رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كنا أكثر سعادة عندما كنا أقل استهلاكًا

فى الستينيات قررنا التضحية من أجل بناء بلدنا وصنعنا جميع احتياجاتنا

لم يكن لدينا هذا النهم للاستهلاك وكنا أكثر سعادة

أنشأنا مئات المصانع وأوقفنا الاستيراد ولم يكن لدينا عاطل

أرحل بذاكرتى، ويرحل جيلى معى لنتذكر أيامًا لا يمكن أن تُنسى، فرض علينا فيها الغرب حصارًا اقتصاديًا؛ لإركاع مصر، وكسر أنف زعيمها، وإذلال شعبها. لم تكن فى البنوك دولارات، ولم يعترف البنك الدولى باقتصادنا، واعتبره هشًا، ورفض إقراض مصر تحت الضغط الغربى. 

كنا نواجه دولًا عظمى، مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا. كنا فقراء كدولة، ولا نملك حتى القدرة على الاستدانة، وكانت مواردنا محدودة جدًا رغم آمالنا العظيمة، فقررنا- نحن الشعب- التضحية بكل شىء لبناء بلدنا، وتصنيع جميع احتياجاتنا. 

كان «وابور» الكيروسين فى كل مطبخ، و«لمبة» الجاز على استعداد دائم إذا انقطعت الكهرباء. كانت المكواة الحديدية فى كل بيت، وكان البقال لا يبيع سوى الجبن الأبيض، والحلاوة الطحينية، وبعض أنواع السمن المحلى النادر وجوده. كانت هناك ثلاثة أنواع فقط من الصابون: الأول أزرق، ويسمى «أبوالهول» لغسيل الملابس، والثانى «صنلايت» لغسيل الأطباق، والثالث «نابلسى شاهين» للاستحمام. لم نعرف الشامبو، أو الصابون ذا الرائحة، ومع ذلك كانت البيوت تصنع الصابون المحلى، وتقشط الألبان لتصنيع السمن البلدى، وتربى الدواجن. كان الشاى والسكر من الرفاهيات، ونأخذهما ببطاقات التموين مع زيت بذرة القطن بعدد أفراد الأسرة. 

أوقفنا الاستيراد تمامًا، وبدأنا التصنيع. حين أنتجت المصانع الحربية البوتاجاز كان نوعًا واحدًا، وهو الذى كان فى كل منزل. وأنتجت شركة النصر للتليفزيونات نوعًا واحدًا حجزناه وانتظرنا سنوات للحصول عليه. صنعنا سيارة لأول مرة، وأطلقنا عليها «رمسيس»، وصنعنا الثلاجة إيديال، والغسالة اليدوية، لتزداد رفاهية الطبقة الوسطى التى كانت تنمو باطراد. 

كانت هناك قناعة ونحن نشترى «الكستور» المصرى لتفصيل ملابسنا، وكانت هناك عزة ونحن نشترى منتجات شركة المحلة من فروع صيدناوى وعمر أفندى. ومع كل ذلك، طالبنا رئيس الدولة بربط الأحزمة حتى ننفذ خططنا الخمسية الأولى والثانية، ووقف الشعب يدًا واحدة للتضحية بجيل كامل من أجل أجيال قادمة، وأنشأنا مئات المصانع، ودارت عجلة الإنتاج والتصنيع، فكان من الصعب أن يوجد عاطل. كانت هناك قناعة بأن المستقبل أفضل. ورغم انهيار كثير من أحلام هذا الجيل بالهزيمة العسكرية واحتلال الأرض، فإن هذا الجيل المضحى رفض الهزيمة، وبدأ الإعمار، وحرب الاستنزاف رغم تهجير ثلاث مدن مع توقف الملاحة فى قناة السويس، وتلاشى دخلها تمامًا. 

رغم كل ذلك خرج المبدعون فى الفن والثقافة والعلم، وأرسل الأزهر البعثات التبشيرية إلى كل ركن فى إفريقيا، وفتحت مدينة البعوث أبوابها لطلبة العالم ليدرسوا فى أزهرنا الشريف اللغة العربية والدين. وذهب المدرسون والأطباء إلى كل مدينة عربية لتعليم أبنائها تحت نظام إعارة محكم، تحملت فيه الدولة رواتب المدرسين فى الدول الفقيرة، مثل الصومال واليمن. 

كانت الوطنية فى أوج مجدها، وكان شعارنا «يد تبنى، ويد تحمل السلاح». كانت كرامتنا فى السماء، وكان صوت إذاعتنا يغزو كل بيت عربى، وأنشأنا الإذاعات الموجهة بكل لغات الأرض. لم نكن نرتدى ملابس اليوم بظاهرها الدينى؛ بل كان رداؤنا الأخلاق الحميدة، والاحترام المتبادل، وكلمة الرجل التى كانت أوثق من أى عقد. كانت هذه مصر، وكان هذا جيلنا وجيل آبائنا. 

ومرت السنون، لنكتشف أن جيلنا وجيل آبائنا قد أضاع مجهوده هباء؛ فقد أصبح بلدنا يستورد كل شىء، ونضيع كل دخلنا من العملة الصعبة على منتجات لا تُجدى، وبعنا مصانعنا أو هجرناها، وجاء جيل يشكو ولا يعمل، يكذب ويفبرك، ولا يحترم كبيرًا أو صغيرًا، ويستمع إلى الأغانى الهابطة وكأنها طرب أصيل. نلبس زيًا دينيًا بلا أخلاق؛ فالكذب والنفاق والنميمة والفضول والتطاول أصبحت من سمات العصر. وضاعت لغتنا العربية إلى الفرانكو أراب. أصبح الجشع والطمع والرغبة فى الوصول، مهما كانت الطريقة، من المسلمات، وأصبح المال هدفًا فى حد ذاته وليس وسيلة. تخيل لو أن هذا الجيل قد طُلب منه الآن ربط الأحزمة كما طُلب منا، أو الاستغناء عن الاستيراد كما فعلنا، أو أن يغسل ملابسه كما غسلنا، أو أن يشترى ملابسه من الصناعة المصرية فقط كما لبسنا، أو أن يصنع صابونه كما صنعنا، أو يكتفى بالفول والجبن والحلاوة كما أكلنا، أو أن يعتبر الشاى رفاهية كما اعتدنا.. ماذا سيفعل؟! 

نعم كنا فقراء إلا من العزة.. فهل تتذكرون ما أتذكر؟