رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محيى الدين اللباد يكتب: عبدالسميع رسّامًا وزعيمًا شعبيًا!

محيى الدين اللباد
محيى الدين اللباد

- على طول سنوات مجده لم تنقطع رسوم عبدالسميع عن الغلاء (الذى صوره على هيئة غول ضخم)

- عندما ترك عبدالسميع «روزاليوسف» اختارت المجلة جورج البهجوری وصلاح جاهين ليملآ الفراغ الذى تركه 

فى الأسبوع الماضى، رحل عبدالسميع نجم الكاريكاتير المصرى الأول فى أواخر الأربعينيات والنصف الأول من الخمسينيات. فماذا يعرف عنه الشباب وقراء الكاريكاتير اليوم؟.

قبل صلاح جاهين وجورج البهجورى (١٩٥٥)، كان عبدالسميع يتصدر وحده غلاف «روزاليوسف» المطبوع بالأسود والأحمر، ويملأ أغلب صفحاتها، لم يكن مجرد رسام كاريكاتير ساخن وصاحب شعبية واسعة، بل كان أقرب إلى الزعيم الشعبى، المحرض، الذى ينتظر كلمته جمهور عريض، موظفى صغار، وطلاب، وأصحاب دكاكين، وسيدات بيوت، وقراء ريفيون.

سحبت فرشاه عبدالسميع المثقلة بالحبر خطوطًا سميكة طويلة، وشكلت منها تكوينات صريحة ومتماسكة وحديثة، نفخت فيها روحًا مصرية نفاذه، وسخرية حادة حريفة، عبأتها بسخط عارم، وبأفكار سياسية وطنية مضيئة ومحرضة، ويستطيع القارئ الذى يتابع رسوم هذا الرجل فى «روزاليوسف»، أن يقرأ تاريخ مصر الوطنى الحديث فى أكثر فتراته التهابًا (١٩٤٥- ١٩٥٥)، ويستطيع أن يتعرف- فى رسوم عبدالسميع- على الموقف الوطنى الشعبى من كل قضايا تلك السنوات الخصبة، وأيضًا على الاتجاهات، الموقف المضاد ورجاله.

لمع عبدالسميع وساهم فى قيادة الوعى المصرى خلال السنوات التى كانت بلادنا فيها تطلق صرخات المخاض : نهاية الحرب العالمية الثانية، ومعارك الحركة الوطنية المصرية فى مواجهة الاستعمار البريطانى والرجعية (١٩٤٦)، وحرب فلسطين وقضية الأسلحة الفاسدة، والطغيان الملكى والفساد السياسى، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وبطش الإقطاع بالفلاحين، وإلغاء معاهدة ١٩٣٦، ومعارك الفدائيين مع الإنجليز (١٩٥١)، وحريق القاهرة (١٩٥٢)، ثم ثورة يوليو، ومعركة الديمقراطية مع سلطة الضباط (١٩٥٤)، وتأميم قناة السويس والعدوان الثلاثى (١٩٥٦).

أبدع عبدالسميع، وشرح القضايا للناس، ولفت أنظارهم، وبين لهم الحقائق المخفية، وحرضهم، وعبأهم. وهاجمت فرشاته الثقيلة الاستعمار والصهيونية، والرجعية المحلية والعربية، والنفوذ الأمريكى الصاعد فى المنطقة. كما سخر من الملك بشخصه ووجه إليه أصابع الاتهام (وهو ما يزال متوجًا على عرشه). 

ومزق أوراق التوت التى تستر بها الزعماء السياسيون قبل الثورة، حتى وهم فى مقاعد رئاسة الحكومة، وحتى وهم زعماء أغلبية يتعصب لهم أكثر الشعب، ومعركته الحادة الطويلة ضد حزب الوفد وزعيمه النحاس باشا لا تنسى، ولقد كان القارئ العادى دائمًا «على الخط» مع عبدالسميع، فكان يتفهم جيدًا «السيم» الذى خاطبه به، لذلك كان القارئ العادى يعرف بسهولة أن الملك فاروق هو صاحب ذلك الحذاء الضخم، الذى يركل به كرامة الأمة بقسوة، بينما يتولى الزعيم رئيس الوزراء تقبيله، وتلميعه بالورنيش بانتظام. وعندما انفجرت معركة الديمقراطية (١٩٥٤)، رسم عبدالسميع بشجاعة سلسلة رائعة من الكاريكاتير فى صف الديمقراطية وضد انفراد الجيش بالسلطة. ونصح فيها الضباط الحكام، وحذرهم، وأوضح لهم المخاطر، وسخر من الشعارات الكاذبة والتبريرات المراوغة، وحرض الشعب على التمسك بحقوقه السياسية وبالديمقراطية.

