رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«رسم العدم».. رحلة ليوناردو فيبوناتشى مع الصفر متحديًا الواقع

رسم العدم»
رسم العدم»

دائمًا ما يعيش الإنسان فى حالة من التيه الذاتى، تيه يعيش داخله ويملأ روحه فقط، يظل حبيس نفسه وروحه معًا، يكبر ويتفاقم مع الوقت إلى ما لا نهاية. وهذا التيه يتمثل فى صورتين هما: رغبة الإنسان فى بذل كل ما يملك لتحقيق هدف ما، هدف أكثر فضيلة وإنسانية أملًا فى الحصول على مجد أو علم أو حكمة. ورغبة الإنسان فى الاحتفاظ بكل ما يملك وعيش حياة عادية مرفهة مثل بقية البشر خوفًا من المغامرة وضياع كل ما يملك. لكن فى كلتا الحالتين يظل الإنسان حبيس الندم. ندم عدم المغامرة وخوض التحدى والوصول إلى الإنجاز المراد تحقيقه. وأيضًا إذا غامر بكل ما يملك فى سبيل هدفه فمن الممكن أن يظل حبيس ندم المغامرة وضياع كل شىء كان يمتلكه «فنيل المراد لا يعنى انقضاء التيه».

فى رواية «رسم العدم» الصادرة عن «منشورات تكوين»، يتناول الكاتب «أشرف فقيه» حياة «ليوناردو فيبوناتشى» وهو عالم الرياضيات الإيطالى الشهير الذى عاش فى القرن الثالث عشر. حيث يدعى ليوناردو بيزانو نسبه إلى موطنه بيزا لكنه لم يعش طفولته فى بيزا حيث ارتحل مع والده إلى المغرب العربى وتحديدًا بجاية وهناك تعرف على الثقافة العربية. ارتحل والده إلى التجارة لكن الفتى ليوناردو عزف عن أمر قومه وتجارتهم واختار أن يجلس إلى العلماء والنساخين وينهل العلم منهم. فلم ينخدع بالمظهر والبزخ والترف لكنه اهتم بالجوهر، اهتم بباطن المادة وجوهرها وما وراءها ليصل إلى مفتاحها. درس ليوناردو اللاتينية واليونانية والأشعار القديمة وتعلم العد والحساب. فكان ليوناردو الرومى مغرمًا بالحساب على عكس قومه الذين لم يبرع أى منهم فى ذلك. يحاول فهم أصل ما كتبه إقليدس وبطليموس والخوارزمى وغيرهم من العلماء العرب والمسلمين.

يتعرف فيبوناتشى على الأرقام العربية ويقع فى غرامها كمتصوف يقع فى غرام الخلوة أو العشق الإلهى. فيجد الأرقام العربية أكثر سلاسة وسهولة وعبقرية من الرموز اللاتينية خاصة العدد صفر الذى لم يتواجد فى اللاتينية فهو يرى أن الصفر يعبر عن العدم والمطلق. فالعدم والمطلق والصفر لها نفس المعنى فى آن واحد. يترجم الكتب العربية إلى اللاتينية ليتعلم منها الغرب. يرتحل لطلب العلم فى كثير من الدول العربية منها مصر والعراق والأندلس ثم يعود إلى موطنه بيزا. تركت هذه الرحلات فى داخله العديد من الذكريات الذى دمع بينها أحاسيس المغترب الذى يشعر أنه منبوذ من الجميع فعندما كان وسط العرب، كان منبوذًا لكونه غربيًا روميًا. وعندما عاد إلى موطنه بيزا، كان منبوذًا ومضطهدًا لعلمه الذى تعلمه من الأندلسيين والعرب. فهو فى أعين الكنيسة زنديق كافر.

يعيش ليوناردو فيبوناتشى بين عالمين يكرهان بعضهما وهما العالم الإسلامى وهو الشرق، والعالم الغربى الذى تسيطر عليه الكنيسة، فكريًا وثقافيًا وسياسيًًا، وتحتل الجزء الأكبر من عقول الناس ووجدانهم. حيث يعطى رجل الدين لنفسه سلطة الوسيط بين العبد والرب ورضاه من رضا الرب. فقد انتشر الظلم والتخلف من جانب الكنيسة طوال فترة العصور الوسطى فى أوروبا وقامت الكنيسة بمهاجمة العلماء والفلاسفة والمفكرين بتهمة الجهل والتخلف ووصل بهم الأمر إلى إعدام من يخالف رأى العوام ورجال الدين. يعيش العالم فى ظروف سياسية عصيبة وصراعات بين الشرق والغرب، فريدريك الثانى يريد احتلال بيت المقدس بعد تحريرها من قِبل صلاح الدين، الكنيسة تسيطر على الوضع العام وأفكارها مستبدة بعقول الشعوب الأوروبية، صراعات بين فريدريك الثانى والبابا. كل هذه الأحداث لم تسمح لليوناردو فيبوناتشى بالحياة المستقرة السليمة.

يظل ليوناردو مخيبًا لآمال أسرته ووطنه حتى يضمه الإمبراطور فريدريك الثانى إلى حاشيته لينتفع بعلمه لكنه يظل مقيدًا بسلطة الإمبراطور دائمًا، حيث يأخذه فى رحلات صيده وحملته التى ذهب بها لاحتلال بيت المقدس فتجد ليوناردو يشعر بالتيه الذاتى دائمًا رغم أنه نال مراده من العلم.

الرواية لا تمشى فى خط زمنى مستقيم، لكنها تنقسم إلى فصول مؤرخة، حيث تبدأ الرواية بمشهد لفيبوناتشى وهو يدافع عن نفسه أمام رهبان الكنيسة ويقدم البراهين والدلائل لينقذ رأسه. وتعد اللغة بطلة أساسية من ضمن أبطال الرواية، فقد تمكن الكاتب أشرف فقيه من زمام اللغة فجاءت دقيقة وسلسة ومناسبة للمتن والفترة التى تدور فيها الرواية. فالرواية بعضها مبنى على أحداث حقيقية والآخر مبنى على أحداث متخيلة من وحى خيال الكاتب ليبرز الجانب الإنسانى والمعاناة والصعوبات التى عانت منها هذه الشخصية التاريخية المهمة.