رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثقافة «الرحمة» فى المجتمع المصرى!

(١)

حين بدأتُ ممارسة مهنة الإرشاد السياحى عام ٩٥، كنا نزور منطقة الأغاخان بصحراء غرب أسوان. كان بالمكان عددٌ غير قليل من الكلاب التى كان يدهشنى سلوكُها فترة طويلة قبل أن أفهم سر هذا السلوك. حيث كانت تلك الكلاب تهرول دائما ناحية الضيوف الأجانب، وتقريبا لا تُعير المصريين اهتماما، إنْ لم تنفر منا بشكل صريح أحيانا أخرى!

لم يكن الضيوف يعرفون مسبقا عن وجود كلاب بالمنطقة، فلم يكن فى غالبية الأحوال معهم ما يقدمونه لهم، لكنهم كانوا يتجاوبون مع تلك الكلاب ويقفون ويربتون عليها ويداعبونها!

ونحن أطفال، كنا نعرف كلمة (السّمّاوى) جيدا، فهو الذى يقوم فى بعض الليالى بقتل كلاب الشوارع بالرصاص!

وفى بعض ليالى الشتاء وسكونها الكئيب الموحش، وقبل أن يعرف المصريون بثَ القنوات التليفزيونية طوال الليل، حدث أنْ سمعنا عواء كلبٍ ينتحب، لكنه كان عواءّ أخيرا حزينا!

الكلاب نجسة تنقض الوضوء ولا يجوز إدخالها البيوت، ويجب التخلص من أى إناء يلمسه كلب!

أذكر من سنوات قليلة هناك من وضع سما فى طعام كلب فى منطقة مجاورة رغم أن هذا الكلب كان مسالما جدا، ولم يكن مصابا بسعار مثلا!

منذ سنوات فتحتُ كتاب تراث دينى أفتش عن سر الكلاب، فوجدتُ كومة من الآراء الفقهية تستند لبعض الأحاديث المنسوبة للنبى (ص) عن قتل الكلاب ذات المواصفات الخاصة، ومعها آراء فقهية أخرى عن وجوب قتل بعض الحيوانات والدواب!

أطفالٌ نشأوا على تلك الثقافة غير الرحيمة لا يُستغرب منهم سلوك عدواني تجاه الكلاب أو غيرها من الحيوانات مثل قذفها بالحجارة!

لقد أدركتُ سر كلاب منطقة الأغاخان وأدركتُ أنهم فهموا ثقافتنا تجاههم ربما أكثر من بعضنا الذين كانوا يسخرون من سلوكها ويضعون لهذا السلوك تفسيرات هزلية سمجة!

لقد أدانتنا الكلاب وأقامت الحجة علينا أمام الله! 

المفاجأة الحزينة أن أوائل الرحالة وزائرى مصر فى القرن التاسع عشر ممن سجلوا تفاصيل مشاهداتهم قد وصفوا مشاهد قيام الأطفال بتعذيب الكلاب والقطط الصغيرة فى الشوارع، وسط ضحك الكبار الجالسين فوق المصاطب أمام بيوتهم!

(٢)

من الممارسات التى ما زالت حاضرة فى بعض مناطق مصر السياحية، حبسُ وأحيانا بترُ بعض أعضاء حيوانات أو زواحف فقط من أجل المال!

فخطف حيوانٍ متوحش خارج بيئته، وتكميم فمه أو فكّه، ثم حبسه لعرضه للسائحين هو مما يندرج تحت بند تعذيب الحيوانات! 

والبحث عن عقرب أو ثعبان فى الصحراء ثم بتر إبرة العقرب أو سن الثعبان، ثم حبسهم فى زجاجة لعرضها للسائحين هو من قبيل التعذيب!

 فهذه الحيوانات المتوحشة أو الزواحف السامة خلقها الله فى بيئات بعينها غالبا بعيدة عن الناس، وفى حال وجود تهديد محدد لحياة الإنسان فمن حقه الدفاع عن نفسه، لكن ليس من حقه أن يقوم بممارسات مثل خطف حيوانات وزواحف من بيئتها ثم ممارسة أنواع مختلفة من التعذيب والتشويه ضدها مقابل المال!

الغريب أننا كمجتمع لا نرى أى تناقض بين تلك الممارسات وبين الحفاظ - لدرجة التصلب - أحيانا على الطقوس الدينية!

