا تضحك فجأة؟ لماذا تسأل الناس أو حتى نفسك عن المناسبة التى يحتفل بها العالم كله؟

اضحك بلا سبب بلا مناسبة.. سيكون لديك وقت لتعرف السبب والمناسبة فيما بعد..

وإذا كان لا بد أن تعرف المناسبة.. فاليوم هو الكريسماس..

ومن أجل ذلك يحتفل أتباع موسى وعيسى ومحمد. ففى هذا اليوم ولد أحد دعاة السلام على الأرض. وكان مصيره هو نفس مصير دعاة السلام: العذاب والهوان والسخرية.

اليوم يحتفل الناس بذكراه.. فيشربون نبيذًا فى لون دم المسيح، ويصابون بصداع كالمسامير التى دقت فى رجليه.. ثم على أحزانهم وهمومهم السلام.. وفى نفوسهم المحبة!

لا تنظر فى ساعتك.. فلدينا كثير منها فى كل يد وفى كل حائط وفى كل ميدان وفى كل صحيفة. ولكن انظر إلى وجهك فى عينى الفتاة التى تجلس إلى جوارك.. وعش معها.. فالناس لا يعيشون إلا معًا.. ولكن عندما يموتون، يدخلون القبر فرادى..

اضحك، فهذه الليلة لك.. ولا تتذكر شيئًا من هذا الكلام!

5 تحت أقدامنا

أبناء شارعنا، لا ينظرون إلى فوق.. ففى ذلك خطر عليهم، ففى الأرض حفر وفيها بالوعات وطوب وفيها أطفال صغار وعليها خضروات وليمون وطماطم وتتساقط عليها أرغفة من الخبز.. وقد يصطدم الإنسان ببائع لبن أو يرتطم بتلميذة فى طريقها إلى المدرسة.. وقد يسمع من حين إلى حين: فتح يا أفندى.. يا فتاح يا عليم.. صبحنا وصبح الملك لله. فالنظر إلى الأرض أحسن وأريح..

وفوق.. فيه إيه؟

لا شىء.. فوق مثل تحت.. ناس فوق بعض.. ثم فوق إيه؟

فوق الأسطح أسوأ جدًا من الشارع.. وأسوأ من الناس اللى تحت.. أسطح البيوت مليئة أيضًا بالحفرات والمطبات والتراب والعفونة.. وليس فوق إلا الفراغ.. بلاليص فارغة وصفائح وصناديق.. وقوالب طوب وحجارة وأعواد حديدية، وطيور وأرانب.. ليس فوق إلا الفراغ وإلا «الفوارغ».. وأسطح البيوت لا يسكنها إلا عدد قليل جدًا من الناس.. إنها كالقمم. ضيقة منعزلة باردة.. إن قمة الهرم العظيم ضيقة جدًا.. منعزلة باردة.. الصراخ ينتهى إليها كهمس، الأشياء تبدو منها ضئيلة جدًا، والرجال يبدون فى حجم الأطفال، والأطفال فى حجم القطط.

عندما تنزل الأمطار تتسخ أقدام الناس الذين تحت، أما الذين فوق فتتسخ رءوسهم. عندما تحدث الزلازل يهرب الذين فوق إلى تحت. إلى حيث يعيش الناس، إلى حيث تكون الضوضاء غطاء وغذاء لهم..

لقد أقبل الصيف.. وأقبلت السهرات الطويلة فوق.. فوق الأسطح بين الكلاب والقطط والعرس والثعابين.. وأقبلت المشاجرات بعد منتصف الليالى.. والصرخات النائمة، اقفل الراديو يا جدع يا للى هناك. اسكت. أنت مالك.. أنا مش عارف أنام.. روح نام فى الزمالك.. نامى يا ولية.. أدينى نايمة.. الناس يقولوا إيه.. يقولوا إيه بنسرق.. ما لهم الناس.. انت يا للى رميت علينا الميه.. اللى يلعن ويخرب ويحرق.. إلخ.

ونحن أبناء هذا الشارع لا نعرف أين سنتجه بأنظارنا إذا قامت بلدية القاهرة وسدت أفواه الحفر، وأحكمت غطاء البالوعات، وجمعت الأطفال وأجلست بائعى الليمون على مقاعد.. لا نعرف.. فقد تعودنا النظر إلى ما تحت.. تحت أقدامنا!

من كتاب «بقايا كل شىء»