وبعد انتهاء المعركة سريعًا لغير صالح الديمقراطية، واستيلاء المنافقين والمبررين والمحترفين على منابر الرأى والتوجيه، أطلق عبدالسميع سلسلته الشهيرة «فى حديقة الحيوان» (وكان الضابط اللواء النجومى قد تولى إدارتها). وخلق عبدالسميع (على طريقة التراث) عالمًا رمزيًا من الحيوانات الذين يتطوعون دائمًا بنفاق الأسد صاحب السلطة المطلقة، والضابط مدير الحديقة! 

وعند نشر سلسلة «الشيخ متلوف»، أثار ظهور ذلك المعمم العابث جدلًا شديدًا، واحتجاجات عديدة. بينما استمتع بها القراء، وسخروا وضحكوا كثيرًا من تلك الشخصية الطريفة حتى توقف ظهورها.

وعلى طول سنوات مجده، لم تنقطع رسوم عبدالسميع عن الغلاء (الذى صوره على هيئة غول ضخم)، وعن سوء أحوال الموظفين وصعوبة المعيشة، وعن سائر هموم الطبقات الشعبية التى حاز إعجابها واهتمامها وتعاطفها.

بعد هزيمة الديمقراطية، وبعد أن استقر الحكم فى أيدى ضباط «مجلس الثورة» وبعد أن احتكرت السلطة وحدها صفة «الثورية»: ضاقت فرص النقد السياسى، وتقلصت المساحة المتاحة للتعبير المستقل (حتى أمام من حضروا ومهدوا لقيام ثورة ١٩٥٢). وحرم الكاريكاتير- مثل سائر أشكال التعبير الأخرى- من حق العراك والجرأة والجموع والصدام، كما لو كانت كل المعارك قد انتهت.

وبعد معركة الديمقراطية بعام واحد (١٩٥٥) استطاعت دار «أخبار اليوم» أن تغرى الرسام صاحب الشعبية الواسعة بالانتقال إليها. فترك عبدالسميع (روزاليوسف)، ليصدر ملحقًا ملونًا للكاريكاتير برسمه بمفرده، ويوزع مع «أخبار اليوم» كل سبت. وقدم فيه الكاريكاتير السياسى، والاجتماعى الساخر، ورسوم الشخصيات والمتابعات الكاريكاتيرية للسياسة الدولية. كما نشر فى الملحق أيضًا قصصًا بالرسوم المتتابعة (ستربس)، قدم فيها ثنائى الجمل «هبيل» والثعلب «مکار» (نقلهما إلى مجلة سمير ) فى ١٩٦٨. ولم يطل بقاء عبدالسميع فى «أخبار اليوم»، فتركها ليعمل مع الصاغ صلاح سالم فى جريدة «الشعب» حتى إغلاقها، ثم انتقل معه إلى جريدة «الجمهورية»، وظل بها حتى ١٩٦٤، حين أجبر على تركها فى «مذبحة الصحفيين» الشهيرة، التى نقل فيها عشرات من كبار كتاب «الجمهورية» إلى مؤسسات القطاع العام للعمل كموظفين. وكان نصيب عبدالسميع مؤسسسة استصلاح الأراضى!. 

وعند إزالة آثار المذبحة، ذهب عبدالسميع إلى «دار الهلال»، وظل بها حتى وصل إلى سن التقاعد منذ ٩ سنوات.

عندما ترك عبدالسميع «روزاليوسف»، اختارت المجلة من الصفوف الثانية طالبًا فى كلية الفنون الجميلة اسمه جورج البهجوری، ورسامًا عصاميًا وزجالًا اسمه صلاح جاهين، ودفعت بهما مرة واحدة إلى غلاف المجلة ليملآ الفراغ الذى تركه الفنان القادر الذى ذهب.

وبعد عام واحد أصدرت الدار مجلة جديدة هى «صباح الخير»، وظهرت على صفحاتها أسماء جديدة لشبان كان أغلبهم بعد طلبة فى مراسم كلية الفنون الجميلة.

