رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«مذكرات فتاة».. تشريح الذات الإنسانيةبكل مخاوفها ورغباتها

 آنى إرنو
آنى إرنو

 

هناك أوقات نخجل فيها من مواجهة شىء ارتكبناه فى ماضينا، نغلق عليه جميع الأبواب التى قد تدفعه للحياة خارج ذاكرتنا وهروبه إلى الواقع خشية من مجتمعاتنا التى ربما تقابل هذا الشىء بردّ فعل صادم ومهلك لنا ولا نستطيع الحياة بعدها بطريقة سوية أو طبيعية. لا نجرؤ على البوح به لأحد، ولا نمتلك أى جرأة على التفكير فى البوح به، فقط داخل أنفسنا نفكر وبداخلها يُولد خوف دائم وهاجس يرافقنا إلى الأبد حتى نتمكن من مواجهة أنفسنا بإطلاقه والاعتراف بما ارتكبناه.

وقد كتبت آنى إرنو يومًا: «ليست وظيفة الكتابة أو نتاجها طمس جرح أو علاجه، وإنما إعطاؤه معنى وقيمة، وجعله فى النهاية لا يُنسى»، وهذا ما تفعله آنى إرنو فى كتاباتها بالفعل، إذ تركز أكثر على جروحها بإعطائها معنى وقيمة عبر الكتابة، فتقوم بتشريح الذات بكل جوارحها وهواجسها.

فى كتاب «مذكرات فتاة»، الصادر عن دار «الجمل»، من ترجمة مبارك مرابط، تقوم الكاتبة آنى إرنو باستعادة ذكريات حدثت لها خلال صيف عام ١٩٥٨، فكانت مهمتها تفكيك الفتاة التى كانتها فى صيف ١٩٥٨.. فتاة فى عمر الثامنة عشرة تدرس فى مدرسة داخلية تشرف عليها الراهبات، كبرت فى عائلة من الطبقة العاملة والكادحة فى فرنسا حيث كانت حياتها تجرى بين المحل الصغير لوالديها وبين المدرسة وفى العُطل تقوم بالقراءة. 

قائمة ما تجهله اجتماعيًا تبدو لا نهائية، فهى لا تعرف كيف تستعمل الهاتف فليست لها دراية بما يُمارس فى وسط آخر غير الذى تنتمى إليه. فكان هذا العالم بالنسبة لهذه الفتاة تحديدًا مجهولًا بكل غموضه وقبحه وشره، فهى التى لم تعرف شيئًا عن الجنس الآخر لأن والدتها كانت تحرص دائمًا على إبعادها عن الذكور كأنهم الشيطان، هى التى لا تعرف كيف تتحدث إليهم وتتساءل كيف تتحدث الفتيات الأخريات إلى هؤلاء الذكور، هى التى كانت مهتمة دائمًا بالتعلم فكانت تقرأ جان بول سارتر وألبير كامو وسيمون دى بوفوار وغيرهم من الكتّاب، فكانت تعرف العالم من خلال الكتب التى تقرأها فقط، ومن خلال المجلات النسائية. 

«كانت فى منطقة متذبذبة بين الإيمان واللا إيمان، متحررة شيئًا فشيئًا من الأسطورة لكنها متمسكة بالصلاة، بالطقوس الدينية».

أثناء احتلال فرنسا للجزائر كانت الفتيات والراهبات يذهبن للعمل ورعاية الأطفال فى المخيمات، فتختلط الفتيات بالفتيان، ومع أول أيام الحياة فى المخيم وفى ظل جهلها بالجنس الآخر وجهلها بأمور شتى يظل الجنس شيئًا مجهولًا بالنسبة لها، فتدخل فى علاقة مع كبير مدربين فى المخيم، علاقة مدفوعة بسحر البدايات والرغبة فى التجربة ومعرفة المجهول فظل دافعها هو المتعة حتى تحول إلى حب وكان المصير هو الهجران من الطرف الآخر، حيث تراه يدير لها ظهرَهُ أمام الجميع، هذا الرجل الذى تعرت أمامه لأول مرة فى حياتها، هذا الرجل الذى تمتع بها طيلة الليل فهى الآن تتخبط فى قلق الفقدان، فى غياب المبرر لهذا الهجران، الهجران المصحوب بالخيانة والكراهية بعدما كان هذا الشخص كبير المدربين بالنسبة لها هو الدافع الوحيد لحياتها.