(٣)

إن أحد أهم الأسباب لأزمة منطقة إدفو السياحية، هو استخدام عدة مئات من الخيول بشكل يتعارض مع قيم الرحمة ويثير موجة استياء دائمة، مثل اعتياد ضربها بالسياط حتى مع قيامها بالعمل لفترات طويلة أو استخدام الأنثى الحامل منها للعمل الشاق، أو الهزال الواضح على كثيرٍ منها لسوء التغذية وفرط الاستخدام الشاق لها!

 وخلال أكثر من ربع قرن – فترة ممارستى المهنة – يمكننى القول إننا فشلنا فى تغيير تلك الممارسات توعويا، وهربت بعض الشركات من الأزمة بإلغاء المنطقة من برامجها!

(٤)

منذ أيامٍ قليلة كتب صديقٌ ملاحظة هامة فى صيغة تساؤل.. لماذا دائما يحدثوننا عن عذاب القبر ولا يحدثوننا عن نعيمه؟! 

ولماذا يخوفوننا من لقاء الله ولا يبشروننا بلقاء الرحمن الرحيم؟!

جاء التساؤل من صديقٍ أبعد ما يكون عن تيار التنوير أو التمرد على نماذج التدين التقليدية! بما يعنى أنه شاهدٌ من أهلها وأن تساؤله يكشف حقيقة واقعة!

أضم لتساؤله ملاحظة مهمة. حين أستعرضُ كم خطب الجمعة التى سمعتهُا وأنا فى الخمسين من العمر، فلا أتذكر خطبة واحدة تحدث المصريون عن الرحمة بالحيوانات الضالة، أو ما الذى يجب اتباعه طبقا لتعاليم الدين حين نجد كلبا مصابا فى قدمه ويكتفى بنظرات حزينة علّ أحدنا يراها ويفهمها ويخفف من ألمه!

ولكى أكون صادقا تماما، فإننى أتذكر خطبة منذ سنواتٍ طويلة عن الرجل الذى هبط البئر ليسقى الكلب بحذائه. حتى حديث المرأة التى حبستْ القطة ومنعت عنها الطعام فدخلت النار لذلك، حتى هذا الحديث قرأته ولم أسمعه على منبر!

بل هناك معنى مضاد سمعته كثيرا – نصا أو معنى – من رجال الدين على أحداث سياسية معينة. هذا المعنى يسفه من فكرة اهتمام الغرب بالحيوانات وأن هذا الغرب رحيمٌ بالحيوانات غير رحيم ببعض البشر مثل المسلمين المضطهدين هنا وهناك!

ولا أدرى ما هذا الربط الغريب الذى كان يصر عليه بعض رجال الدين، ويكون من نتيجته وصول فكرة خاطئة لنا كعوام وهى أن الإسلام لا يقيم للرحمة بالحيوانات وزنا!

حين نضع هذا فى مواجهة كم الخطب التى يمكن أن يكون سمعها المصريون - عبر سنوات طفولتهم وصباهم - عن المعارك والحروب والقتل والجهاد من وجهة رجال الدين، يمكننا بسهولة إدراك الخريطة النفسية للمصريين المعاصرين!

(٥)

إننا نكرر قبل تلاوة أية آية قرآنية البسملة مقترنة بصفتى الرحمن الرحيم.. لقد فضل الله هذين الصفتين ليُذكَرَ بهما آناء الليل وأطراف النهار! 

إننى أعتقد أن تفضيلَ الله لهما رسالةٌ للمسلمين بأن الرحمة هى الصفة والسلوك الذى يذكّرنا بهما اللهُ باستمرار فى كل صلاة، وفى كل تلاوة، وقبل الأكل وقبل كل قولٍ أو فعلٍ نبدأه بالتسمية!

فلماذ رفض كثيرٌ من رجال الدين فهمَ هذه الرسالة ولم يقوموا بمتطلبات نقلها للمسلمين فى مصر؟!

لماذا كانوا يقومون مثلا بتخصيص عدة خطب متتالية عن أحداث غزوة عسكرية فى صدر الإسلام؟، أو حتى عن غزوٍ عسكرى قام به بعض العرب لبلاد الغير واستحسان ذلك، بينما لم تحظَ منهم فكرة غرس ثقافة الرحمة فى المجتمع بنفس الاهتمام والاعتقاد؟!

