رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأرملة تكتب الخطابات سرًا البعث فى حضن الموت!

لست من هواة حرق النص الأدبى بحكيه فى سبيل الاحتفاء به أو غير ذلك، اندفاعًا من الاعتقاد بأن التعليق على النصوص بمثابة الإضاءات حول جوهر النص لا تفاصيل متنه، أو كشعلة الفنار على ضفاف الميناء العريض. حريصًا على أن يحدث ذلك دون أن يفقد القارئ نشوة الفض الأولى للنص، ولا أن تتم الشوشرة على استقبال ما يقع فى قلبه من تأويلات وفق زمانه ومكانه وتراثه وذائقته. 

وقد أصبح إيجاد نص أدبى ذى جوهر أمرًا عزيزًا، وإن كانت والحق يقال يزداد عددها، ووتيرة السمين فى ازدهار تقاوم الغث. ولعل أحد مظاهر النشاط الأدبى الذى تحقق مع انصرام عام ٢٠٢٢ رغم التحديات التى تواجه صناعة الكتاب؛ الطبعات الجديدة الصادرة عن دار الشروق للنصوص الروائية للكاتب الروائى «طارق إمام» المغرم بالتجديد والتجريب. نصوص «الأرملة تكتب الخطابات سرًا»، و«ضريح أبى»، و«الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس»، و«هدوء القتلة». 

كصبغة تظهر آثارها فوق مشروع ممتد لا يخطئها طارق إمام، بل بدا إصراره عليها جليًا، انطوت نصوصه على العالم الأصغر والأكبر. إذ تبدأ رائحة الشواء فى مطبخ الشقة الصغير ثم تجده يسرح فى الهواء يملأ أنوف العالم والكون. بقول آخر؛ النص الروائى لدى طارق إمام متعدد الطبقات من حيث القراءة، دوائر متداخلة لا أقول تشبه الدوامة، لكن أتصورها تشبه شعار الألعاب الأوليمبية التى إن التحقت بإحدى دوائرها سيصلك النص وتصله، لذلك هى نصوص قابلة للقراءة المتعددة لأكثر من مرة. 

وأخص بالذكر، والحديث هنا عن رواية «الأرملة تكتب الخطابات سرًا»، حيث أعتبرها درسًا عظيمًا فى الكيف الذى يعى جيدًا عدم حاجته للكم طالما يستطيع تشييد صرح النص المقصود. بل ربما الكم كان سيفسده! أما عن تلك الأرملة «ملك» التى أخذنا طارق إمام معها فى طريقها حيث ذهبت تحابى على الموت فوجدت الحياة. لعلها الوحيدة التى عايشت البث التجريبى للبعث. بعث الكيان الذى تكتم على خجلاته دهرًا، ثم فاح عطره المرتبك الخجول فوق أوراق عذارى الحب الجسورات بدفقة الترياق الأول. حيث تكشفن لوعة الحب وزخارفه عبر حروف الأرملة التى إن دققت فى سيرتها لوجدتها تجاورهن العذرية وإن نهشتها التجاعيد. فالعذرية قلبية فى الأساس! 

إذا كان الجواب بيبان من عنوانه كما يقولون، فأقول إن روح المتن الحائرة التى تشك فى أن تبيد النشوة المسترقة طويلًا، قد بانت وانداحت من الاقتباس البديع فى صدر الرواية «لابن حزم الأندلسى» من كتابه «طوق الحمامة» حيث جاء: «وكان فى المنزلين موضع مطلع من أحدهما على الآخر، فكانت تقف له فى ذلك الموضع، فتُسلّم عليه ويدها ملفوفة فى قميصها، فخاطبها مستخبرًا عن ذلك، فأجابته: هذه علامة بينى وبينك، فإذا رأيت يدًا مكشوفة تشير نحوك بالسلام فليست يدى.. فلا تجاوب».

أيضًا فى هذه الرواية المروية بماء الشعر، ذات الجمل القصيرة المدببة المتجهة نحو المعنى فى دلال فنى، تداخل الحقيقى مع الخيال فى انسجام وحياكة من حرير تحيل الرغبة فى معرفة أيهما وقع بالفعل إلى الركب داخل سرب الحكاية كما ارتسمت. لتكتشف رويدًا رويدًا أن عنانك قد انطلق وقد انفك وثاق خيالك يغوص فى الأحداث مشرئبًا لتلوينها كما أشار عليه. 

أميل إلى الاعتقاد بأن خامة هذه الرواية تجعل القارئ شريكًا فى كتابتها!

الزمن فى الرواية غاطس فى صلب الأحداث سرًا وعلانية، من الماضى الذى يطل بخيال الذهب ومشاعر النحاس، مرورًا بنشوة بلوغ يناير التى تساوى الفرار من المقصلة، وصولًا إلى المستقبل الذى تنتظره الأرملة متجهزة بجهاز التراب. 

كما أظن أن هذه الرواية قد بُنيت على ساعدى الفضول الإنسانى. الفضول بطل رئيسى فى الحكاية. يستطيع الفضول كشف زعم الركون إلى الفناء. أهى رغبة حقيقية فى الزهد أم هى ضمن فعاليات قلة الحيلة، ومن ثم الهروب؟! الفضول المكتوم فى صدر الأرملة صاحبها فى رحلتها الجديدة بجوار قبرها؛ حتى أشاع دخانه فى سمائها، فما استطاعت رد ما يجذبها إلى الحياة بألوانها الصاخبة من أفعال وشخوص. لو طلبها الزهد بحق وكف الفضول أذاه عنها لهُيئ لها صد «رجاء». أينعم اتخذت الصمت وسيلة تنفى عنها الانخراط لكنه أيضًا يقبل تأويل الرضا. فى حالة الأرملة «ملك» كان الصمت بابًا للفضول تختبئ خلفه بعدما أدمنت الاختباء! من يستطيع صد الفضول إذ سنحت الفرصة لتعيد الحياة، أو لتعيش حيوات أخرى؟! 

التمازج بين وعثاء الروح ووعثاء المكان كان معبرًا للغاية عن وحدة الهم، بل سببيته، إذ أن ما تولد هذا الكبت السارح كالوباء فى البدن إلا تحت مظلة كبت كبيرة تطوق المدينة والطريق والشارع والأحياء والأموات! فضلًا عن ذكاء الحكى والتلميح بأن الإيمان قلبىّ فى الأصل فلا يطلع على مقداره أحد ولا يزكيه إلا غافل، حتى إن السكنة فى قلب العبرة ليست كافية لثقل إيمانك، كما أن مرور الوعظ على اللسان لن يحميك من النفاق.

بيد أن المدينة كانت فى جوف الأرملة، كما أن الأرملة فى جوف المدينة!