رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«أفيون وبنادق».. التحليل السياسى لخُط الصعيد بعيون «صلاح عيسى»

أفيون وبنادق
أفيون وبنادق

دائمًا ما يهتم التاريخ والذين يكتبونه بالبطل والأسطورة، يهتمون بالأكثر تأثيرًا وجذبًا للانتباه والأكثر إثارة للدهشة.. يدوِّنون كل ما صدر عنه، دائمًا ما يهتم التاريخ بالصورة ونادرًا ما يهتم بالصعاليك والمهمشين الذين يصنعون الواقع ويشكلون الحياة وهم الأكثر إحساسًا والأكثر معاناةً.

القليل من المؤرخين هم من يهتمون بكتابة ما وراء الصورة وما خلف الجدران وما تحت ظلام الليل الحالك. فهناك يعيش أفراد تعبث بهم الحياة، تجرحهم حتى ينسوا معنى وجودهم فليس هناك فرق بين الحياة والموت، فهم يعيشون رحلة التحول من الإنسانية إلى اللاإنسانية بفعل لا إنسانية مجتمعاتهم أو أنظمتهم. فيفقدون كل معانى النبل كالإحساس بالآخر والبعض يفقد كل معانى الاحترام والتقدير وكل ما يتميز به الإنسان عن الحيوان ويكوِّنون نظامًا وعادات وتقاليد خاصة بهم فيجدون فيها العزاء الأخير لأنفسهم والهروب الأمثل من صعوبات الحياة والمهام الملقاة عليهم. فدائمًا ما يأتى المجتمع وسياساته وأنظمته بالتأثير على أفراد هذا المجتمع خاصةً الضعفاء والفقراء والمهمشين. فلكل فعل رد فعل مساوٍ له. 

وفى هذا الكتاب، يحاول الكاتب رصد ملامح موجة العنف السياسى التى خضبت بالدم تاريخ العقد السابق على قيام ثورة ٢٣ يوليو مباشرةً، فقد لاحظ أن حياة أولاد الليل هى الوجه المكمِّل لهذه الظاهرة.

فى كتاب «أفيون وبنادق»، الصادر عن دار «المحروسة» للنشر والتوزيع، يؤرخ الكاتب والصحفى صلاح عيسى قصة حياة «محمد محمود منصور» الشهير بـ«خُط الصعيد»، صياد السمك الفقير ذى الملامح النقية التى تتسم بالجمال. الصياد الذى تحوّل إلى مجرم وسفاح خطير وكان ذكر اسمه كفيلًا بأن يرعب الكثير، ليس مواطنًا عاديًا فقط بل يرعب الشرطة ورؤساء الوزراء ووزراء الداخلية، حتى الملك فاروق نفسه كان يتابع أخباره بشغف واهتمام.

يشرح الكاتب الأسباب السياسية التى أدت لظهور هذه الظاهرة وفى هذا الوقت تحديدًا «ما قبل ثورة يوليو وجلاء الاحتلال الإنجليزى عن مصر بشكل جزئى مع فرض قيود وشروط»، فظهر «الخُط» بصورة خاصة، وانتشر أولاد الليل بصفة عامة فكانت هذه الظاهرة ناتجة عن تفاهة الحياة فى ظل احتلال امتهن كرامة الإنسان المصرى طويلًا، وقد تركزت فى وجدان الناس؛ فزاد الإحساس بمهانة الإنسان ورخص ثمنه، وكانت السلطة فى يد أقليات سياسية مكروهة، وتفتقد تمامًا أى رصيد من الحب الشعبى.. سلطة متبلدة الإحساس تجاه مشاعر الناس الجماعية: الأوبئة تنتشر، الملاريا، والحمى، وبعض حالات الطاعون. والناس تموت من الجوع موتًا حقيقيًا لا مجازيًا وفى مقابل ارتفاع الأسعار واختفاء السلع، أثرى المضاربون والأفاقون والمهرجون، وعرفت الشرائح العليا من الطبقات المالكة جنونًا فى الإنفاق لم تعرفه طول عمرها، ونَزَت شبقًا للاستمتاع، والتبديد بسفاهة تاريخية. فكل هذا طرح خلق نماذج عديدة من البشر تمتاز بالعنف. نماذج هانت لديها حياة الآخرين، «وطرح العذاب المصرى نفسه خلال عنف مكثف ورهيب، وصل إلى درجة من التوحش الفردى» يستوى فى كل ذلك «المقاتل السياسى»، و«اللص»، و«ابن الليل». 

ولقد اضطربت ممارسة تلك النماذج للعنف اضطرابًا شديدًا؛ فعبر عن نفسه عبر منعرجات شديدة التعقيد؛ فطاشت أهدافه كثيرًا، وأصابت كثيرًا. توجهت هذه الأهداف ضد «الذات» كما توجهت ضد «العدو» ووُجهت ضد «المجرمين» بنفس الدرجة التى فعلت ضد «الضحايا». فكان ظهور ظاهرة أولاد الليل رد فعل لظلم المجتمع وعدم التساوى بين أفراده وكثرة الأعيان والأغنياء على حساب الفقراء الذين يموتون من الجوع والمرض لكن التعاطف بين أولاد الليل والبسطاء تحوّل إلى الشعور بالعظمة وحب التمرد واللجوء دائمًا للعنف ضد السلطة بل وصلوا إلى ممارسة هذا العنف على الأبرياء لتحقيق رغبة وغريزة وهى العنف.