فهل يحتاج رجال الدين فى مصر لتثقيف إنسانى بجانب التثقيف الدينى لأنهم مسؤولون بدرجة كبيرة عن تشكيل المشاعر العامة لدى المصريين، ولأن فاقد الشىء لا يعطيه؟!

(٦)

إعلانات التوعية ضد التنمر على شاشات القنوات المصرية خطوة إيجابية كبيرة لتهذيب مشاعر أفراد هذا المجتمع. 

لكن ما غاب عن هذه الإعلانات وربما عن فهمنا هذا السلوك هو أن تفسيره الخفى يكمن فى غياب قيمة الرحمة، فالتنمر يجسد أزمة مشاعر أكثر منها سوء سلوك!

فأصحاب القلوب الرحيمة قطعا لن يحتاجوا لأى توعية تخبرهم بأن القسوة خطيئة يجب تجنبها، لأنهم بطبيعة قلوبهم الرحيمة لن يقترفوا تلك الخطيئة!

فمن يرحمون الحيوانات الضالة لن يكسروا قلوب بشر! وللأمانة فهذا السلوك موجودٌ فى كل المجتمعات، لكن المجتمعات التى أدركت قيم الرحمة بادرت إلى مقاومة هذا السلوك غير الرحيم! 

(٧)

من العوامل التى جعلت من مجتمعنا مجتمعا يفتقد فى مجمله لثقافة الرحمة، أن أطفالنا وهم صغار تم تعبئتهم وتعليمهم بطريقة تفتقد الرحمة. 

فالموسيقى لم تعد مادة أساسية فعلية يتعلمها جميع الأطفال فى جميع مدارس مصر!

فلنتخيل أطفالا لا يدرسون موسيقى، يذهبون للمساجد فيسمعون خطبا لا تقترب من قريب أو بعيد من أفكار الرفق بالحيوان أو الرفق بالأضعف، فماذا يُنتَظر منهم حين يكبرون؟!

من المواقف الكاشفة.. أن مجتمعا تخطى عدد سكانه مائة مليون إنسان يعتبر أن صورة رجل يفضل أن يمنح معطفه للكلب لتدفئته عن أن يستدفئ به حدث غريب كبير يستحق أن يتم نشره على السوشيال ميديا بدلا من أن يكون حدثا عاديا! وأن الرحمة فطرة الله التى فطر عليها الإنسان! 

إننا فى حاجة لإعادة صياغة مساحات كبرى من مشاعرنا، وغرس قيمة الرحمة فى تجمعات الأطفال، لكى لا يمروا بنفس ما مررنا به فى العقود السابقة من طُرق تعلم جافة ووعظٍ دينى فى منتهى الفظاظة والغلظة!

فلماذا لا يُخصص يومُ عطلة أسبوعية مرة كل شهر فى المدارس الابتدائية.. يخرج فيه المعلمون مع التلاميذ – بإشراف ممرضة لكل مدرسة يتم انتدابهم لهذا اليوم فقط – إلى  شوارع مصر لإطعام الحيوانات من كلاب وقطط وتقديم المساعدة الطبية للمصابين منهم؟!

لماذا لا تخصص وزارة الأوقاف خطبتين أو ثلاثا كسلسلة متصلة عن سيرة النبى (ص) وسلوكه ورحمته بالحيوانات، وعما ينبغى أن يقوم به المصريون فى الشوارع مع الحيوانات؟!

لماذا لا تُعاد مادة الموسيقى كمادة أساسية فى جميع المدارس وكمادة حقيقية عملية ليست نظرية فقط؟!

إننا فى حاجة لمواجهة أنفسنا بالحقيقة..

إننا – فى مجملنا وكعدد سكان – نحتاج لأن نكون أكثر رحمة فى علاقاتنا بباقى المخلوقات التى لم يمنحها الله القدرة على التعبير عن احتياجاتها أو آلامها، لكنه ألقى فى أعناقنا مسؤوليتها ما دامت تحيا بيننا!

مجتمعنا فى حاجة ماسة لنشر ثقافة الرحمة فى كافة المراحل العمرية وكافة الفئات الاجتماعية!