فدائمًا ما تدفعنا خيانة وهجران الطرف الآخر لنا إلى الإحساس بالنقص، الإحساس بأن هناك شخصًا أفضل وأكثر تأثيرًا منَّا لكنها ظلت تبحث عنه وتتمسك بحبه دون أى احترام لذاتها وأى اعتبار لكرامتها، وكل هذا مصحوب باستياء واستهزاء من الآخرين فى المخيم، فتحول هذا الحب إلى عار ظل يلازمها، هذه العلاقة التى تركت جرحًا بها طوال حياتها وتركت أثرًا لم تستطع محوه حتى الآن وبعد خمسين عامًا عندما تكتب عن هذه الفتاة التى كانتها، وبعد أن نسيها الجميع وصار التعرف عليهم أمرًا صعبًا.

تقول الكاتبة آنى إرنو: «وددت لو أنساها أنا أيضًا.. تلك الفتاة.. أن أنساها حقًا.. أى ألا تعاودنى أبدًا الرغبة فى الكتابة عنها.. ألا أفكر أبدًا فى أنه علىّ الكتابة عنها.. عن رغباتها.. عن جنونها.. عن حماقاتها.. عن كبريائها.. عن جوعها، ودم حيضها المتوقف.. لم أفلح أبدًا فى هذا»، فكان دائمًا هذا النص، هو النص المؤجل للكاتبة آنى إرنو، هذه الفتاة، فتاة صيف ١٩٥٨، هى ما تود الحديث عنه فهى تواجه نفسها القديمة، الفتاة التى كانتها وتتحدى ذاكرتها.

فتاة تربت بعيدًا عن أهلها، شعرت بالذنب لأنها عبر التعلم والكتابة هربت من أصولها الاجتماعية وابتعدت عن أصولها البسيطة، فبسبب الاختلافات الاجتماعية والطبقية الموجودة فى فرنسا فى الماضى والحاضر، لا يمكن لكثير من أفراد الطبقة العاملة والطبقة المتوسطة أن يطمحوا فى أكثر من أن يعيشوا فى نفس المستوى الذى عاش فيه أهلهم. فالإرادة الحرة هى ما كانت تطمح إليه آنى إرنو دائمًا.

«مذكرات فتاة»، نص له فرادة فى أعمال الكاتبة آنى إرنو، فقد اهتمت بتفكيك الفتاة التى كانتها فى شبابها ومواجهة وتحدى ذاكرتها دون رغبة منها فى تعاطف القارئ معها، لكن بشكل ما سيتأثر القارئ بهذه المذكرات فسيجد أن هناك الكثير من المشاعر والجروح التى تتشابه مع جروحه ومشاعره.

تقول الكاتبة: «وأنا أتقدمُ فى مسار الكتابة، أخذتْ تلك السهولةُ التى تصورت بها الحكاية فى ذاكرتى تتلاشى، فالذهاب إلى أقصى ما جرى فى ١٩٥٨ يعنى القبول بتفتيت كل التأويلات المتراكمة عبر السنين. لا يجب التخفيف من قسوة أى شىء. لست هنا بصدد بناء شخصية خيالية، أنا بصدد تفكيك الفتاة التى كنتُ». فقد نجحت آنى إرنو بتشريح الذات الإنسانية بكل جوارحها ومخاوفها ورغباتها، ليكتشف القارئ أن «الكتابة الصادقة والمبدعة تحول الحوادث، المؤلمة والمبتذلة على حد سواء، إلى لوحات تفور حياةً».