رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قصة انقضى عليها مئة عام

كثيرًا ما يبدو أن قراءة قصة مضى على ظهورها مئة عام أمر قليل الجدوى، غير شيّق، لأنها من زمن ولّى، وغرب، وتطرح قضايا لم يعد لها مكان فى حياتنا، لكن الأمر يتوقف على كيفية قراءة ما مضى وبحثنا عما يمكن أن نستخلصه من العمل.

انظر مثلًا قصة «ثريا» لعيسى عبيد، أحد رواد القصة القصيرة، التى ضمتها مجموعته «ثريا» عام ١٩٢٢م، مر على كتابة القصة مئة عام بالتمام، ومع ذلك فإن قراءة العمل بتمعن ستمنحنا الكثير. ولننظر فى موضوع القصة أولًا، إنها تعالج مشكلة زواج المسلم من مسيحية حين ترتبط ثريا بمحمد، ومشكلة أن ثريا فى حالة الطلاق «لا تجسر على الاندماج ثانية فى عنصرها الأصلى (يقصد الأقباط) ولا يُقدم أحد من هذا العنصر على الزواج منها».

إذن أول ما نضع أيدينا عليه أن مشاكل هذا النوع من العشق والزواج كانت تؤرق الناس منذ مئة عام، فى الوقت ذاته يصف الكاتب النساء على شاطئ الإسكندرية بقوله: «كنّ يسرن على الشاطئ بلباسهن البحرى وهو يهبط إلى ما فوق الركبة بكثير تاركًا نصف الفخذين والساقين عاريين»! هذا منذ مئة عام! ويكتب ص ٥٨ أن الفتيات كنّ: «عاريات لا يسترهن أحيانًا إلا فوطة الحمام، يرتدين لباسهن أو ينظمن شعورهن بكل سكون وعدم مبالاة تحت أنظار الشباب».

ولا تثير تلك الوقائع دهشة الكاتب وهو يصفها ولا استنكاره، بل إنها ترد فى النص بصفتها أمرًا مألوفًا لا يستحق التوقف عنده، كان ذلك عام ١٩٢٢.

وتستوقفنا تلك الحقيقة لنسأل أنفسنا: وماذا جرى للمصريين، أو على المصريين، بحيث تنقلب الأوضاع تمامًا وتصبح المرأة عند البعض مجرد عورة لا بد من تغطيتها؟ تدهشنا القصص المبكرة التى انقضى عليها مئة عام حين تكشف لنا أين كنا منذ مئة عام؟ وأين أصبحنا؟.

أيضًا تثير القصة قضايا لغوية لا تقل أهمية، إذ تكشف لنا عن كلمات ما زلنا نستخدمها إلى الآن مثل كلمة «بقف» أى ثقيل الظل سمج، وترد عند الكاتب حين تقول ثريا: «أشكرك أنك خلصتنى من البقف الثقيل ده»! وهى الكلمة التى ما زلنا نستخدمها إلى الآن. ويكتب عيسى عبيد ص ٧٩ على لسان بطلته: «فشر.. ده مستحيل».

وهكذا فإننا حين نقرأ تلك اللغة نجد الصلة التى تربطنا بماضينا الثقافى والاجتماعى والتاريخى. فى الوقت ذاته سنجد كلمات أجنبية استخدمها المؤلف لم نعد نعرف معناها، مثل قوله: «وقد كلفته السيدة أن يعمل لها (لافامانو) فأنجز الشاب طلبها ورفض تناول أجرة على عمله».

ولكن ما معنى كلمة «لافامانو» هذه؟ لا بد أنها كلمة كانت شائعة حينذاك، لكنك لا تستطيع أن تفهم معناها الآن، ولن تجد لها تفسيرًا لها فى أى مكان، وهذا بحد ذاته درس للأدباء فى عدم استخدام كلمات أجنبية قد تمسى مع الوقت غير مفهومة نهائيًا!

أخيرًا ترد فى القصة إشارة إلى فهم قديم متجذر يرى السياسة بصفتها نوعًا من الاحتيال، وذلك حين تقول بطلة القصة: «عملت لى البوليتيكا التى تعملها لمعارف عمتى»، أى أنها راحت تحتال وتنصب.

أخيرًا قد تجدر الإشارة إلى أن المقدمة التى وضعها المؤلف لمجموعته القصصية تشى بالمرارة من تجاهل الأدب والأدباء ودور الفن والثقافة، وكان ذلك منذ مئة عام.