بعد الحرب العالمية الثانية وهزيمة جيش الاحتلال فى مصر فى الصحراء الغربية ترك الجنود الإنجليز وراءهم أعدادًا لا تحصى من الأسلحة، فكانت الأسلحة تُباع على الأرصفة بأسعار رمزية وكانت رحلة إلى الصحراء كفيلة بحصد الكثير من الأسلحة الملقاة على الرمال. وكان المواطنون يسرقون جنود الاحتلال فى معسكراتهم، يسرقون أسلحتهم وطعامهم وملابسهم، فكانت لصوصيتهم تتغلب عليهم كثيرًا مكتفين من النضال ضد الاستعمار بسلبه ما يملك. 

فى تلك السنوات الغريبة أصبح «اللعب بالسلاح» موضة العصر، وكان الخُط مجرد واحد من آلاف لعبوا بالقنابل والمسدسات، كما لو كانوا يلعبون الكرة. ومن هذه المعسكرات تسربت الأسلحة والذخيرة بكميات كبيرة خاصة بعد جلاء أغلب القوات عن مصر ورغبتها فى تخفيف حمولتها، فتركت وراءها الكثير من الأسلحة والذخيرة وكان طبيعيًا فى ذلك الوقت أن يجد العنف طريقه بعد توافر الأدوات التى يمكن بها ممارسته وبعد أن خلق تعقيد الحياة دوافعه: من الفقر، والظلم، والمرض، والجوع مع غلاء الطعام وفى الجهة المقابلة كان انهيار السلطة وتفككها، فقد تحوّل الأشقياء إلى فتوات وعصابات تقوم بدور الحكومات وتجمع إتاوات من الناس على أملاكهم وتأخذ نسبة من محاصيل أراضيهم مقابل حمايتها، ومع الوقت تحولت هذه الإتاوات إلى حق يجب سداده وإلا تم التحفظ على أملاك الفرد.

وكان «الخُط» واحدًا من هؤلاء الأشقياء، فكان الأدهى والأشقى والأكثر عنفًا وجرأة على ارتكاب جرائم القتل والسرقة وحتى التطاول على النظام والدخول فى صراعات مع البوليس. «فإن نشاط الخُط الإجرامى كان نوعًا من العنف المرتد، وكانت مصر أيامها تفيض بهذا العنف المرتد؛ ذلك أن الحياة كانت قاسية أبلغ القسوة، وتكاد تكون بلا ثمن وكان لا بد من مواجهتها (تلك الحياة) بهذا اللون من الاستهانة، ولعلها كانت رغبة دفينة فى القضاء على حياة بلا قيمة. بعض العنف ارتد إلى الذات، فدمر كثيرون أنفسهم فى الخمر والمخدرات والجنس، وبعضهم ارتد إلى نفس العناصر والشرائح المطحونة، التى تعانى من القهر والفقر والضياع، ووجه آخرون عنفهم إلى المحتل وعساكره وعملائه».

ولأنه كان مطاردًا ومطلوبًا فى ثأر، فهو لا يستطيع أن يعيش ككل الناس فوجد البلطجة والصعلكة مورد رزقه، فكان يقوم بتسريح الجواسيس وقتل الأشخاص مقابل تقاضى الأموال، لكن المغامرة دائمًا ما تغريهم بالدخول إلى عمق هذا العالم المظلم فيصطدمون مع الدولة، وكانت الدولة فى تلك الفترة فى سبات عميق أشبه بالموت لكن حتمًا سيأتى يوم لا بد فيه من الاستيقاظ ومطاردة أولاد الليل.

لقد بنى أولاد الليل شهرتهم على أنهم يدخلون معارك محددة، ضد أفراد محددين. إنهم لا يريدون من الفقراء شيئًا؛ فهم جميعًا أبناء ذلك القهر الاجتماعى المركَّز، وعنفهم يعد نوعًا من «العنف المرتد». لقد وُضعوا تحت ضغوط فوق ما تتحمله طاقتهم البشرية، وانطلق رصاصهم ليواجه لحظة، لو لم يواجهوها لانهاروا تمامًا كبشر.

وربما كان واحدًا من أهم الأسباب التى أبقت أولاد الليل ودعمت نفوذهم هو دعم الفقراء لهم وحماية الفقراء لهم من البوليس. فكان هذا الدعم أحيانًا ناتجًا عن الخوف منهم وأحيانًا ناتجًا عن خوف الفقراء على ما يمتلكون وعلى حياتهم فيرغبون فى سلطة تحميهم وتحمى أملاكهم وكان «أولاد الليل» السلطة الأقوى فى ظل غياب الدولة.

يطرح الكاتب صلاح عيسى مراحل تطور هذه الظاهرة وتصاعد أولاد الليل إلى القمة واستخدامهم جميع أشكال العنف حتى سقوطهم. ظاهرة تدمر نفسها مع مرور الزمن وتحمل بداخلها سياسات لبقائها وفنائها فى آن واحد. من خلال حكاية الخُط الذى دوخ ثلاث حكومات استطاع صلاح عيسى أن يلقى الضوء على شكل البلد فى هذه الفترة بما فيها من جوع وفقر.. ضعف حكومات.. انعدام الثقة فى البوليس فيُعد الكتاب سيرة سياسية واجتماعية لمصر فى تلك الفترة وليس الكتاب سيرة للخُط فقط.