رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«قارئ الجثث».. رحلة ممتعة مع تاريخ الجريمة فى مصر وإنجلترا

قارئ الجثث
قارئ الجثث

الكاتب «مصطفى عبيد» ترجم الكتاب بروح أديب ومبدع فأضاف الكثير من المتعة لكتاب ممتع أصلًا 

حالة من المتعة الثلاثية تنتابك وأنت تقرأ كتاب «قارئ الجثث» للطبيب الشرعى البريطانى «سيدنى سميث» وترجمة الكاتب المخضرم مصطفى عبيد.. وأول أسباب هذه المتعة أن المترجم نفسه أديب وكاتب هام، أضفى روحًا إبداعية على ترجمته وحوّل الترجمة لسرد موازٍ فأضاف للكتاب متعة فوق متعة وأضاف له ولم ينتقص منه بكل تأكيد.. وثانى أسباب المتعة أن المؤلف نفسه يبدو شخصية استثنائية فهو طبيب شرعى هام ومتمكن لكنه- كما يبدو من حكاياته- يحمل روح محقق جنائى متمكن ينافس «شرلوك هولمز» و«كولمبو» وغيرهما من المحققين الجنائيين الذين شغف الناس بهم حبًا.. أما مصدر المتعة الثالث فهو أن الكتاب، إلى جانب الغوص فى عالم الجريمة فى مصر حيث خدم «سيدنى سميث» فى سنوات الاحتلال البريطانى، وفى إنجلترا حيث عاد ليكمل حياته.. إلى جانب عالم الجريمة يقدم سميث طرفًا من الحياة السياسية فى مصر من خلال أحداث ثورة ١٩١٩ التى حقق فيها وكتب عنها تقاريره.. حيث كانت سنوات الثورة- وعلى خلاف ما يظن الكثيرون- حافلة بحوادث عنف واغتيالات واتهامات متبادلة بين الحكومة والثوار بالبدء بالعنف والتورط فيه.. فضلًا عن ذلك لا بد أن ترتفع معدلات «الأدرينالين» لديك وأن تقرأ أن مؤلف الكتاب نفسه كان الطبيب الشرعى الذى عاين جثث الضحايا الأربعة عشرة فى قضية «ريا وسكينة» وإن كانت مهارته هذه المرة لم تسهم فى حل القضية التى أدلت «بديعة» ابنة «ريا» بكل تفاصيلها للمحقق مقابل وجبة طعام ساخنة!

نحن إذن إزاء كتاب تاريخى مهم.. سعى مترجمه «مصطفى عبيد» للحصول على نسخة نادرة منه من خارج مصر بعد أن قرأ عنه فى كتاب هام آخر تصدى لترجمته وهو «مذكرات حكمدار القاهرة توماس راسل» والذى كان بدوره إضافة هامة للغاية للمكتبة التاريخية العربية خاصة فى جانب التاريخ الاجتماعى والجنائى لمصر، والذى كثيرًا ما يغيب عن كتابات المؤرخين الرسميين وأساتذة علم التاريخ. 

نعرف من مقدمة مصطفى عبيد لعمله أن «سيدنى سميث» هو أحد مؤسسى مصلحة الطب الشرعى فى مصر فى ١٩٢٧.. كما أنه شارك زميلًا مصريًا له فى تأليف أول كتاب عن الطب الشرعى كعلم.. ونفهم من السياق أنه قضى فى مصر أحد عشر عامًا من العمل المتواصل حقق فيها عشرات من جرائم القتل التى تحدث عنها فى كتابه الممتع وشرح للقارئ فيها ببساطة كيف يمكن أن يبنى تخيلًا كاملًا للجريمة وضحيتها والجانى فيها من مجرد معاينة ثلاث عظام متبقية من جثة أو قطعة ملابس ملتصقة بأشلاء جثة أخرى.. وإلى جانب هذا الشق الفنى المثير فهناك الشق السياسى الذى يثبت نزاهة الرجل واستقامته الأخلاقية فهو لا يتردد فى أكثر من حادثة يتم فيها تبادل الاتهامات بإطلاق النار بين الثوار والجيش البريطانى فى إثبات مسئولية الجيش البريطانى.. من خلال تحديد نوعية الرصاص المستخدم.. كما يثبت فى مذكراته أنه صارح رؤساءه برأيه حول ضرورة منح الاستقلال لمصر على نمط أيرلندا رغم أن ذلك لم يكن الرأى المرضى لسلطة الاحتلال البريطانى فى مصر.. والحقيقة أننى كنت أظن أن رغبتى فى مواصلة القراءة ستفتر بعد انتهاء الفصول التى يتحدث فيها «سميث» عن عمله فى مصر.. ولكن الحقيقة أن الفصول التى تحدث فيها عن عودته لبريطانيا وعمله فى حل غموض بعض الجرائم هناك.. هذه الفصول لم تكن أقل تشويقًا.. بل لعلها أكثر إثارة وأهمية حيث تبدو وكأنها أشعة مقطعية لحال المجتمع البريطانى فى ثلاثينيات القرن الماضى.. تكشف لنا صورة أخرى غير الصورة التى تختصر لنا بريطانيا فى أخبار العائلة المالكة ولوردات الأرستقراطية البريطانية.. حيث يروى لنا سميث قصة عامل فى مصنع قتل طفليه لأنه لا يريد أن يتحمل نفقات إعالتهما.. وهى حادثة لها دلالة اقتصادية وسياسية بكل تأكيد.. كما يروى قصة غامضة لانتحار ممرضة بريطانية جراء إحساسها بالذنب كونها كانت تساكن حبيبًا لها دون زواج! وهو ما يعطينا انطباعًا عن التطور الاجتماعى للمجتمع البريطانى فى تلك المرحلة.. وهو نفس المعنى الذى يصلك عندما تقرأ عن طبيب عيون من أصل هندى قتل زوجته بسبب الغيرة.. وهو دافع يظن معظمنا أنه مقصور على المجتمعات الشرقية.. ولا يقل الفصل الأخير والمسمى بـ«الحرب والرصاص» والذى يروى فيه «سميث» تفاصيل لحوادث عسكرية عاصرها وأدلى فيها برأيه كطبيب شرعى، ومن أطرفها أنه اكتشف أن الرصاص الذى تستخدمه القوات البريطانية فى مصر مصنوع من لب الورق وليس من الألومنيوم كما ينبغى وأن ذلك الغش التجارى لا يفقده القدرة على القتل.. الكتاب ممتع من حيث السرد والأسلوب ومفيد من حيث المادة والتأريخ.. وهو نموذج لكتب نادرة فى ساحة النشر المصرى التى باتت تمتلئ بما هو متشابه ومستنسخ بأكثر مما هو نادر وفريد.. لذلك يستحق الكتاب والمترجم التحية والدعوة لمزيد من الأعمال المشابهة.