ظهر إلى جوار جورج وجاهين: رجائی وبهجت وحجازی. ظهروا بأفكار ومواضيع جديدة، وبرسوم لم يكن أسلوبها مألوفًا: وكان بعضها مرسومًا بريشات رفيعة السن أحيانًا، وبأقلام المرسم الصناعى الدقيقة (رابيدوجراف) التى كانت حديثة الاختراع. كانت رسومهم تجمع بين إدراك الروح المحلية وبين الثقافة الفنية الأجنبية المعاصرة. وكان «الكاريكاتير السياسى- الاجتماعى» هو همهم الأول أكثر من «الكاريكاتير السياسى».

ومع أن وعيهم السياسى- الاجتماعى كان عميقًا، إلا أنهم لجأوا إلى إسقاطه على الواقع اليومى للناس، بدلًا من التحدث فى السياسة بمفرداتها ورموزها المباشرة، وكانت تلك هى المدرسة الجديدة التى ظهرت فى «صباح الخير».

لفتت المدرسة الجديدة نظر عبدالسميع، وجعلته ينشغل بهؤلاء الرسامين الشباب، ويتابع أعمالهم باهتمام، وبشبابه الدائم قرر هو الآخر أن يتجدد، وأن يدخل التحدى. فتخلى عن فرشاته الجسورة القوية، وخلّص ذاكرته من كل ما كان باقيًا فيها من آثار أستاذه «صاروخان». وذهب فاشترى ريشة رقيقة السن، وقلم رسم رابيدوجراف. وزاد فاشتری الأدوات اللازمة لتصوير اللوحات الزيتية الذى جربه لأول مرة بعد أن جاوز الأربعين. 

وبدأ عبدالسميع يهتم فى رسومه بالجانب الجرافيكى والزخرفى، ولجأ إلى الاختزال والتبسيط وفقًا لمدارس الكاريكاتير والرسـوم المتحركة الغربية الأكثر حداثة، كما أنه جدد فى طريقته فى توقيع اسمه على الرسوم.

كان عبدالسميع- مثل غيره ن الكتاب والفنانين الوطنيين- متفقًا مع سلطة ١٩٥٢ فى كثير من مواقفها الاجتماعية والسياسية والمحلية والعربية والدولية، لكن الانتقاد والاختلاف فى الرأى والهزار معها كان محظورًا بالطبع!. لذلك لم يكن الهامش الضيق المتروك للنقد السياسى الساخر كافيًا لعملاق نقد وهجاء وسخرية وتحريض مثله، ولم تكن المساحة اليومية المتاحة فى جريدة يومية كافية لحوت كاريكاتير هائل كعبدالسميع. ومع أنه استمر يرسم فى «الشعب» و«الجمهورية» و«المصور» مؤرخًا للسياسة المصرية فى حدود المتاح، إلا أنه أصبح لديه- غصبًا عنه- وقت طويل وطاقة فائضة.

فشغل عبدالسميع وقته، ووظف طاقته فى رسم اللوحات الزيتية وكتابة القصص القصيرة والمسرحيات. وصدر لعبدالسميع أكثر من كتاب لأعماله المكتوبة، بينما لم يصدر سوى کتاب واحد لرسومه، هو «أبيض وأسود» الذى أصدرته «روزاليوسف» منذ ٢٠ عامًا.

وإذا كنا غير قادرين، وغير مقتنعين بعد بإنشاء المتاحف والمكتبات التى تحفظ وتعرض الكاريكاتير والرسم المطبوع وفنون الكتاب، وإذا كنا لا نزال نترك الأعمال الأصلية لكبار رسامينا ومصممينا تتبدد وتتمزق فى صالات المطابع وورش الزنكوغراف، بلا تجميع ولا حفظ، وإذا كنا جميعًا قد تفرجنا صامتين على لوحات عبدالسميع الأصلية لأغلفة «روزاليوسف» (والواحدة منها فى مقاس فوطة الوجه) وهى تتبدد وتختفى بالتدريج من على جدران ردهات ومكاتب «روزاليوسف» عقب كل حملة لدهان المكاتب، إذا كنا كذلك فلا أقل من أن نطلب أن تصدر الكتب التى تضم رسوم هذا الفنان «الفتوة» بسرعة، قبل أن نفاجأ- أيضًا- باختفاء النسخ القليلة الباقية من أعداد «روزاليوسف» القديمة، ضمن الهجمة الشاملة لتدمير ذاكرتنا، ولتشتيت التراكم الذى ما نكاد أن نرصه حتى يتبعثر، فنظل دائمًا- عندما نبدأ- نبدأ من فراغ.

من كتاب نظر